Friday 5 September 2014

أخطاء وافتراآت مصطفى يوسف اللداوي

أخطاء وافتراآت مصطفى يوسف اللداوي.




كتب مصطفى اللداوي مقالا نشرته بعض المواقع والصحف، بعنوان «البابا يعترف في بيت لحم» استهله بالفقرة التالية:

«تُرى هل جلس بابا الفاتيكان فرنسيس الأول بصفاءٍ مع نفسه، وطهرٍ من قلبه، بتصميمٍ وإرادة، ووعيٍ ومسؤولية، ليعترف أمام العالم كله بذنب قومه، وجريمة أتباعه، والخطيئة الكبرى التي اقترفها قادة شعوبه، وحكام بلاده، عندما سهلوا قديماً اغتصاب اليهود لأرض فلسطين، وهجرتهم إليها، واستيطانهم فيها، وطردهم لشعبها، وحرمانه من كل حقوقه المشروعة فيها».

إنها لبراعة فريدة أن يكدِّس الكاتب مثل هذا الجهل والافتراء في فقرة واحدة ناهيك عن تكرار الكلام والحشو الذي لا طائل تحته!

الحقائق التاريخية تقول ما يلي: 

مدينة الڤاتيكان التي يقيم فيها الباباوات وعدد المقيمين فيها اليوم يقرب من 840 نسمة تنتشر على مساحة  440,000 من الأمتار المربعة وقد اتخذت مقام دولة في الحادي عشر من شهر شباط لسنة 1929 باتفاق وقعه الكاردينال پيترو چاسپاري بالنيابة عن البابا پيوس الحادي عشر ورئيس الوزراء الإيطالي بينيتو موسوليني بالنيابة عن ملك إيطاليا في ذلك الحين، ڤيكتور إمانويل الثالث، وقَضى ذلك الاتفاق بأن تكون مدينة الڤاتيكان دولة مستقلة بكل ما في تلك الكلمة من معنى، فهي من هذا الوجه أصغر دولة في العالم مساحة وسكانا، أما الإسم فإن مصدره الكلمة اللاتينية ڤاتيكانوس مونس vaticanus mons أي تلة أو جبل النبوآت (إحدى تلال روما السبع، قديما) حيث كان العرافون يدلون بنبوآتهم على هذه التلة أيام الرومان.

مما أوردته أعلاه نستدل بأن البابا فرانسيس الأول يقيم في مدينة الڤاتيكان وهو الحاكم الإداري المطلق السلطة في هذه المدينة فقط لا غير، ولا سلطة له على أي شبر مربع آخر من بقاع الأرض، وهو رأس الكنيسة الكاثوليكية في العالم ومن الصواب أن يُدعَى «بابا الكاثوليك» وليس «بابا الڤاتيكان»، كما نقول «بابا الأقباط» أي رأس الكنيسة القبطية كما أن هناك الكنيسة الأنچليكانية التي يرأسها رئيس أساقفة كانتربري وغير ذلك من الكنائس الأخرى كالأرثوذكسية وغيرها.

وعليه، فإن البابا ليس له أي سلطة مدنية على أتباع الكنيسة الكاثوليكية حيث ما حلوا، وما هو بصاحب الأمر في أي بلد من البلدان التي يقطنها أكثرية من الكاثوليك، وبالتأكيد لا شأن له في أمور الذين ينتمون لكنائس أخرى كالأرثوذكسية أو البروتستانتية أو الأنچليكانية أو غيرها.

والأمر كذلك فإن ما أورده الكاتب هو جهل بحقيقة الأمور، لأن “العالم المسيحي” الذي يعتقد الكاتب أن البابا زعيمه ليس له وجود إلا في أوهام الكاتب وذلك لأن الدول الأوروبية والولايات المتحدة وكندا ودول وسط وجنوب أميركا وأستراليا والفيلپين وغيرها ليست سوى دول رأسمالية مثلها مثل العديد من الدول العربية وتركيا وإيران والعديد من دول آسيا كاليابان وكوريا الجنوبية، وكم من حروب طاحنة خاضتها تلك الدول المسيحية الواحدة ضد الأخرى وكفى بالحربين العالميتين في القرن العشرين برهانا على ما أقول وعشرات الحروب في القرون السابقة يعرفها كل من قرأ تاريخ العالم.

من الجدير بالذكر أن المسيحية في جوهرها ليست دين ودولة، بل هناك فصل كامل بين الدين والدولة ومعظم الدول الديمقراطية تتبع ما اصطلح على تسميته «نظام ويستمنستمر» البريطاني الأصل، وهو القائم على ثلاث سلطات مستقلة، التشريعية والقضائية والتنفيذية، حيث أن السلطة القضائية تقضي حسب القوانين التي تسنها السلطة التشريعية والسلطة التنفيذية تنفذ أحكام القضاء وتتقيد في تصريفها لشؤون الدولة بالدستور والقوانين التي تسنّها السلطة التشريعية، وقد قال المسيح بوضوح لا لبس فيه للذين سألوه إذا كان من الجائز دفع الضرائب للوالي الروماني الذي يحكم باسم القيصر في روما:

«أعطوا ما لقيصر لقيصر وما لله لله». 

«القيصر» هي الحكومة في أيامنا وهي التي تهتم بأمور المواطنين في الدولة فتوفر الأمن ومعاهد التعليم وخدمات الصحة وغير ذلك من المصالح التي يحتاجها المواطنون، ولا بد لها من جمع الضرائب من المواطنين للقيام بمسؤولياتها، أما الله فلا يطلب منا سوى عمل الخير، وما كان من انغماس الباباوات في الشؤون السياسية في العصور الغابرة ليس سوى انحراف مذموم عن تعاليم المسيح وقد بدأت نهايته مع نشوب الثورة الفرنسية وتلاشى في ما بعد.

لست أدري ما الذي يحمل الكاتب على أن يطلب من البابا أن يعتذر ويستغفر ويندم على ما لحق بالفلسطينيين من قتل وجور وتشريد ومعاناة خلال الاستيطان الصهيوني منذ أيام الأتراك إلى عهد الانتداب وما بعد قيام إسرائيل في الخامس عشر من شهر أيار لسنة 1948.

المسيحي يؤمن بأن المسيح الذي جاء في عهد الوالي الروماني پونتيوس پايليت هو المخلص الذي ورد ذكره في كتب الأنبياء، خاصة كتاب أشعيا وقد آمن به بعض اليهود وأنكر ذلك البعض الآخر منهم، خاصة الصدوقيون أصحاب الأمر والنهي، وهم حلفاء الرومان وسدنة الهيكل في ذلك الوقت وكل من جاء بعدهم من اليهود حتى يومنا هذا يعتقد أن المسيح لم يأت بعد، وأن المسيحيين يتبعون تعاليم شاب يهودي ضال وكاذب، انتحل شخصية المسيح زورا وبهتانا وأغرى الناس باتباعه، أي أن جميع المسيحيين على ضلال، ولا أظن مسيحيا يجهل ذلك، ولذلك فإن زعم الكاتب بأن المسيحيين عطفوا على اليهود لدوافع دينية وساعدوهم على الاستيلاء على فلسطين، وهي مهد المسيحية، يناقض المنطق السليم، فقد عانى يهود أوروبا من بغض المسيحيين لهم والاضطهاد الديني لقرون طويلة، فكيف تحولت تلك الكراهية إلى محبة وعطف بين ليلة وضحاها؟ 

قضية فلسطين لم تكن قضية دينية في نظر عامة الأوروبيين في القرن التاسع عشر.  القضية الأهم كانت ولا تزال ضمان أمن أوروبا التي كانت على وشك السقوط في يد الأتراك لو لم يندحر الجيش العثماني في الثاني عشر من شهر أيلول لسنة 1683 على أبواب مدينة ڤينا بعد حصار دام شهرين وكان سبب اندحاره نجدة ملك بولندا في اللحظة الأخيرة، وقد سبقه حصار آخر سنة 1529 لمدينة ڤينا كان مصيره الإخفاق أيضا لكن تلك الحملات كانت ترمي إلى احتلال أوروبا وهذا ما حفر في ذاكرة الأوروبيين أخاديد لم ولن تمحى، أي أن أوروبا تعيش في ظل قلق دائم من نشوء قوة في الشرق تهدد أمنها منذ سقوط  القسطنطينية في يد الأتراك سنة 1453.  لا بد من التنويه أيضا أن الهند كانت قد أصبحت أهم مستعمرة بريطانية في منتصف القرن التاسع عشر بعد ما يقرب من نصف قرن من الزحف الاستعماري البريطاني عليها وهذا ما زاد من أهمية الهيمنة الأوروبية على غرب آسيا خاصة بعد حفر قناة السويس التي أصبحت الممر المائي الأهم الذي يربط دول أوروبا بمستعمراتها في شرق وجنوب آسيا كإندونيسيا والفيلپين وغيرها. 

بعد تلك الحملات نشأ إجماع أوروبي على الحؤول دون قيام قوة تهدد أمنها من الشرق وهذا ما اصطلح على تسميته في أوروبا بالمسألة الشرقية أو القضية الشرقية.  

ظهر موقف أوروبا الموحد في مؤتمر لندن الذي عقد بعد انتصار إبراهيم باشا على الجيش العثماني في معركة نصيبين، واستسلام الأسطول العثماني لمحمد علي سنة 1839 وكان ذلك سببا في انعقاد مؤتمر لندن الذي انتهى بتاريخ 15 تموز لسنة 1840 بتوقيع معاهدة بين كل من بريطانيا وروسيا وبروسيا والنمسا وتركيا اضطر على أثرها محمد علي إلى سحب قواته من بلاد الشام.

ولأن الفصل بين شرق العالم العربي وغربه، للحؤول دون وحدته، لا يتم إلا بالسيطرة على فلسطين لكونها همزة الوصل بين شِقَّيه، كان لا بد من إنشاء كيان غير عربي يتولى هذه المهمة.  لم يكن بوسع البريطانيين استنباط أي ذريعة للاستيطان في فلسطين وإقامة كيان لهم هناك  مثل ما استوطنوا في أميركا وأستراليا ونيوزيلاند وغيرها، فلم يجدوا خيرا من اليهود ليقوموا بالاستيطان بالوكالة عنهم، لأن اليهود فقط باستطاعتهم أن يوفِّروا الذريعة اللازمة وذلك بأن يزعموا بأنّ لهم الحق المشروع في فلسطين لأنها أرض الميعاد كما جاء في التوراة وقد كان لهم فيها مملكة في الماضي ولهم الحق في إعادة بناء تلك المملكة، بغض النظر عن أنّ الغالبية العظمى منهم لا تمت بصلة إلى قدماء اليهود، فيهود أوروبا معظمهم ينحدر من أصول خزرية، ويهود شمال إفريقية من أصول بربرية.

بعد هزيمة الجيش العثماني في نصيبين، أرسل تشارلز هنري تشرتشل، القنصل البريطاني في دمشق في ذلك الحين والذي عُرف بين السكان المحليين باسم تشرتشل بك، أرسل كتابين إلى موشيه مونتيفيوري زعيم اليهود البريطانيين، الأول بتاريخ 14 حزيران 1841 والثاني بتاريخ 15 آب 1842 يحثه فيهما على استيطان اليهود في فلسطين (ولا أظن أن قلبه كان يتفطر أسى شفقة على اليهود في بريطانيا، خاصة وأنهم كانوا في حال يحسدهم عليها باقي يهود أوروبا) وبذلك يكون أول من أرسى الأساس للحركة الصهيونية قبل قيامها بأكثر من نصف قرن!  كما أن پالمرستون وزير الخارجية البريطانية في ذلك الحين أرسل بتاريخ 11 آب 1840 كتابا إلى پونسونبي السفير البريطاني في الآستانة يطلب منه إقناع السلطان بتشجيع هجرة اليهود إلى فلسطين ليقفوا في وجه المطامع الشريرة لمحمد علي والإفادة من الأموال اليهودية التي ستتدفق على خزينة السلطان نتيجة تلك الهجرة.

لم يتحقق الحلم البريطاني إلا بعد قيام الحركة الصهيونية رسميا بعد مؤتمر بازل سنة 1897 بمبادرة من ثيودور هِرتسل لأسباب لا مجال لسردها هنا ثم كانت الحرب العالمية الأولى واتفاقية سايكس- پيكو وخدعة البريطانيين للعرب الذي انضموا للحرب ضد تركيا بقيادة الشريف حسين وأولاده وهم لا يعلمون ما يبيّته البريطانيون لهم حتى نشر وعد بالفور، ثم الانتداب البريطاني بقرار من عصبة الأمم، الذي فتح أبواب فلسطين على مصراعيها للهجرة اليهودية وكان ما كان!

لست أدري لماذا ينحو الكاتب باللائمة على الغرب ويحمله مسؤولية تشريد الشعب العربي القاطن في فلسطين ولا ينحو باللائمة على الضعف والتخلف والفساد العثماني والعربي والخيانة التي كان يمارسها الولاة والموظفون العثمانيون وغيرهم من زعماء وشيوخ وأمراء وإقطاعيين عرب الذين لولا تواطؤهم وتعاونهم مع بريطانيا والحركة الصهيونية لما تمزق العالم العربي برمته شر ممزق، فها هي بلاد العرب تطحنها حروب غيّرت معالمها وأعادتها إلى الخلف سنوات ستجعل منها دويلات لا شأن لها، بعد أن أحرقت البشر والشجر ونسفت الحجر.

كان الأولى بالكاتب مصطفى يوسف اللداوي قبل أن يكتب مقاله أن يتأكد من صحة مزاعمه والأجدر به أن يعتذر عن الإفتراآت والاتهامات التي أطلقها دون التحقق منها.

لو كان الغرب مسيحيا حقا لما عمل على اجتثاث المسيحيين من الشرق منذ القرن التاسع عشر. كان المسيحيون في منتصف القرن التاسع عشر يمثلون ما يقرب من ثلث السكان في بلاد الشام ومصر وكانوا رواد النهضة في كل مجال، وها هم اليوم يختفون تدريجيا من الكثير من المناطق التي عمروها منذ ما يقرب من ألفي سنة، وما حدث لمسيحيي العراق في ظل الحراب الأميركية لا يخفى على أحد، وما حدث في معلولا وصدد وكسب وغيرها من الجرائم في الآونة الأخيرة شاهده «العالم المسيحي» المزعوم بأسره وهو يفرك يديه من الفرح سرا.

عصام زكي عراف
معليا 
الجليل الغربي