يسوع الإنسان
"لا تظنوا إنّى جئت لانقض النّاموس أو الأنبياء . ما جئت لأنقض بل لأكمِّل". (متى 5 : 17)
هذا ما ورد في إنجيل متى على لسان يسوع، فما هو ذلك النقص أو العِوَج الذي رآه يسوع محتاجا إلى التقويم والإصلاح في الشريعة اليهودية؟
من المعلوم أن تطبيق الشريعة اليهودية بحذافيرها يقتضي الالتزام بست مائة وعشر وثلاث من الفرائض وليس الفرائض (أو الوصايا كما يسميها البعض) العشر المشهورة فقط، كما يعتقد البعض.
ولعل من أهم تلك الفرائض تلك التي تتعلق بيوم السبت ومنها الحفاظ على الراحة المطلقة في ذلك اليوم حيث تعطي الشريعة اليهودية الحق في الراحة التامة للعبد والأمة, والأعجب من ذلك أنها تفرض منح الراحة للحيوان أيضا فحتى البقر والحمير يجب أن تتوفر لها (ولغيرها من الحيوانات) الراحة التامة يوم السبت، وهذا تشريع في غاية الرقي، ولو نظرنا في الشرائع الحديثة لما رأينا شبيها بذلك وهذا أمر يشهد لمشرعه في ذلك الوقت بسمو التفكير حيث ساوى بين العبد والسيد وبين الحيوان والإنسان، حتى أن بعض فقهاء اليهود حرم بيع حيوانات العمل التي يملكها اليهودي لغير اليهود كي لا يكون ذلك سببا في استعمالها يوم السبت.
هذا هو الجانب المستحب في فرائض السبت التي جاءت لتحرر الإنسان من أسوأ الخصال ألا وهو الطمع والجري وراء جني المال وما يجره من شرور، غير أن تفسير الفقهاء اليهود حرم أعمالا لا تمت لغاية المشرع بصلة، ومنها على سبيل المثال، إشعال النار في يوم السبت، وهذا يذكرني بزميلي وجاري، پيرتس، في مساكن الطلاب في الجامعة الذي كان يدق باب غرفتي ليطلب مني إشعال موقد الغاز إذا ما حل يوم السبت لكي يطهو طعامه.
لذلك غضب أحبار اليهود على يسوع واعتبروه ناقضا للشريعة عندما شفى المشلول وقال له:
"قم احمل سريرك وامش (يوحنا 5)"
وكان جوابه المفحم أن الله خلق السبت للإنسان ولم يخلق الإنسان للسبت أي أن قدسية حقوق الإنسان هي الغاية من التشريع وأن عمل الخير يجوز في كل حين وكل أوان.
المآكل المحرمة هي أيضا من الأركان الكبرى في الشرع اليهودي والمحظورات والمحاذير فيها كثيرة لا مجال لسردها، غير أن يسوع نقضها جميعا بقوله المفحم:
ليس ما يدخل الفم ينجس الإنسان، بل ما يخرج من الفم هذا ينجس الإنسان (متى 15)
بعبارة أخرى: لا نجاسة في المآكل، النجاسة في النوايا السيئة، والقول المؤذي، والأعمال الضارة، ليس العرض هو المهم إنما الجوهر!
نشأ يسوع في فترة كثر فيها الشقاق والخلافات العقائدية، فالعداوة كانت مستحكمة بين الصدوقيين والفريسيين والإسيين، الفئات الثلاث الكبرى بين اليهود في ذلك العهد. كان الصدوقيون من النبلاء الأغنياء وكانوا يشرفون على كل ما يختص بالهيكل، ولذا كانوا يحتكرون المناصب الدينية العليا ومنها منصب الكاهن الأكبر، كما كانوا يتعاونون مع الحكام اليهود الموالين لروما، التي كانت تسيطر على حوض المتوسط برمته في ذلك الوقت، كما عرف عنهم تمسكهم بتطبيق الشرع التوراتي بحذافيره، لا يؤمنون بالملائكة ولا بالأنبياء. أما الفريسيين أي المنشقين كما تعني الكلمة بالعبرية أو المفسرين كما يزعم رأي آخر، فقد كانوا يعتقدون أن بالإضافة إلى التوراة المكتوبة توجد توراة شفهية تناقلتها الألسن على مر العصور، ولذا اعتمدوا تفسير النصوص التوراتية ومنهم خرجت أهم مدرستين فقهيتين وهما مدرسة آل هيليل المتساهلة ومدرسة آل شماي المتشددة, وكلمة "رابي" كانت من استحداثاتهم وتعني المتفقه في الشرع أو المتفوق في المعرفة, والمدارس الفقهية التي سادت في ما بعد حتى أيامنا هذه سارت على نهجهم. أما الإسيين فقد كانوا من الذين آثروا السلامة وعدم الخوض في صراعات ذلك الوقت فاعتزلوا الناس وأقاموا في أماكن خاصة بهم، كان بعضها بقرب البحر الميت وقد أثبتت المخطوطات التي وجدت في مغاور تلك المنطقة وجودهم هناك في تلك الفترة، وقد ذكر المؤرخ اليوناني ديون أنهم يعيشون سعداء لا يتخذون زوجات بل يربون أبناء غيرهم .
في ذلك الجو الذي انقسم اليهود فيه على أنفسهم في المذهب وفي السياسة ما بين مناهض للرومان وبين ممالئ أو واقف على الحياد، والرومان يبطشون في المعارضين ويدعمون المؤيدين، جاء يسوع بتعاليمه التي تدعو إلى التسامح والمحبة لأنها المخرج الوحيد من ذلك الأتون المستعر من البغضاء والشقاق، ومن هنا جاءت خطبته الشهيرة على التلة المشرفة على بحيرة طبريا، والمعروفة باسم "العظة على الجبل" التي لخص فيها تعاليمه التي تصل بالإنسان إلى الكمال وبالمجتمع إلى العدل والمساواة، وقد جاء فيها:
"طوبى لصانعى السلام لأنهم أبناء الله يدعون
أحبوا أعداءكم، باركوا لاعنيكم، أحسنوا إلى مبغضيكم، وصلوا لأجل الذين يسيئون إليكم ..."
تلك العظة التي حازت على إعجاب كبار المفكرين والفلاسفة والكتاب من المسيحيين وغير المسيحيين، على مر العصور، ومنهم على سبيل المثال لا الحصر تولستوي وغاندي، وجبران خليل جبران الذي وضع كتابين من وحي سيرة يسوع وتعاليمه، "يسوع ابن الإنسان" و "النبي"، والشاعر المعروف أحمد شوقي الذي قال في قصيدته الهمزية التي ألقاها في المؤتمر الشرقي الدولي في جنيف في ايلول 1894، وكان منتدبا من قبل الحكومة المصرية إليه:
ولد الرفق يوم مولد عيسى والمروءات والهدى والحياء
لا وعيد لا صولة لا انتقام لا حسام لا غزوة لا دماء
أما المهاتما غاندي الذي قاوم الاحتلال الإنچليزي للهند دون اللجوء للعنف فقد روي عنه أنه قال:
"أحببت المسيح وكرهت المسيحيين"، وكان يقصد هؤلاء الذين يزعمون أنهم من أتباع المسيح ولكن أعمالهم على النقيض من ذلك وهم على الغالب السواد الأعظم.
يروى أن أحد رجال الدين المسيحي في أمريكا أهدى كتاب الأناجيل لرجل من سكان البلاد الأصليين (الذين يطلق عليهم بالخطأ "الهنود الحمر") ليقرأه، وبعد مدة التقى به فسأله عن رأيه في الكتاب فكان جوابه:
"لا شك أنه معلم عظيم ولكني لا أرى له أتباعا"
لا شك أنه محق في قوله لأن الأوروبيين الذي غزوا بلاده لم يتركوا جريمة إلا وارتكبوها بحق السكان الأصليين.
أما جوابه لليهود الذين كانوا يزعمون بأن الله اصطفاهم وفضلهم على باقي البشر فقد كان في قوله لهم:
"إن الله يقدر أن يقيم من هذه الحجارة نسلاً لإبراهيم"
أي لا فرق بين إنسان وآخر سوى في ما يعمله من خير أو شر.
من المؤسف, أن جرائم لا حصر لها ارتكبت باسم ذلك المعلم العظيم على مر العصور حتى أيامنا هذه، فهل سيرتقي البشر في يوم من الأيام لكي يطبقوا تعاليمه؟
عصام زكي عراف
معليا, الجليل الغربي
No comments:
Post a Comment