Friday 30 November 2012

ثابر على استعمال عقلك

حافظ على دماغك

لو باشر شخص في العشرين من العمر بالتدرب على رفع الأثقال لرأيناه يحرز تقدّما كبيرا في البداية، ثم يبدأ هذا التقدم يقل تدريجيا حتى يصل إلى حدّ يتعذّر بعده أن يزيد من قدرته على الرفع، أي أنه يحقق الحد الأقصى من طاقته البدنية وليس له أن يزيد عليها. الشيء عينه يمكن أن يقال عن العدو أو السباحة أو القفز على أنواعه، هناك حدّ أعلى لكل إنسان (أو حيوان) لا يستطيع أن يتجاوزه مهما حاول أو بذل من الجهد. والذي يحدث بعد ذلك أنه مع التقدم في العمر تتراجع القدرة البدنية تدريجيا وتتراجع معها القدرة على الأداء البدني في كل المجالات.
والسّؤال هو: هل ينطبق ما قيل عن القدرة البدنية على القدرة العقلية (الذهنية)؟ الجواب القاطع الذي يثير الدهشة هو أن العكس هو الصحيح، أو بعبارة أخرى كلما زادت القدرة الذهنية للإنسان كلما زادت قدرته على الاستيعاب أكثر فأكثر، ولنضرب مثلا على ذلك: إذا باشر أحدنا تعلم إحدى اللغات الأوروبية، الإنجليزية مثلا، فإنه سيواجه بعض المشقة في البداية ولكن كلما زاد تمكّنه من اللغة يسهل عليه التوسع والتعمق في معانيها وأساليب البيان فيها، وعندما يجيد اللغة الإنجليزية يسهل عليه تعلّم الفرنسية، فإذا أجادها وجد سهولة أكبر في دراسة الطليانية، وهكذا دواليك.
هناك من يقول، وبحق،نحن على علم بهذه الحقائق منذ أمد طويل، غير أن الدراسات والأبحاث في الماضي كانت تستند على المشاهدة والاستنباط النّظري. منذ ذلك الوقت حدثت طفرة كبيرة في الأجهزة ووسائل الكشف وقد تيسر للخبراء بواسطتها أن يكشفوا النقاب عن نشاط الخلايا الحية في الأنسجة المختلفة التي يتكون منها الجسم ورصد التغيرات التي تمر بها تلك الخلايا في الظروف المختلفة. وقد حظيت دراسة الدماغ بقسط غير يسير من الدراسة والبحث، فالإطلاع على دقائق عمل الدماغ يعطينا الإجابة على أسئلة عديدة تتعلق كلها بكيفية عمل الدماغ، منها، على سبيل المثال لا الحصر:
*  لماذا يختلف التحصيل العلمي من فرد لآخر؟
*  لماذا يميل البعض لدراسة مواضيع بعينها، كالموسيقى أو الرسم أو الرياضيات؟
*  لماذا يميل البعض للمرح والتفاؤل والبعض للانقباض والتشاؤم؟
*  لماذا يصاب البعض بفقدان الذاكرة مع تقدم العمر؟
*  لماذا يتعرض البعض لإدمان الكحول أو التدخين أو تعاطي المخدرات؟   

كل هذه التساؤلات وكثير غيرها نحتاج للإجابة عليها أن نطّلع على كيفية عمل خلايا الدماغ. كيف تختزن المعلومات التي تصل الدماغ عن طريق الحواس الخمس أو عن طريق الإبداع الفكري كالإنشاء والتأليف في المجالات المختلفة، ومن ثم كيف تستخرج هذه المعلومات (أي كيف تتم عملية التّذكّر) وتستعمل في اتخاذ القرارات التي ينجم عنها ردود الفعل إزاء الحالات المتباينة التي نواجهها في كل لحظة من حياتنا. 
يتكون دماغ الإنسان من  مئة بليون خلية بالتقريب (ألف مليونا من الخلايا)، ومن المعروف أن الخلية العصبية تختلف عن سائر خلايا الجسم اختلافا بيّنا، شكلها يشبه الكرة ويتفرع منها ما يقارب عشرة آلاف فرع وكأنها شجرة كثيفة الأغصان، الغالبية العظمى من هذه التفرّعات تدعى "مخارج" يبلغ طول الواحد منها بضع سنتيمترات وقليل من التفرعات التي تدعى "مداخل"، لا يتجاوز طول الواحد منها الميليمتر الواحد.
كيف تتخاطب الخلايا العصبية؟ من المعروف أنه لا يوجد اتصال بين خلايا الدماغ أي أن الخلية الواحدة لا ترتبط بالأخرى بسلسلة مستمرة من الخلايا، وإرسال المعلومات يتم بإرسال إشارة كهربائية ذات جهد يقارب عُشر الفولط، تستمر ما يقرب من جزء من ألف من الثانية وتنتقل بسرعة تقرب من سبعة عشر مترا في الثانية الواحدة. تسري هذه الإشارة خلال أحد المخارج في اتجاه خلية أخرى حيث تصل إلى طرف مدخل من مداخلها وعند نقطة التلاقي بين المدخل والمخرج يكون المفصل، وهو عبارة عن نقطة تماس، وعندما تصل الإشارة القادمة من المخرج إلى المفصل تؤدي إلى دلق مادة كيماوية في المفصل وهذه المادة تؤدي إلى إنتاج إشارة كهربية في المدخل تأخذ طريقها إلى الخلية التي تعالج المعلومات التي تحملها الإشارة وتتخذ القرار بشأنها، كأن ترسلها إلى خلية أخرى أو تختزنها أو غير ذلك.
لا نزال بحاجة للكثير من الدراسة والبحث قبل أن يكون باستطاعتنا الإجابة على جميع التّساؤلات المطروحة غير أن ما تحقق حتى الآن أتاح لنا التعرف على بعض مزايا الدماغ ولعل من المفيد أن نستعرض بعض ما توصل إليه العلم عن القدرة على التعلّم في المراحل المختلفة من عمر الإنسان. 
يقول الباحث مالكولم هورن من جامعة موناش في ملبورن في أستراليا: يتكامل نمو الدماغ في السنة العاشرة من العمر ومع اكتمال النّموّ تتحدّد مهام الأجزاء المختلفة منه. ومن الجدير بالذكر والملفت للنظر، بل لعله من المفيد ألا تغيب هذه الحقيقة عن بال أي والد أو مربي، أنّ في هذه المرحلة المبكّرة يتحدد عدد الخلايا التي نستعملها فيما تبقّى لنا من العمر. فالخلايا التي نستعملها تظل حية وناشطة، والتي لا نستعملها تأخذ بالضمور والموت والتلاشي تدريجيا. نحن نعلم حق العلم أنّ هناك أجزاء بعينها في الدماغ تتولى التحكم في مهام محددة. هناك حيز في الدماغ ينحصر فيه تعلم اللغة واختزان المفردات والمصطلحات والمباني اللغوية المختلفة، وهناك جزء في الدماغ تكون خلاياه هي المنظّم والمنسّق لعملية النّطق. الشيء ذاته يقال عن تعلم الموسيقى والعزف على الآلات المختلفة وقيادة السيارة أو الضرب على لوحة مفاتيح الحاسوب، وأشباه ذلك كثير، في كل واحدة من هذه المهارات تتحكم مجموعة بعينها من خلايا الدماغ. 
والسؤال هو: هل تتعلق القدرة على التعلم والاستيعاب بعمر الإنسان؟ وكيف تتأثر قدرة الدماغ على الأداء في المراحل المختلفة من العمر؟
يقول الباحث هورن: الجواب هو نعم وبكل تأكيد، نعم هناك مهارات وقدرات يسهل على الإنسان اكتسابها وتعلمها في مرحلة بعينها من العمر ثم تأخذ هذه القدرة على التقهقر تدريجيا مع التقدم في العمر، فقد ثبت أن تعلم اللغة في سن مبكر يؤثر تأثيرا بيّنا على قدرة الإنسان على التفكير وعلى التحصيل في المجالات الأخرى، أي أنّها تحدد نسبة الذكاء إلى حد ما.
بين العاشرة والخامسة عشرة تكون القدرة على التعلم والاستيعاب في القمة، ومع بلوغ العام الخامس عشر، تكون القدرة اللغوية قد تحددت إلى درجة كبيرة. ومن الملفت للنظر أيضا أن إجادة لغة الأم لها انعكاسات وتأثيرات متشعبة، فكلما كانت الثروة اللغوية أكبر كلما زاد ذلك من القدرة على الاستيعاب في شتى العلوم، بل لقد وجد الباحثون أن تعلم اللغات الأجنبية يكون أسهل عند الذين يجيدون لغة الأم. لوحظ أيضا، أن الإنسان في مقتبل العمر يستطيع أن يؤدي عدة مهام في آن واحد:كأن يستعمل التليفون ويستمع إلى المذياع ويكتب. هذه القدرة على التركيز على أكثر من مهمة في الوقت ذاته تقل مع التقدم في العمر. اتضح أيضا أنّ القدرة على استيعاب الرياضيات والعلوم تبلغ الأوج في العقد الثاني والثالث من العمر بينما تظل القدرة على الإبداع عالية في المجالات الأخرى إذا ثابر الإنسان على الدراسة والبحث، ونحن نعلم أن الكثير من المفكرين أبدعوا بعد أن شاخوا وذلك يعود على الغالب إلى مواظبتهم على النشاط الذهني دون توقف منذ حداثتهم. فقد تأكد من آخر الدراسات أنّ خلايا الدماغ التي لا تستعمل لمدة طويلة، أي، لا يصل إلى أطراف مداخلها إشارات لمدة طويلة، تنفصم تلك العروة التي تكون نقطة التماس بين المخرج والمدخل فتصبح تلك الخلية معزولة عن باقي أجزاء الدماغ ولا نفع منها بعد ذلك. هكذا نحكم بالموت على خلايا دماغنا التي لا نستعملها ثم ندفع الثمن في اللاحق من العمر ويكون على الغالب مقرونا بالكثير من الألم والمعاناة.
الخلاصة من الدراسات والأبحاث التي لا شك فيها هي أن دماغنا يسعفنا ويفيدنا إذا ما واظبنا على الدراسة والمطالعة والتعلّم في أكثر من مجال، أما إذا استسلمنا للكسل فإن ذلك يعني الحكم على خلايا الدماغ بالشلل ولا سبيل لبعث الحياة فيها من جديد بعد ذلك وبعبارة موجزة: ما لا نستعمله من خلايا الدماغ في مقتبل العمر نخسره إلى الأبد . وفي عالم مثل عالمنا، حيث يطلع علينا العلماء والباحثون كل يوم باكتشافات واختراعات جديدة تسهم في تغيير حياتنا، بل كثيرا ما تتحكم في نواح عديدة من حياتنا، يصبح الذي يمتلك القدرة على الإبداع صاحب القرار وبيده أن يقرر مصير الآخرين الذين تخلفوا عن اللحاق بركب العلم، فالقوة الاقتصادية والعسكرية والسيطرة الحضارية أصبحت مرهونة وبشكل لا يخفى على اللبيب، بما تحققه الأمم من تقدم علمي. لم تعد الثروات الطبيعية وكثرة العدد تكفي بل أصبح العقل البشري أهم مصدر من مصادر القوة والثراء والأدلة والشواهد على ذلك أكثر من أن تحصى. 
 


لماذا نهرم

لماذا نَهرَم؟

البحث الأزلي عن الشباب الدائم كان ولا يزال يشغل عقول غالبية البشر. من منا لا يرغب أن يبقى في شرخ شبابه وأوج نشاطه، حيث لا يفقد شيئاً من نضارة وجهه ولا من قواه البدنية والعقلية؟ 
كلنا يعلم ما يحدث لكل إنسان (ومعظم الحيوانات) عندما يتقدم به العمر. ولا يخفى أيضاً أنّ تأثير الشيخوخة على الأفراد يختلف اختلافاً بيّناً من فرد لآخر. 
بعض الأشخاص، ما أن يبلغ الستين حتى نراه وقد تجعّد وجهه وترهل لحمه وفقد الكثير من ذاكرته وغاض نشاطه واعتراه فتور في كل شيء. بالإضافة إلى ذلك يصبح فريسة سهلة للأمراض لأن جهاز المناعة في جسمه قد اعتراه الضعف والوهن أيضاً، فلم يعد يقوى على التغلب على أسباب الأمراض.
بعض الناس قد يتجاوز التسعين من عمره ويظل يزخر بالنشاط والحيوية والعطاء. هذه مثلاً الراهبة، الأخت ماتّيا غورْس قد احتفلت بعيد ميلادها الثالث بعد المائة في ديرها الواقع في مانكاتو في ولاية مينسّوتا ولا زالت تحيك كل يوم زوجاً من القفازات تقدّمه للمحتاجين. مثلها الكثير من رفيقاتها الراهبات يمارسن الأعمال المختلفة ويتجاذبن أطراف الحديث وتسمعهنّ يستعدن ذكريات أيام الصبا بكل تفاصيلها وكأنّها وقعت بالأمس لم يفقدن من ذكرياتهن شيئا.
هؤلاء الراهبات وافقن على الاشتراك في دراسة تشمل جميع أعضاء الرهبانية الذي يقارب خمسمائة وخمسين راهبة، تجرى لهن الفحوص والاختبارات من قبل الباحثين وقد تبرّع جميعهن بأدمغتهن بعد الوفاة لمعهد الأبحاث علّ ذلك يساعد العلماء في إماطة اللثام عن أسباب الشيخوخة. 
لا تنعم جميع الراهبات المسنات بسلامة العقل والبدن التي تنعم بها الراهبة غورْس وأمثالها، فهناك من تعاني من تَنَخُّرِ العظام أو الشلل النصفي أو فقدان الذاكرة وغير ذلك من أمراض الشيخوخة المعروفة. 
تمّ اختيار الراهبات لأن ظروف معيشتهن متشابهة من حيث البيئة الاجتماعية والغذاء والعمل، أكثر بكثير من أي فئة أخرى مما يساعد على معرفة أسباب الفروق بين الحالات المختلفة عند التقدم في السن.
يشرف على البحث ديفيد سنودون من جامعة كِنتاكي مع لفيف من الباحثين الذين يدرسون تأثير مرور الزمن على الديدان، الحشرات، الفئران والقرود علهم يستطيعون الإجابة على الأسئلة الكثيرة التي تشغل بال العديد منا.
معظم الباحثين في هذه الأيام يعلقون الآمال على الدراسات التي تهدف لمعرفة التفاعلات الكيماوية التي تتم في الخلية الحية ومنها نستطيع أن نعرف الأسباب المؤدية إلى الأمراض المختلفة الناتجة عن العوامل الوراثية، الغذائية، البيئية، الاجتماعية والنفسية. لا شك أنّ طول العمر يتعلق بهذه العوامل مجتمعة .
في الإمبراطورية الرومانية كان متوسط عمر الإنسان لا يتجاوز الإثنين وعشرين عاما، في نهاية القرن التاسع عشر وصل إلى سبع وأربعين سنة في الولايات المتحدة، وبعد مرور أقل من قرن من الزمن، ونتيجة لتحسن الأوضاع الصحية بفضل الطب الوقائي والعلاجي، نجد أنّ متوسط العمر في العالم يقارب الخامسة والستين،(ثمانية وثلاثون في سيراليون وثمانون في اليابان) أما في الولايات المتحدة فهو تسع وسبعون للنساء واثنان وسبعون للرجال.
ليس من السهل تعريف الشيخوخة بدقة، غير أنّ الفرق الواضح، بل قل الصارخ بين صورتين للدماغ أخذتا لشخص في الخامسة والستين من العمر ولآخر في الثالثة والثمانين، لا يترك مجالا للشك. بينما نرى أن الدماغ مكتنز ويملأ تجويف الجمجمة مع بعض الجيوب الطبيعية الممتلئة بالسائل عند الأصغر، نرى أنّ هناك ضمورا قد حدث مع التقدم في العمر أدّى إلى ابتعاد الدماغ عن جدار الجمجمة وتعاظم الجيوب الممتلئة بالسائل. 
هل هناك علاقة بين نسبة الضّمور في الدماغ وأعراض النسيان التي يعاني البعض منها مع تقدم العمر؟ نعم تقول الباحثة سوزان ريزنيك من المعهد لدراسة الشيخوخة في بالتيمور الذي يقوم بهذه الدراسات منذ عام 8591 دون انقطاع ويجري الآن الفحوص الدورية على ألف ومائة شخص يقدمون إلى المعهد مرة كل سنتين ليخضعوا للاختبارات الطبية والنفسية خلال يومين ونصف اليوم في كل مرة. 
نتائج الدراسة يجملها روبين أندرو، المشرف على الفحوص الطبية في المعهد، يقول: تبدو التغيرات التي يتعرض لها الجسم متشابهة عند جميع الأشخاص وإن اختلفت في حدّتها ومرحلة ظهورها. عدسة العين يزداد سمكها وتفقد من مرونتها، الأذن تفقد القدرة على التقاط الترددات العالية في البداية ثم يعقبها العجز عن التقاط الترددات المنخفضة، حاستا الشم والذوق يصيبهما الضعف والكلال أيضا، الجلد يرقّ ويترهل لأن الأنسجة التي تحته تفقد متانتها، العضلات تصاب بالضّمور وتتراكم الدهنيات، خاصة حول منطقة المعدة، العظام تتنخر والمفاصل تبلى، القلب تقل قدرته على ضخ الدم، سعة الرئتين تنخفض كثيرا والكلى تصاب بالضعف أيضا. ولا بد من التنويه هنا أن أكثر الأعضاء تعرضا للضعف هما الكليتان والرئتان ويبدو أن الطبيعة زودتنا بزوج من كل منهما لهذا السبب.
رغم هذه الصورة القاتمة، يقول روبين، هناك مكان للتفاؤل، بما أنّ جميع أعضاء الجسم تعاني من الضعف مع تقدم السن، هذا قد يعني أنّ هناك عامل واحد يسببها، فإذا استطعنا تحديده نكون قد أصبنا سربا من العصافير بحجر واحد. 
هذا ما حاوله دانيال رودمان في كلية الطب في فيسكونسين منذ سنوات عندما بدأ يحقن اثني عشر رجلا تتراوح أعمارهم بين الواحدة والستين والواحدة والثمانين تقدموا عن طيب خاطر ليحقنهم الباحث بهورمونات النمو ثلاث مرات في الأسبوع لمدة ستة أشهر. كانت النتائج تبعث على التفاؤل في البداية، ارتفع وزن العضلات بنسبة تسعة في المائة، انخفضت الأنسجة الدهنية بأربعة عشر وازداد سمك الجلد بسبعة في المائة، وهذا يعني إرجاع عقارب الزمن إلى الخلف ما بين عشر إلى عشرين سنة. لم تتكلل تجربة رودمان مع هؤلاء الرجال بالنجاح فسرعان ما أخذت تظهر عند معظمهم أعراض جانبية أهمها التهاب الأعصاب، أعراض تشبه أعراض السكري، نمو الثديين وغير ذلك. أضف إلى ذلك، عندما توقف حقن الرجال بالهورمونات، (بقيمة ما يقرب من سبعة آلاف دولار للشخص) عاد الرجال إلى سابق حالتهم.
بعد هذه التجربة توجهت الأنظار نحو هورمونات كتلك التي تفرزها الغدة الصنوبرية في الدماغ . يعتقد معظم الباحثين في هذا المجال أنه رغم التحسن الذي قد ينتج عن استعمال بعض الهورمونات في حالات بعينها، كاستعمال الإستروجين عند النساء للوقاية من تنخر العظام وأمراض القلب، فإن التغلب على أعراض الشيخوخة لن يكون مدخله من خلال هورمون واحد أحد.
ليس هناك حتى الآن أي دليل قاطع يجعلنا نجزم بأن إطالة الأعمار أمر مستحيل، يقول الباحث المعروف كاليب فينش من جامعة جنوب كاليفورنيا الذي أجرى دراسات شملت مئات الحيوانات، من الأفيال إلى الحشرات. بل العكس هو الصحيح، عندنا الكثير من الأدلة بأن ذلك ممكن وإن كنا لا نعرف الإجابة على كثير من الأسئلة في الوقت الحاضر. لنأخذ مثلا السيدة الفرنسية جين كالمينت من أرليه فإنه من الثابت أنها بلغت الثانية والعشرين بعد المائة وبقيت تدخن حتى قبل وفاتها بخمسة أعوام. لا شك أنّ هذه السيدة كانت تملك مزايا جعلتها تبلغ تلك السن، فإذا عرفنا تلك المزايا استعنا بها لنعممها لكي نطيل أعمار الآخرين.
يبقى أمامنا العقبة الأخرى يقول فينش، هب أننا استطعنا إطالة العمر، فهل يمكننا أن نتغلب على الضعف الذي يصيبنا مع الكبر؟
هناك فئتان بين الباحثين، فئة تميل إلى الإعتقاد بأن الشيخوخة، وبالتالي أعراضها، مغروسة فينا وراثيا والأخرى  تعتقد بأنها ناجمة عن التأكسد ، الضروري والمضر في آن واحد. الجواب، يقول فينش، قد يكمن في دراستنا لبعض الأحياء حيث نجد تفاوتا كبيرا في طول العمر أحيانا في فصائل مختلفة من النوع الواحد. هذا فأر الحقل مثلا يعيش ما يقرب من ثلاث سنوات. ماعز الجبل، أربع عشرة. الحمار، عشرون ،أما الفيل الأفريقي فإنه يعيش ثمان وأربعين سنة. أي أنه يبدو أن الحيوانات الأصغر جسما تعيش أقل، غير أنّ بعضها يشذ كثيرا عن هذه القاعدة، الجربيل (من الجرذان) يعيش ست سنوات، فهو في ذلك يستحق الدراسة لكون عمره يزيد كثيرا عن المألوف بين أشباهه  في الحجم.
لعل أكثر الحيوانات المستدعية للاهتمام هي بعض أنواع السلاحف وبالتحديد نوع  يعيش في الأنهار ورغم صغر حجمه فإنه يعيش أكثر من خمسين عاما والأهم من ذلك أنّ هذه السلاحف لا تتعرض لشيء من أعراض الهرم. لا ضعف ولا تراكم دهن في الجسم،وتستمر في وضع البيض حتى موتها، الذي ينجم عن مرض مهلك بسرعة أو حادث يطرأ لها . يقول الباحث ويت غيبونس: مهما طال عمر السلحفاة فإنها لا تعاني من أيّ من أعراض الشيخوخة. 
لماذا لا تشيخ السلحفاة ؟ الجواب قد يكون، أنّ السلحفاة مبرمجة وراثيا لكي تعيش أكثر وبدون أعراض شيخوخة. أول من جاء بهذه الفكرة في الستينيات كان ليونارد هايفليك عندما أثبت بالتجربة بأن الخلايا المأخوذة من حيوانات معمرة تنقسم وتتكاثر في أنبوب الاختبار أكثر من الخلايا المأخوذة من حيوانات لا تعمر طويلا، وكأن كل خلية تحتوي على برنامج يحدد عدد المرات التي يتاح لها الانقسام، أي أنه في كل مرة تنقسم الخلية هناك عدّاد يسجل رقم الانقسام وعندما يطابق عدد المرات العدد المحدد المغروس في الخلية تتوقف عن الانقسام، أي عن التجدد، أي عن النمو. السلاحف تدخل ضمن فئة قليلة من الأحياء التي تنفرد بهذه الخاصة، (من ضمنها بعض الأسماك)، هذه الفئة لا تتوقف عن النمو ما دامت على قيد الحياة. فهل تختلف برمجة خلاياها عن غيرها؟ أم أنّ السر يعود إلى عملية الأيض (التفاعلات الكيماوية في الخلايا الحية) التي يلعب فيها الأوكسجين الدور الأعظم؟ 
من المعروف أنّ إنتاج الحرارة في الخلية الحية يعود إلى تأكسد الكربون (الفحم) والهيدروجين. نتيجة لتفاعل الأوكسجين على نطاق واسع فإن بعض جزيئاته تتأيّن (تصبح مشحونة) وتبقى طليقة وإليها يعزو العلماء التلف الذي يصيب جدران الخلايا وأطراف المورّثات فتعيق أو تخل في انقسام الخلايا، ومن هنا يبدأ التقهقر في أداء أعضاء الجسم وتبدأ أعراض الشيخوخة بالظهور.
عمليات الأيض في السلاحف بطيئة كما هي الحال في جميع الحيوانات ذوات الدم البارد، فهل هذا هو السبب في  طول العمر عند بعض الضفادع والحيات والأسماك ؟ لا يمكن أن نقطع بذلك فهناك بعض الطيور تعمر طويلا رغم عمليات الأيض السريعة لديها. ولعل من سخرية القدر أن الكثير من الحيوانات التي قد تساعدنا دراستها على فهم أسباب الشيخوخة، تقل أعدادها باستمرار والبعض منها ينقرض نتيجة لقتلها بأيدينا أو نتيجة لإتلاف بيئتها الطبيعية، من قطع للغابات أو ما نطلق عليه مشاريع التطوير، والأجدر بنا أن ندعوها مشاريع التدمير لأن ضررها على المدى البعيد أكثر بكثير من نفعها، فعندما نفقد حشرة أو طيرا أو أي نوع من النبات فقد فقدناه إلى الأبد، وفي كل مرة ينقرض أحدها نكون قد فقدنا حلقة في سلسلة الحياة على الكرة الأرضية حيث الذي نجهله يفوق بكثير الذي نعرفه عنها.
إذا كان الاعتقاد بأن طول العمر يرتبط ببرنامج تحتوي عليه المورثات في الخلية الحية فهناك من يحاول أن يتأكد من صدق هذا الاعتقاد بواسطة إحداث تغيير في المورّثات في بعض أنواع الديدان الخيطية التي لا يتجاوز طولها الميليمتر الواحد. هذا ما يقوم به الباحث توم جونسون الذي أجرى تعديلا في أحد مورّثات تلك الديدان الخيطية فكانت النتيجة أن تضاعف طول عمرها من عشرين إلى أربعين يوما. 
تأثير الوراثة على طول العمر ليس بالجديد فنحن نعرف ذلك من قبل ولعل ما اكتشفه الباحثون عن ظاهرة ويرنير يثبت ذلك.
المصابون بهذه الظاهرة أو هذا المرض إن شئت، تبدو عليهم بوادر الشيخوخة في العشرينيات وقلّ من يعمر منهم أكثر من خمسين عاما. لقد تأكد أنّ ذلك يعود إلى تغير يطرأ على إحدى المورّثات (الجينات) التي تتحكم في عمليات الأيض وهذا يؤدي إلى إضعاف قدرة الخلايا على التجدد، وإذا تعطل التجدد سارعت أعراض الشيخوخة بالظهور.
إذا كانت عمليات الأيض تتحكم في طول العمر بمقدار أو بآخر فهل من شيء يستطاع عمله لنقلل من تأثيرها السلبي دون أن نغير شيئا في بنية المورثات ؟
نعم وبكل تأكيد، يقول الباحث ريك ويندروك، بما أننا لا نستطيع في الوقت الحاضر أن نتحكم في عمليات الأيض عن طريق تغيير بنية المورثات فإننا نستطيع أن نقلل من استهلاكنا للطعام لنمد في أعمارنا ونحافظ على صحتنا. لقد استطاع ويندروك أن يطيل عمر الفئران بمقدار النصف ! عندما خفّض استهلاكها للأغذية الغنية بالدهنيات والنشويات بنسبة ستين بالمائة دون المس بنسبة المعادن والفيتامينات. إنها الوسيلة الوحيدة التي أثبتت نجاحها حتى الآن في إطالة عمر الحيوانات اللبونة. رغم عدم إجراء دراسات شاملة على الإنسان فإنّ ويندروك على ثقة تامة بأن التقليل من استهلاك الأغذية الغنية بالطاقة كالنشويات والدهنيات يؤدي إلى إطالة العمر ويحافظ على نشاط جهاز المناعة  وبالتالي يؤخر أو يمنع ظهور الكثير من الأمراض كالسكري والسرطان وأمراض القلب وغيرها، بالإضافة إلى قدرة الشخص على ممارسة حياة حافلة بالنشاط دون أن يقع عبئا على غيره . 
تجارب مماثلة تجرى على قرود الرّيص (قرد هندي صغير)  منذ ثمان سنوات تعزز النتائج التي جاءت بها دراسة ويندروك وإذا أردنا إيجازها بنصيحة نقول: قلل من النشويات والدهنيات في غذائك إلى الحد الأدنى الذي يحتاجه الجسم ولا تنسى الفواكه والخضر الطازجة لما تحتويه من معادن وفيتامينات ومواد تقاوم التأكسد.
ترى ما هي أهمية النشاط العضلي في الوقاية من الأمراض وأعراض الشيخوخة ؟
الباحثة مريم نلسون من مركز دراسات التغذية البشرية في بوسطون تقول: نحن نقوم بدراسة تأثير التمارين الرياضية على مسنين كانوا يشكون من الضعف لدرجة أن معظمهم يستثقل صعود بضع درجات. شملت الدراسة ما يقرب من مائة من نزلاء أحد بيوت المسنين تتراوح أعمارهم بين الثانية والسبعين والثامنة والتسعين عاما. كانت النتائج مثيرة للدهشة، حيث استطاع معظمهم إعادة عقارب الزمن إلى الوراء أكثر من ثلاثين عاما، كل ذلك بفضل تمارين رفع الأثقال التي أعدت خاصة لتناسب قدراتهم البدنية.
تضيف السيدة نلسون: الكثير من أعراض الشيخوخة ينجم عن الكسل عن القيام بالتمارين والحركات اللازمة لتقوية العضلات وتنشيط الدورة الدموية وعن عدم تناول الغذاء الصحيح. من حسنات النشاط البدني المنتظم أنه يقوي العضلات، يحرق الدهن، يحسن أداء القلب والرئتين، يخفّض من نسبة السّكّر في الدم، يدفع الدم بغزارة إلى الدماغ ويزيد من كثافة العظام وصلابتها. ويجب التنويه بشدة إلى أنّ الذي يصح قوله في الجسم ينطبق على الدماغ، فقد أظهرت الدراسات بشكل قاطع بأنّ الذين يمارسون النشاط الذهني من قراءة أو لعب شطرنج وغير ذلك يحتفظون بذاكرة قوية مع تقدم العمر وتبقى علاقاتهم وثيقة مع الآخرين. الخلاصة، أنّ المحافظة على اللياقة البدنية والنشاط الذهني تجعل الإنسان قادرا على العطاء لمدة أطول وهذا مما يزيد في اعتزازه بنفسه ويرفع من معنوياته ويجعله سعيدا بل ويغدق السعادة والتفاؤل على الذين حوله.
وفي الختام يطيب لي أن أورد هنا ما رواه أبو عثمان عمرو بن بحر الجاحظ في كتاب البخلاء عن أبي عبد الرحمن الثوري الذي أوصى إبنه وكان من جملة ما قال: 
“ أيْ بني، عوّد نفسك الأثرة ومجاهدة الهوى والشّهوة، ولا تنهش نهش الأفاعي ولا تخضم خضم البراذين، ولا تدِم الأكل إدامة النعاج. ولا تلقم لقم الجمال. واحذر سرعة الكظّة وسرف البطنة. وقد قال بعض الحكماء، إذا كنت بطينا فعد نفسك في المرضى. واعلم أنّ الشّبع داعية البشم وأنّ البشم داعية السقم. ولو سألت حذّاق الأطباء لأخبروك أنّ عامّة أهل القبور إنما ماتوا بالتخم. أي بني لم صفت أذهان العرب ولم صدقت أحساس العرب، ولم صحّت أبدان الرهبان مع طول الإقامة في الصّوامع، وحتى لم تعرف النقرس ولا وجع المفاصل والأورام إلا لقلة الرزء من الطعام وخفة الزاد والتّبلّغ باليسير. أي بني قد تجاوزت تسعين عاما، ما نغض لي سن، ولا تحرك لي عظم، ولا انتشر لي عصب، ولا عرفت دنين أذن ولا سيلان عين ولا سلس بول. ما لذلك من سبب إلا التخفيف من الزاد. فإن كنت تحب الحياة فهذه سبيل الحياة.”

جميع الدلائل تشير كما يتفق العلماء أننا سنستطيع أن نمد في الأعمار عاجلا أو آجلا، ويتساءل البعض: من الذي سيقرر طول عمر كل فرد منا؟ إذا استطعنا أن نطيل العمر دون أن نستطيع أن نعيد إلى الإنسان قدرته على الإنتاج فهذا يعني الحاجة إلى المزيد من الأيدي التي توفر العناية للمسنين واستنزاف موارد بشرية وتحويلها عن الإنتاج إلى الخدمة، فهل تستطيع المصادر التي نملكها أن تتحمل ذلك؟ في مثل هذه الحالة، ما هي الغاية من إطالة العمر؟. أسئلة كثيرة أخلاقية واقتصادية لا بد من الإجابة عليها.

مترجم عن مجلة “ناشيونال جيوچرافيك” مع إضافات للمترجم

عصام زكي عراف

معليا

الجليل الغربي





هل من سؤال؟


إلى الأخوات والإخوة العاملين في حقل التربية والتعليم:

مع بداية السنة الدراسية يعود إلى الأذهان ما نشرته بعض الصحف العربية منها والعبرية عن سوء تحصيل الطلاب العرب في أسرائيل، ومن أهمها أرقام نشرتها صحيفة هآرتس قبل في أوائل هذا العام أو أواخر العام المنصرم، عن دراسة شملت ما يقرب من مائتي مدرسة في البلاد ظهر فيها بشكل قاطع أن الطالب العربي في حال لا يحسد عليها من تدني التحصيل.  قد يلقي بعض الأخوات والإخوة باللوم على وزارات الحكومة المختلفة وعلى السلطات المحلية أو على الأهل وقد يكون الحق معهم في ما يزعمون.  لكن السؤال هو: إذا كان التقصير في حق الطالب يجيء من كل حدب وصوب أوليس هذا سببا كافيا لكي يشمر المعلمات والمعلمين عن سواعدهم ويبذلوا أقصى جهدهم من أجل التعويض عن ذلك التقصير  من أجل مستقبل طلابنا الذي هو مستقبلنا؟

هذه بعض النصائح التي كنت قد قرأتها في أحد أعداد مجلة “The Physics Teacher” التي تصدر عن رابطة معلمي الفيزياء في الولايات المتحدة وكنت قد انتسبت إليها في أوائل السبعينيات من القرن العشرين مع إضافات من عندي اكتسبتها خلال سنواتي التسع في التدريس، وقد بذلت كل ما في وسعي لتطبيقها عندما كنت أمارس التدريس في مدرسة تيراسانطا في عكا وأظن أن ذلك الأسلوب لاقى نجاحا ملحوظا.

هل من سؤال؟

إن الدروس التي تقل فيها أسئلة الطلاب أو تنعدم لا يمكن أن تكون الدليل على حسن أداء المعلم، النقيض من ذلك هو الصحيح. عندما يمتنع أو ينقطع التلميذ عن التساؤل وطرح الأسئلة هناك أسئلة كثيرة يجب على المعلم أن يطرحها على نفسه وأن يحاسبها بكل صراحة  وصرامة وجرأة لأن الاعتراف بالخطأ فضيلة والتمادي فيه رذيلة.
من الشائع أن السؤال عن شيء ما يدل على جهل السائل بذلك الشيء، فهل خطر على بالك أيها المعلم أن السؤال يدل على مدى الفهم؟

لعل أهم ما يحتاج إليه المعلم في أداء تلك الرسالة المقدسة التي يحملها على عاتقه هو أن يعرف كيف ومتى يسأل وكيف يجيب. الذي لا يقلّ أهمية عن ذلك هو إجادة توجيه التلاميذ إلى مزيد من التساؤل الذي يؤدّي بهم إلى تعميق فهمهم للمادة المدروسة، وفي الوقت ذاته تكون تلك الأسئلة دليلا للمعلم على مدى استيعابهم للمادة التي يدرِّسها، ولنا في سقراط خير مثل فقد طبق ذلك الأسلوب منذ خمسة وعشرين قرنا.

من الواجب ألا تغيب عن ذهن المعلم الأسئلة التالية وهو يقف أمام تلاميذه:

1)  كيف أحث الطلاب على التساؤل ومن ثم على السؤال؟
2)  كيف أجيب على أسئلة الطلاب؟
3)  كيف أجيب على الأسئلة لتي تبدو “سخيفة”؟
4)  كيف أزيد من دقة ووضوح أسئلتي ؟
5)  هل تؤدي أسئلتي إلى فهم أوسع وأعمق للمادة؟
6)  هل أستطيع الإجابة عن أسئلة تبدو لي “تافهة” بحيث لا أُخجِل السائل وأجعله موضع سخرية وبذلك أكبت فيه الجرأة وأثنيه عن طرح الأسئلة؟
7)  هل تزيد أسئلة التلاميذ أحيانا من فهمي للمادة؟
8)  هل تؤدي أسئلتي إلى إفهام التلاميذ ما يحتاجون لفهمه؟
9) هل أستطيع أن أميّز بين سؤال يبحث عن إجابة وبين سؤال يُقصَد به عرض المعرفة؟
10) هل أشجع التلاميذ أن يجيبوا على أسئلة زملائهم بحيث يؤدي ذلك إلى حوار مثمر يشحذ الأذهان أم أنني أجيب بنفسي على جميع الأسئلة التي يطرحها الطلاب؟
11) هل أجيب حتى على الأسئلة التي أطرحها أنا؟
12) عندما لا تحضرني الإجابة على سؤال ما، هل تكون إجابتي: “آسف لعدم معرفتي الإجابة الآن، وسأحاول الحصول على الإجابة الصحيحة في أقرب فرصة ممكنة”. أم أنّ عندي دائما الإجابة لكل سؤال؟
13) هل أشعر فعلا بأنني تلميذ يسعى أبدا إلى توسيع معرفته وتعميقها؟
14) هل لدي الجرأة اللازمة لأن أعيد على مسامع التلاميذ القول التالي: “حاول أن تنقض كل ما تسمعه أو تقرأه لأن هذا هو السبيل الوحيد للوصول إلى الحقائق؟”
15) هل أنا مقتنع بأن الإجابة على سؤال ما قد تكون الفاتحة لأسئلة أخرى وليست
خاتمة النقاش.
إذا تضمّنت الإجابة على سؤال ما شيئا من السخرية أو الاستخفاف أو التقليل من شأن السؤال أو السائل فهي الشهادة الدامغة على جهل المعلم لرسالته وهي أقصر الطرق لكبت التفكير المثمر والمبدع عند التلميذ وهذا في حد ذاته جريمة حتى لو لم يكن هناك قانون يعاقب عليها!

Wednesday 28 November 2012

لغتنا العربية والمخاطر التي تحدق بها وبنا

لسان العرب

خير ما أبدأ به مقالي هذا بضع فقرات أنقلها إلى القارئ من كتاب “البيان والتبيين” لجاحظنا العظيم. وكان بودّي أن أرى هذه الكلمات الممتلئة حكمة تعلق على كل حائط في كل غرفة تدريس في الوطن العربي وفي صدر كل بيت ليحفظها الطلاب والمعلمون عن ظهر قلب ويتدبروا معناها فهي جليلة النفع بعيدة الأثر .
يقول عمرو بن بحر الملقب بالجاحظ عن شريف الكلام وحقيره :
“ ثم اعلموا أن المعنى الحقير الفاسد، والدنيء الساقط، يعشش في القلب، ثم يبيض ثم يفرّخ، فإذا ضرب بجرانه، ومكّن لعروقه، استفحل الفساد وبزل، وتمكّن الجهل وفرّخ، فعند ذلك يقوى داؤه، ويمتنع دواؤه. اللفظ الهجين الرّديء، والمستكره الغبيّ، أعلق باللسان وآلف للسمع، وأشدّ التحاما بالقلب، من اللفظ النبيه الشريف، والمعنى الرفيع الكريم. ولو جالست الجهّال والنّوكى، والسّخفاء والحمقى، شهرا فقط، لم تنق من أوضار كلامهم، وخبال معانيهم، بمجالسة أهل البيان والعلم دهرا. لأنّ الفساد أسرع إلى الناس وأشدّ التحاما بالطّبائع. والإنسان بالتعلم والتكلّف وبطول الاختلاف إلى العلماء، ومدارسة كتب الحكماء، يجود لفظه، ويحسن أدبه. وهو لا يحتاج في الجهل إلى أكثر من ترك التعلّم، وفي فساد البيان إلى أكثر من ترك التّخيّر .”
وعندما يتعرض لأهمية البلاغة يقول: قال الإمام إبراهيم بن محمد :
“يكفي من حظ البلاغة أن لا يؤتى السامع من سوء إفهام الناطق، ولا يؤتى الناطق من سوء فهم السامع”
ثم يستطرد في تعريف حسن البيان ووقعه في الأذهان فيقول :
“ أحسن الكلام ما كان قليله يغنيك عن كثيره، ومعناه في ظاهر لفظه. فإذا كان المعنى شريفا، واللفظ بليغا، وكان صحيح الطبع، بعيدا عن الاستكراه، ومنزها عن الاختلال، مصونا عن التكلف، صنع في القلب صنيع الغيث في التربة الكريمة. ومتى فُصَّلت الكلمة على هذه الشريطة، ونفذت من قائلها على هذه الصفة، أصحبها الله من التوفيق ومنحها من التأييد ما لا يمتنع من تعظيمها به صدور الجبابرة ولا يذهل عن فهمها عقول الجهلة.” انتهى .
قبل أن استطرد، أود أن أعترف بأن دراستي المنهجية للغة العربية لم تتجاوز المرحلة الابتدائية، إذ التحقت بعدها بثانوية عبرية، أما دراستي الجامعية فكانت بالعبرية ولاحقا بالإنجليزية. أذكر ذلك لكي أنفي عن نفسي الادعاء بأنني من المتبحرين بلغة الضاد. غير أن تعلقي الشديد بها واهتمامي بحضارتنا دفعني إلى الإصرار وبذل الجهد لاطلع على تراثنا الفكري، وكان من حسن حظي أنني كنت أحفظ كل ما تعلمته في المدرسة من شعر، فكانت أول خطوة قمت بها في ما بعد، أن اقتنيت كتاب شرح المعلقات السبع للزوزني فدرستها وحفظت منها ما تيسر، ولم أغفل لامية العرب للشنفرى وغيرها من الشعر الجاهلي وما تبعه من شعر الدولة الأموية والعباسية  ما تيسر لي، وكان لشعراء النهضة أمثال حافظ إبراهيم وأحمد شوقي وخليل مطران، وشعراء المهجر أمثال الشاعر القروي، رشيد سليم الخوري وإيليا إبي ماضي ورفاقهما نصيب وافر من الحفظ، واتبعت ذلك بقراءة القرآن الكريم بشرح الجلالين كما اقتنيت ما لا غنى عنه لكل دارس للعربية وهو معجم “لسان العرب” لابن منظور، وهو سفر نفيس وبحر زاخر. وأتبعت ذلك بدراسة “المثل السائر في أدب الكاتب والشاعر” لضياء الدين بن الأثير ثم كتب “البخلاء” “والحيوان” “والبيان والتبيين” للجاحظ وكتاب “كليلة ودمنة” تعريب ابن المقفع  وغير ذلك من أمهات الكتب العربية، وبعد ذلك لم يكن من الصعب أن أميز الغث من السمين عندما قرأت ما كتبه غيرهم، ومن الإنصاف أن أذكر شعر الشيخ ناصيف اليازجي وكتابه "مجمع البحرين" الذي استهواني كثيرا، وشعر ونثر ابنه العلامة الكبير الشيخ ابراهيم اليازجي.  
ليس القصد مما ذكرت أن أحوز على إعجاب أحد فذلك ليس من شأني، بل أردت أن أقول لكل الذين يدعون حبهم الشديد وغيرتهم الملتهبة على لغتهم وينادون بتبسيطها وتذليلها وتحديثها، أن الضعف ليس في اللغة العربية، الضعف والعجز كامن فينا، ومن يعتقد أن إجادة اللغة الإنجليزية أو الفرنسية أو غيرهما يتطلب جهدا أقل فهو أبعد ما يكون عن الصواب. إن من يحب لغته ويحترم حضارته يبذل كل ما في وسعه لدراستها والاطلاع على أسرار محاسنها ومواطن السحر في بيانها. 
يقول ابن الأثير، أنه بعد أن حفظ القرآن الكريم والكثير من الأشعار اختار ثلاثة آلاف حديث وكتبها بخط يده ثم أخذ يقرأها مرة كل أسبوع خلال عشر سنوات حتى حفظها جميعا عن ظهر قلب، فلننظر إلى ذلك الجهد ونعتبر! لقد أسعفته حافظته وغزارة علمه ودقة تحليله أن يأتي بأحكام في تعريف الفصاحة والبلاغة ونقد الشعر والنثر لا تزال نبراسا يهتدى بها حتى اليوم. 
لقد بعث أحمد شوقي الكثير من الكلمات من مرقدها واستحدث تعابير وطرق أبوابا لم يسبقه إليها أحد. وهذا مارون عبود يستعمل الكثير من الألفاظ التي كان ينفر منها غيره على أنها عامية وهي من صميم الفصحى. وهل ننسى الشدياق وأمثاله من أدباء وشعراء القرن التاسع عشر الذين ارتقوا بالتعبير العربي من وهدة الركاكة والانحطاط إلى قمة الفصاحة والبلاغة. بلغ بهم حبهم للغتهم وغيرتهم عليها ما يجعلنا نخجل من أنفسنا حين نرى أن السواد الأعظم من الذين يُدعَون عرب أو يَدَّعون أنهم عرب لا يكترث للفظ الحروف العربية كما يجب. أصبح الخطأ هو القاعدة والصواب هو الشاذ والمستقبح .
يروى أن الشيخ ناصيف اليازجي كان يكلم أولاده بالفصحى ويطلب إليهم أن يفعلوا كذلك، وقد طلب يوما من ابنته وردة أن تأتيه بدواة الحبر، فأحضرتها وناولته إياها قائلة: “ هاك القنينة يا أبي.” قالتها بفتح القاف، فزجرها الوالد بغضب قائلا: “إكسريها”. فألقت الفتاة بالدواة إلى الأرض وأهرقت ما فيها. ضحك الأب المتشدد وقال: “قصدت القاف وليس الدواة يا بنيتي” .
كان ذلك في القرن التاسع عشر، واليوم نرى معظم المدرسين يستعملون في غرف التدريس لغة أقل ما يقال فيها أنها تقدم لنا جيلا من الناشئة لا يعرف لغة عربية سوى تلك اللغة الركيكة، الرديئة، الساقطة، المشوّهة، الضحلة، الهزيلة، التي يستعملها هؤلاء الذين يدّعون زورا وبهتانا بأنهم معلمون، ومن الإنصاف أن ندعوهم مضللين أو مجهّلين إن جاز التعبير، وقد قيل : “الإناء ينضح بما فيه” .  
لقد أثبت العلم الحديث أنه كلما زادت الثروة اللغوية للإنسان وكلما ارتقت قدرته على التعبير كانت قدرته على الفهم والتحليل أشمل وأعمق، وبعبارة أخرى أن القدرة على الإبداع والنجاح مرهونة بالثروة اللغوية التي يمتلكها الفرد وإجادة استعمالها. وما وجه الغرابة في ذلك إذا عرفنا أن وسيلتنا في التفكير هي الأسماء والأفعال والحروف؟
من المؤسف أن نرى البعض يطالب بتبسيط اللغة العربية وتذليلها، إذا فهي لغة معقدة وهي لغة حرون ولا بد لنا من تبسيطها وتذليلها ليتسنى لنا استعمالها.
دعكم من هذه الأوهام والأضاليل، فاللغة العربية فريدة في القدرة على الاشتقاق اللفظي والمعنوي وقد أتاح لها ذلك أن تتسع وتستوعب جميع علوم اليونان وفارس والهند بعد أن كانت لغة قوم لم يعالجوا شيئا من تلك العلوم من قبل. عندما كتب أبو جعفر الخوارزمي كتابه، “ الجبر والمقابلة” وسجل صفحة مشرّفة في تاريخ الحضارة الإنسانية، لم يستعمل سوى لغة عربية ناصعة، كان يقول: “نجبر هذا بذاك”. أو: “نقابل هذا بذاك”. وأدخل رقما جديدا في الرياضيات سماه الصفر، وكان ذلك أعظم فتح في تاريخ البشرية تدين له به الحضارة في كل زمان ومكان (ومن يشك بذلك فليحاول أن يقوم بضرب عددين باستعمال الأرقام الرومانية). ولا تزال جميع شعوب العالم تستعمل الكلمة العربية “الجبر”  والكلمة العربية “صفر” لتدل على هذا العلم وهذا الرقم. كذلك هو الحال بالنسبة للعشرات من الكلمات العربية التي دخلت اللغات الأوروبية ومنها الكحول والقالي والسمت وكثير غيرها. 
يضيق المجال عن ذكر جميع العلماء العرب الذين طرقوا أبواب العلوم المختلفة من فلك وكيمياء وبصريات واجتماع وساهموا في دفع عجلة الحضارة الإنسانية، من يقرأ ما كتبه إبن باجّه في القرن الثاني عشر في نقد ما كتبه أرسطوا لا يسعه إلا أن يفخر بذلك العالم وذلك العصر ويأسف للحال المزرية التي نرتع بها اليوم.  
عندما شمر رواد النهضة العربية أمثال الشدياق وشبلي الشميل ويعقوب صروف وغيرهم عن سواعدهم للارتقاء بشعبهم من وهدة التخلف لم يكن لهم بد من إجادة العربية وهذا ما أتاح لهم استحداث العديد من الأسماء لاختراعات جديدة نشأت في الغرب وقد فعلوا ذلك في كل مجال وقد وضعوا أسماء كالدبابة والمدفع والطيارة والسيارة والمنطاد ومئات  غيرها لمخترعات غربية ولم يكن ذلك ممكنا لولا تمكنهم من لغتهم.   
سادت العربية عندما كانت لغة الأسياد أو الأسود إن شئتم وعامتنا اليوم عبيد ونعاج. يكفينا مذلة ومهانة أن نسبة الأميين بيننا تكاد تبلغ النصف والطامة الكبرى أن نسبة الأمية بين الإناث تتجاوز السبعين في المائة.
عندما ساد اليونانيون سادت لغتهم وجاء بعدهم الرومان فسادت اللاتينية لقرون طويلة واليوم نرى الإنجليزية تحتل الصدارة بين اللغات والكل يعلم أنها لا تفضل الفرنسية أو الألمانية أو العربية في شيء بل النقيض من ذلك هو الصحيح ولنضرب مثلا نحاول فيه المقابلة بين مرونة العربية في الاشتقاق وبين الإنچليزية :
كتب   WROTE
يكتب  WRITE
كتاب  BOOK
كاتب أو مؤلف  AUTHOR
مكتبة  LIBRARY
مصدر الفعل من الإنچليزية البائدة أما كتاب فمصدره من الألمانية القديمة boch .  مؤلف مصدرها من الكلمة الفرنسية augere  التي تعود إلى اللاتينية وكذلك مكتبة التي تعود إلى اللاتينية.  
الكل يعلم صعوبة كتابة اللغة الإنچليزية بدون أخطاء إملائية.  السبب؟ هناك ما لا يقل عن 1024 تشكيلا أو تركيبا إن شئتم في اللغة الإنچليزية يلفظ كل منها بطريقة مختلفة عن غيره.  كلنا يعلم سهولة كتابة العربية بدون أخطاء إملاء والتي يجيدها البعض في سن مبكرة جدا.
هذا غيض من فيض من الأمثلة التي تدل على تفوق العربية على اللغات المتفرعة من أصول لاتينية أو جرمانية أو سلاڤية المستعملة اليوم في أوروبا والأمريكتين وأستراليا وغيرها ناهيك عن اللغة الصينية واليابانية التي ليس لها أبجديات بل مقاطع يكتب كل منها على حدة، حتى أنهم يكتبون أسماء البلدان الأخرى بمقاطع تقارب لفظ الأصل قدر المستطاع فكلمة أستراليا يكتبونها ويلفظوها "آوداليا". 
كل من تسنى له الاطلاع ولو قليلا على أساليب البيان في اللغات المختلفة لا يسعه إلا أن يعترف بفضل العربية على غيرها. ولكن دعنا ننعم النظر في الكلمات التالية: نبأ، نبّ، نبت، نبث، نبج، نبح، نبخ، نبذ، نبر، نبس، نبش، نبع، نبغ، نبص، نبض، نبط، نبك،نبل، نبه. هل رأيت ماذا يحصل عندما نبدل آخر حرف في الكلمة؟ كلها تفيد معنى الظهور أو الارتفاع ولكن كل كلمة تختص بحالة بعينها وإذا شئت أن تطّلع على جميع تلك المعاني فعليك بمعجم يفي بالغرض. هذه الخاصة العجيبة قلما تجد لها مثيلا في اللغات الأخرى. وهذا أيضا ينطبق على إبدال الحرف في وسط الكلمة أو الحشو، وإبدال الحرف الذي في نهايتها وهو الكسع.  ولعل من أعجب خصائص العربية أنك لو قرأت بعض الأفعال بترتيب عكسي لحروفها لانعكس المعنى.  لنأخذ مثلا كلمة كتب التي تعني جمع أو ضم الأشياء معا ومن هنا جاءت كلمة كتابة التي تعني ضم الحروف لتكوِّن كلمة، وكلمة كتيبة التي تعني مجموعة من الجنود.  عندما نقرأها معكوسة نحصل على كلمة بتك ومعناها قَطَعَ أو شَقَّ وهي نقيض الجمع والضم وقد جاء في القرآن الكريم: “وَلْيَبْتُكَنَّ آذانَ الأَنعام”.  هذا غيض من فيض من مزايا العربية التي لا تتمتع بها لغة سواها.
أما إذا ما سلمنا بأن العامية تصلح (بقدرة قادر) لأن ترتقي وتتسع لكل علم وفن ومأرب، ترى من أي عامية ننطلق؟ المغربية أم اليمنية أم اللبنانية أم المصرية أم العراقية أم أم أم؟ أم الأفضل أن “يطوّر” كل بلد عربي عامّيته لنخلق برج بابل العربي؟  وليكن لنا من محاولة سعيد عقل البائسة قبل أكثر من نصف قرن في استبدال الفصحى بالعامية اللبنانية درس وعظة. الأهم من ذلك: ماذا نفعل بالقرآن الكريم وبتراثنا العريق من الشعر والنثر؟ هل نترجمه إلى العامية الجديدة؟ أو العاميات الجديدة؟
ظلت العبرية لغة محنطة ما يقرب من ألفي عام، لا تكاد تستعمل إلا في داخل الكنيس والمناسبات الدينية حتى انبرى لها شخص يدعى إليعيزر بن يهوداه (1922-1858) الذي اعتقد أن بعث “الشعب” اليهودي لا يتم دون إحياء اللغة العبرية فجعل منها لغة حية، رغم العيوب العديدة التي تشوبها،  ومن يراقب النمو المطرد للغة العبرية لا يسعه إلا أن يأسف لحال اللغة العربية.
ما لم نجيد لغتنا سيظل السامع والقارئ يعاني من سوء إفهام الناطق والكاتب؟ 
سيظل الكلام البليغ، الفصيح، سيد الكلام في كل مقام، ما دام هناك عروق تنبض بحب العربية وقوم يغارون على تراثهم وحضارتهم. 

رحم الله حافظ إبراهيم الذي حذر وأنذر، حين قال بلسان لغة الضاد في قصيدته “ اللغة العربية تنعي حظها”:

أنا البحر في أحشائه الدر كامن           فهل ساءلوا الغوّاص عن صدفاتي؟
أرى كل يوم بالجرائد مزلقا من القبر يدنيني بغير أناة
سرت لوثة الإفرنج فيها كما سرى          لعاب الأفاعي في مسيل فرات
فجاءت كثوب ضم سبعين رقعة مشكلة الألوان مختلفات

وإذا أصبحت لغة قوم ما، مشكلة الألوان مرقعة المعاني فبشرهم بزوال حضارتهم! لتحل محلها حضارة ممزقة مرقعة بكل جوانبها.

عصام زكي عراف
معليا، الجليل الغربي


Saturday 3 November 2012

المتشاعر

إلى المتشاعرين ومراهقي الكتابة:   

إلى هؤلاء الذين اتخذوا من الجهل مطية، ومن الحمق ركية، ومن الوهم أعشاشا، ومن الغباء فراشا، ومن الضلال قلادة، ومن الغرور وسادة، ومن الهذيان لواءا، ومن الخمول غذاءا، ومن الكسل مقعدا، ومن النرجسية معبدا، ومن الخداع ملاذا، ومن النفاق معاذا، ومن الحمق قرينا، ومن الكذب خدينا.  هؤلاء الذين تحالفوا عن عمد وإصرار أو عن جهل واستهتار، أن لا يهدأ لهم بال، حتى يدقوا آخر مسمار، في نعش ما تبقى من حشاشة، من الحضارة العربية المحتضرة.

المتشاعر

مُتَمَشعِرٌ مُتَشاعَرٌ شُعرورُ                       جَمَحَ الغُرورُ بِهِ فَكادَ يَطيرُ
يَهذي كَما المَحموم ضَيّع رُشدَهُ                 فَيَخالُ جبريلٌ أتاه يزورُ
فيقول: يا قوم انصِتوا وتَفَقَّهوا                  قد جاءكم بالبَيِّناتِ نذيرُ
هَيّا اطرَحوا ما قيل قبلي واعزِفوا              عَمّا يجيء فَكُلّه مبتور
أنا خاتمُ الشعراء معجزة الورى                 عَكَفَت على بابي النجومُ تدور
أنا ذلك العَلَم الذي من علمه                       قَبَسَ الجميع وغار منه الطور
"يَتَسَلَّقُ اللُّجاتِ" "يغطس في الهوا"           ويظنُّ ريح هَرائه الكافور
ويعيب منثور الكرام ونَظمَهم                      وهو الصبي الجاهل المغرور
عقل الرَّضيع يزيد عنه فِطنةً                       ويفوقُ حَدَّ ذَكائه العصفور
يغدو كما الطاؤوس ينفش ريشه                  وعلى المنابر كالحَباب يفور
وهو الحُباحِبُ إن بدا وقتَ الدّجى                أيقنتَ لا نارٌ بدت أو نور

عصام زكي عراف

معليا، الجليل الغربي

   التعقيبات:   

  1)  معين خلف ‭\‬ رام الله :    شاعر متمرس-   21:40:00   18/07/2009

 بأجنحة البزاة تطير صعدا             وذاك نعامة أنى يطيرُ ؟


Thursday 1 November 2012

أقول لعيسى

 أقول لعيسى

                     
كان تبادل القصائد بين الشعراء شائعا جدا في ما مضى، وقد دعاه البعض "شعر الإخوانيات"، وهذه القصائد ليست سوى رسائل منظومة على بحر واحد ورَويّ واحد، يتبادلها الشعراء، وقراءتها لا تخلو من فائدة ومتعة لما فيها أحيانا من كلمات تقع عليها عين القارئ لأول مرة، أو حكمة سائرة، أو وصف بليغ، أو تشبيه جميل، أو قول مأثور وغير ذلك.
عندما كنت في سيدني، في شهر تشرين الثاني من العام المنصرم، أرسل إلي الشاعر عيسى خوري، من قريتنا معليا، قصيدة طويلة مطلعها:
جمال يعز النفس من سحر ناطق           يفوق جمال الغادة المتناسقِ
ومنها أيضا:
رأيت عصامًا صاعدًا نحو ذروةٍ           لينظر منها في خفايا الحقائقِ

فأجبته بالقصيدة التالية:
إلى الشاعر عيسى الخوري
معليا، الجليل الغربي
من: عصام زكي عراف
سيدني، أستراليا، في 23-11-2011

أقول لعيسى الفذّ شهم الخلائقِ                إليك سلامي من أقاصي المشارقِ
عهدتك فيّاض القريحة مُلهماً                   تروضُ القوافي ريض طَبٍ وحاذقِ
تخوض ميادين القريض بسابح                ولا تأتي إلا في عداد السوابقِ
ولا زلت ملء السمع والعين والعلى           ولا تخشى لوما في سبيل الحقائقِ
وتعشق نُبل الفعل والقول والإبا                وتُعرِضُ  عن حسن المِلاح الغَرانقِ
تعيش بأحلام النسور وتبتغي                 وُصولا إلى الجوزاء فوق الشّواهقِ
وتؤثر قول الصدق في كل حالة               وتنفر من قرب الجليس المُماذقِ
خُلقت كريما لا تميل إلى الأذى              صديقا وفيا حاضرا كمفارقِ
بعثت بأبيات إلي كأنها                        نسائم هبَّت من زهور الحدائقِ
وتحمل في طيّاتها سرَّ  شاعر               يجود بشعر كالسيول الدوافقِ
تفيض بأفكار سمت في سمائها              وقد لمعت فيها صنوف البوارقِ
وتخفق فوق الباسقات بجنحها                كما خفقت في الجو جنح البواشقِ
فلما استَقَلَّت ساحة الأرض حَلَّقَت            تروم بقرب الشمس نصب السُّرادقِ
يظن جهولُ  القوم أنك دونه                    وكم في حمانا من جهول ومائقِ
يغلف أجساما بخزٍّ ومُطرَفٍ                   ويحسب أن العيش جمع الدوانقِ
يعيش كعَيْرٍ في الفلاة مُغفَّل                  وإن رام قولا كان صِنْوَ العَقاعِقِ
وكم من بَليدٍ صيَّرتهُ يدُ الغنى                 مُصَعِّرَ خدٍّ مُسرِفا في التشادُقِ
وأقصى مناه ملءَ بطنٍ وكِظَّةٍ                 وما زاد عقلا عن عقول النَّقانقِ
وما العيش إلا نشوةٌ تأخذ الحِجَى          تعود  بفهم  للأمور  الدَّقائقِ
فلا تكترث إن لاكَ ذكرك ناعبٌ               فما ضار نسرا لغوُ  سرب النواعقِ 

شرح معاني بعض الكلمات:

الطّب: الخبير. الحاذق: الذي يتقن مهنته. القريض: الشعر.
السابح: الجواد الذي يمد يديه معا عند الجري.  الغرانق: الشابة الجميلة الممتلئة الناعمة.
الجوزاء: أحد أبراج السماء. المماذق: المتلون، غير المخلص. 
البواشق: جمع باشق وهو من الطيور الجوارح التي يصاد بها.
السرادق: الذي يُمَدُّ فَوْقَ صَحْنِ البَيْتِ.
المائق: الأحمق، الغبي.
الدوانق: جمع دانق وهو سدس الدينار.
العقاعق: جمع عقعق وهو طائر أبقع كريه الصوت.  مصعر خد: مزهو بنفسه ومتعال
الكظة: منتهى امتلاء المعدة
النقانق: جمع نقنق وهو الظليم أي ذكر النعام، ويوصف النعام بالغفلة والحمق لصغر مخه.
الحجى: العقل.  نعب الغراب وغيره: صاح وصوَّت
النواعق: الغربان، يقال نعق الغراب ونغق ونعب