على مدى أربعة أيام عاشت مدينة عكا أحداثا غير عادية. كانت الشرارة حادث عرضي أثاره دخول مواطن من المدينة يدعى توفيق الجمل بسيارته إلى الحي الذي تسكنه غالبية
من اليهود المتدينين في يوم الغفران الموافق 8-10-2008، مما أثار حفيظتهم
وأدَّى الى رجم سيارته بالحجارة وتطويق البيت الذي لجأ اليه من قبل مئات
المتدينين اليهود. سرت بعد الحادث إشاعات أن السائق قد قتل، أعقبت موجة من الغضب من جانب الشباب العرب الذي هرع للمكان وقام بتحطيم واجهات
الحوانيت وحرق السيارات. ولم يقف الطرف الآخر مكتوف اليدين، بل ردّ بالمثل
من خلال الإقدام على حرق ثلاثة بيوت من سكان الحي الشرقي للعرب على مدى
ثلاثة أيام متتالية – الطرف الوحيد الذي لم يحرك ساكنا كان الشرطة التي
عجزت عن القضاء على العنف.
إثر تلك الأحداث المؤلمة كتب صديقي المؤرخ شلوموه زند مقالا وأرسله إلى الصحف العبرية فأحجمت جميعها عن نشره، (كما فعلت من قبل مع مقال آخر) فأرسله إلي مع ملاحظة جاء فيها:
"مقال آخر، قوبل بالرفض"، فترجمته ونشرته في موقع عرب ٤٨ تحت عنوان:
الاستعلاء والغطرسة وليس الدين
منذ بزوغ فجر الأنظمة الديمقراطية الليبرالية في الدول
الغربية، انحسرت الطقوس والشعائر الدينية - التي قد تمس بشعور الآخرين - عن
الأماكن العامة وانحصرت في دور العبادة والأماكن الخاصة، بينما حرصت
المؤسسات المدنية للدولة على الابتعاد عن تلك الأماكن. كانت الغاية من ذلك
الفصل، الحؤول دون الاحتكاكات التي ظلت على مر العصور، ولقرون طويلة، تشعل
الفتن وتأجج العداوات، التي سُفكت دماء الكثير من البشر بسببها، وألحقت
الدمار الذي يعرفه كل من درس التاريخ. من سوء حظنا أن الكثير من الدول
والمجتمعات لم تنجح في تطبيق هذه الممارسات الرشيدة، لكنها تظل المثل
الأعلى في التّنَوُّر الذي يجب أن يُسعَى إليه ليسود العلاقات بين البشر في
كل مكان وزمان.
حيث أن الحركة الصهيونية دعت منذ نشأتها إلى إقامة وطن لليهود الذين يعيشون في مختلف أصقاع الأرض، وهم في الواقع من أصول مختلفة ولا يجمع بينهم سوى الدين، فقد كان على القيادة الإسرائيلية أن تضفي شيئا من الصبغة الدينية على الدولة، في الوقت الذي كانت الغالبية العظمى من تلك القيادة علمانية محض، وذات ميول اشتراكية، والدليل على ذلك أن القرى الزراعية التي أقامها المستوطنون اليهود كانت قرى تعاونية اشتراكية تخلو من الملكية الفردية، إذ أن أعضاءها لم يملكوا في الواقع سوى ملابسهم وبعض لوازمهم الشخصية، حتى أن أطفالهم كانوا ينامون في مهجع مشترك وليس مع ذويهم. لذلك أصبحت دولة أسرائيل دولة علمانية في حقيقتها، تحاول أن تبدو دينية في ظاهرها كما وصفها المفكر اليهودي المعروف يشعياهو ليبوڤيتش.
يوم الغفران - حسب التقاليد الدينية اليهودية - هو كاسمه: يوم توبة واستغفار، يوم مقدس، يصوم فيه اليهودي عن الطعام والشراب ويصلي ويتألم من أجل غفران خطاياه وتطهير نفسه. منذ إقامة دولة إسرائيل، صار يوم الغفران أحد الأعياد الرسمية وخلال العقود الستة لوجودها أضيفت إليه معان أخرى.
في عيد الغفران الماضي، جمع سوء الحظ بين توفيق جمال وبين ما يتوهم عامة الناس أنه القبضة الفولاذية لـ "العقيدة اليهودية" في عكا، المدينة المختلطة، حين ركب سيارته في ساعة متأخرة من الليل ليحضر ابنته إلى البيت من بيت خطيبها. كانت تلك "خطيئة" لا تغتفر في نظر القوزاق اليهود الجدد، فرجموه بالحجارة، والآن تحاول دولة إسرائيل إتمام القصاص الذي بدأ به القوزاق المارقون على القانون بتقديم توفيق جمال للمحاكمة.
المستغرب في الأمر هو أن "الجريمة" التي يستحق توفيق جمال القصاص بسببها هي أمر مألوف في المدن اليهودية في يوم الغفران، حيث تتحول الشوارع الخالية من السيارات والأماكن العامة إلى حلبات واسعة للهو للآلاف من الصبية والفتية اليهود يركبون فيها دراجاتهم ويستمتعون باستيلائهم على الشوارع التي خلت من السيارات. كيف يجوز إذن، اتهام توفيق جمال بالمس بالشعور الديني لليهود؟
إذا كان الأمر يتعلق بتطبيق الشريعة اليهودية، يحق لنا أن نتساءل:
"لماذا لا يعتبر استعمال الفتية اليهود للدراجات في المدن اليهودية مخالفة تسيء إلى المشاعر الدينية لأبناء ملتهم، يستحقون العقاب عليها أسوة بتوفيق جمال؟"
سؤال آخر لا بد منه:
"ألا يعتبر قذف اليهود "الخُلَّص" للحجارة وتحطيمهم لواجهات المحلات التجارية في الشوارع والأماكن العامة على الملأ إهانة وإساءة مدوية لشعائر العيد المألوفة منذ القدم حيث يقوم المؤمن بتواضع بطلب الغفران من ربه؟"
لن تستطيع الشرطة ولا المدعي العام الإجابة على هذين السؤالين، لأن ذلك من اختصاص المراجع الدينية اليهودية، غير أنها مهما قضت في الأمر فإنها تفتقر إلى السلطة التي تستطيع أن تفرض تطبيقه.
ما حدث في عكا سنة 2008 لم يكن إساءة لمشاعر اليهود الدينية. لا يشعر اليهود الذين يعيشون في كثير من دول العالم خارج إسرائيل بأن جيرانهم من غير اليهود يسيئون إلى شعورهم الديني عندما يركبون سياراتهم ويمارسون شؤونهم الحياتية المعتادة. كما أنهم لا يرجمونهم بالحجارة ولا يشعلون النار في بيوتهم، كما حدث في عكا.
لم يكن الذي حدث في عكا إيذاءا للشعور الديني لليهود ولكنهم اعتبروه تحديا لشعور الاستعلاء الذي هو من نصيب الأكثرية اليهودية، في دولة تعتبر نفسها كيانا خاصا، يملكه جميع اليهود في العالم وليس ملكا لجميع مواطني الدولة وخمسهم من العرب.
لذي أثار حنق أولئك اليهود هو تشبث ابن البلاد العربي وهو المواطن الأصلي، بحقه الطبيعي في التنقل بحرية في وطنه، لأن هؤلاء اليهود لا يقرون بحقه في في هذا الوطن. هم يعتقدون أن على العربي أن يُرسِّخ في ذهنه أنه يقيم في وطنه بفضل أسياد البلاد اليهود الذين يفرضون عليه هيمنتهم بواسطة النفاق الذي يدعونه الحساسية الدينية، كلما طاب لهم ذلك. من سخرية القدر، أن اليهود تعلموا هذه الممارسات من مضطهديهم في شرق أوروبا.
أحداث عكا يمكن أن تكون مقدمة لشر مستطير لا تحمد عقباه. تزعم دولة إسرائيل على الملأ أنها ليست دولة الفلسطينيين المقيمين فيها، في الوقت نفسه، تطلب منهم أن يحترموا الرموز والأعياد التي يستثنون منها وأن يحترموا ويذعنوا صاغرين لكل ما تمليه عليهم السلطة اليهودية.
كلنا نعلم أن تهويد الجليل قد فشل، ولكننا لا نعلم على وجه اليقين، ما إذا كانت هذه السياسة ستؤدي إلى مطالبة الأكثرية العربية في الجليل بحقها الطبيعي بالحكم الذاتي. هذا هو الكابوس الحقيقي الذي يجب أن يقض مضاجع المسؤولين عن سياسة التفرقة العنصرية في إسرائيل.
No comments:
Post a Comment