Monday 24 December 2012

عظة الميلاد - لمارون عبود

عظة الميلاد، لمارون عبود

"الحق الحق أقول لك، إن من لم يولد الإنسان ثانية فلا يقدر أن يعاين ملكوت الله". 

العظة التالية أوردها الكاتب المعروف مارون عبود، في أقصوصة له سماها "وعظة وديك"، بعد أن حل من خلال عمله الحكومي، على قرية في إحدى جبال كسروان في شتاء عام 1917، وهو عام المجاعة التي فتكت بالالاف من اللبنانيين وغيرهم خلال الحرب العالمية الأولى، ليجد أن كاهن تلك القرية ويدعى إبراهيم، ليس سوى أحد زملائه في مدرسة الحكمة في ما مضى. سقط الثلج غزيرا، فحبسه في تلك القرية لعدة أيام حل خلالها عيد الميلاد. بعد إلحاح من زميله، ذهب الكاتب لحضور قداس منتصف الليل في كنيسة القرية، حيث استمع إلى عظة الميلاد من فم ذلك الزميل فنقلها في أقصوصة شيقة، والحق يقال، إن مارون عبود، من أبرع كتاب القصة والأقصوصة، بالإضافة إلى نقده الاجتماعي والسياسي والأدبي الرصين ودراساته وترجماته الكثيرة، كما أنه شاعر مقل، وقد دعا وليده البكر محمد، وهو الماروني العتيق، ليكون لنا قدوة في التعالي فوق الطائفية البغيضة، وقد قرأت جميع مؤلفاته دون استثناء، فسعدت وأفدت بقراءتها.

عظة الخوري إبراهيم في عيد الميلاد:

يا إخوتي المباركين،
عيد الميلاد هو عيد ولادة البشر كل عام، كما قال الرب يسوع لنيقوديمس: "الحق الحق أقول لك، إن من لم يولد الإنسان ثانية فلا يقدر أن يعاين ملكوت الله.
فأجاب نيقوديموس: "وكيف يمكن هذا؟
فأجاب الرب يسوع: "أنت معلم إسرائيل وتجهل هذه؟"
أتعلمون ماذا أراد المعلم؟
إن المعلم يريد أن نولد بالروح، أن نولد بالرجاء، أن نولد بالمحبة، أن أن نولد كل عام بتعاليمه، ولو تحققت هذه الولادة لما كانت هذه الحرب العالمية.
إن هيرودس وبيلاطس وقيافا يبرزون كل عام إلى الميدان ليحولوا دون هذا الميلاد، كما أرادوا قتله في ذلك الزمان. يريدون إطفاء سراج الإنجيل الذي خلق عالما جديدا. لا أدري ما أقول عن الهيرودسيين والبيلاطسيين أعداء السلام المسيحي الذي ولد في مثل هذا اليوم، الذي لا حياة للدنيا بدونه.
لا أحدثكم عن يسوع الإله، بل عن يسوع ابن الإنسان، فأقول لكم إن عيد ميلاده، هو عيد ميلاد حقاً، ولحكمة فائقة جعلته أمنا الكنيسة المقدسة في هذا اليوم. إن الطبيعة التي قال لها كوني فكانت، تولد اليوم. أليس الشتاء كالميلاد؟ والربيع مثل الشباب؟ والصيف كالكهولة؟ والخريف مثل الشيخوخة؟ أليست الشمس تولد اليوم من جديد فتصعد إلى أعالي القبة؟ وكذلك النهار، فهو ينمو مع السيد، ومعنى هذا، ميلاد النور والحق والحياة.
ثم التفت نحوي وقال كالمتوجع: "آه من البشر! كل شيء يتجدد مع الميلاد إلا الإنسان، الإنسان لا يريد أن يولد مع المعلم، لا يريد أن يفهم معنى الميلاد الحقيقي، إن الحيوانات كانت أرأف بالطفل من البشر، الحيوانات أعطته كل ما تملك، ومن كل قلبها، أعطته جزءاً من نفسها، أي حرارة تدفئه، بينما ملوك العالم، أي المجوس، أعطوه من فضلاتهم، مرا وذهبا ولبانا، نعم، إن سجود هؤلاء الملوك السحرة له، هو اعتراف بعهد جديد، عهد حرية بني الإنسان، عهد تغلُّب الحق على الشعوذة، ولكن ما حاجة يسوع إلى ذهبهم وهو القائل: "يا بني، أعطني قلبك؟". إن زعماء البشر أعطوه المال الذي أبغضه وداسه ولم يعطه من قلبه ونفسه إلا البهائم فكانوا خيرا منا. الحيوان يكتفي بقتل حيوان، أما الإنسان فيقتل إخوانه جملة ولا يكتفي. ألا ترون هذا بأعينكم؟ أما ندفن كل أسبوع أربعة أو خمسة؟
يا إخوتي، هل تعلمون لماذا سمَّى يوحنا الحبيب، الطفل يسوع كلمة الله؟ إن في ذلك سرا عظيما، فالكلمة هي سر السلام، سر المسرَّة، سر الرجاء الصالح. ألا يقول المثل: "من وطَّأ كلمة، وطَّأ جبلا؟ ولو نبتت كلمة الله في قلب هيرودس وبيلاطس لما كان الشر الذي نلقى غبَّه اليوم.
إن الطفل الذي نحتفل بعيد ميلاده اليوم، هو الدائرة التي تضم في قلبها الإنسانية كلها، وإن خرجت الإنسانية منها، أكل بعضها بعضا كالوحوش الضارية، والبرهان ما ترون وما تسمعون، فكما يخلق البرق والرعد الكمأة في الصحراء، كذلك تخلق فينا كلمة الله المحبة، وحيث تكون المحبة يكون الإيمان، وحيث يكون الإيمان كان الرجاء والسلام.
إن النجم الذي قاد المجوس إلى المغارة، هو رمز الإنجيل الذي قاد العالم إلى ميناء السلام والاطمئنان، ويا ليت هذا النجم يطلع كل عام في سماء الإنسانية، ليهديها إلى القناعة، فمغارة الميلاد استحالت قلعة محصنة بالرشاشات والمدافع والقنابل، وشجرته أمست كتلك الشجرة الهندية التي يقولون إنها تأكل البشر، وكل هذا من ظلم هيرودس، وطمع بيلاطس، وجشع يوحانان، وأنانية قيافا، وفتور إيماننا نحن، فيا ليت الملوك يولدون مع المسيح لتستريح الإنسانية المعذبة، الجائعة العارية. إن النفوس التي اشتراها المسيح، صارت عندهم أرخص من الزبل.
أيها الأحباء!
إن الميلاد يجب أن يتجدد في كل مكان، في البيوت، وفي المدارس، وفي الحكومات، وبدون ذلك لا تتقدم البشرية.
سمعنا أن المتحاربين يكفون عن القتال في مثل هذا اليوم إكراما للميلاد، ولو كانوا يولدون معه، لألقوا سلاحهم تحت قدميه.
فاجعل يا ربنا وإلهنا، ميلادك ميلادا حقيقا، وانهِض الإنسانية من سقطتها، إنك أرحم الراحمين، آمين.
ويختم مارون عبود قصته قائلا:
وانتقلنا بعد القداس إلى بيت أبينا الخوري. وفي ما نحن نأكل ديك الميلاد ونشرب عليه خمرة لم يذق مثلها الأخطل، قال الخوري إبراهيم:
كيف وجدتني؟ فأجبته:
المحبة تخلق كل شيء، حتى البلاغة. عيد مبارك.



عصام زكي عراف
معليا، الجليل الغربي
عن موقع عرب 48

No comments:

Post a Comment