Friday, 30 November 2012

ثابر على استعمال عقلك

حافظ على دماغك

لو باشر شخص في العشرين من العمر بالتدرب على رفع الأثقال لرأيناه يحرز تقدّما كبيرا في البداية، ثم يبدأ هذا التقدم يقل تدريجيا حتى يصل إلى حدّ يتعذّر بعده أن يزيد من قدرته على الرفع، أي أنه يحقق الحد الأقصى من طاقته البدنية وليس له أن يزيد عليها. الشيء عينه يمكن أن يقال عن العدو أو السباحة أو القفز على أنواعه، هناك حدّ أعلى لكل إنسان (أو حيوان) لا يستطيع أن يتجاوزه مهما حاول أو بذل من الجهد. والذي يحدث بعد ذلك أنه مع التقدم في العمر تتراجع القدرة البدنية تدريجيا وتتراجع معها القدرة على الأداء البدني في كل المجالات.
والسّؤال هو: هل ينطبق ما قيل عن القدرة البدنية على القدرة العقلية (الذهنية)؟ الجواب القاطع الذي يثير الدهشة هو أن العكس هو الصحيح، أو بعبارة أخرى كلما زادت القدرة الذهنية للإنسان كلما زادت قدرته على الاستيعاب أكثر فأكثر، ولنضرب مثلا على ذلك: إذا باشر أحدنا تعلم إحدى اللغات الأوروبية، الإنجليزية مثلا، فإنه سيواجه بعض المشقة في البداية ولكن كلما زاد تمكّنه من اللغة يسهل عليه التوسع والتعمق في معانيها وأساليب البيان فيها، وعندما يجيد اللغة الإنجليزية يسهل عليه تعلّم الفرنسية، فإذا أجادها وجد سهولة أكبر في دراسة الطليانية، وهكذا دواليك.
هناك من يقول، وبحق،نحن على علم بهذه الحقائق منذ أمد طويل، غير أن الدراسات والأبحاث في الماضي كانت تستند على المشاهدة والاستنباط النّظري. منذ ذلك الوقت حدثت طفرة كبيرة في الأجهزة ووسائل الكشف وقد تيسر للخبراء بواسطتها أن يكشفوا النقاب عن نشاط الخلايا الحية في الأنسجة المختلفة التي يتكون منها الجسم ورصد التغيرات التي تمر بها تلك الخلايا في الظروف المختلفة. وقد حظيت دراسة الدماغ بقسط غير يسير من الدراسة والبحث، فالإطلاع على دقائق عمل الدماغ يعطينا الإجابة على أسئلة عديدة تتعلق كلها بكيفية عمل الدماغ، منها، على سبيل المثال لا الحصر:
*  لماذا يختلف التحصيل العلمي من فرد لآخر؟
*  لماذا يميل البعض لدراسة مواضيع بعينها، كالموسيقى أو الرسم أو الرياضيات؟
*  لماذا يميل البعض للمرح والتفاؤل والبعض للانقباض والتشاؤم؟
*  لماذا يصاب البعض بفقدان الذاكرة مع تقدم العمر؟
*  لماذا يتعرض البعض لإدمان الكحول أو التدخين أو تعاطي المخدرات؟   

كل هذه التساؤلات وكثير غيرها نحتاج للإجابة عليها أن نطّلع على كيفية عمل خلايا الدماغ. كيف تختزن المعلومات التي تصل الدماغ عن طريق الحواس الخمس أو عن طريق الإبداع الفكري كالإنشاء والتأليف في المجالات المختلفة، ومن ثم كيف تستخرج هذه المعلومات (أي كيف تتم عملية التّذكّر) وتستعمل في اتخاذ القرارات التي ينجم عنها ردود الفعل إزاء الحالات المتباينة التي نواجهها في كل لحظة من حياتنا. 
يتكون دماغ الإنسان من  مئة بليون خلية بالتقريب (ألف مليونا من الخلايا)، ومن المعروف أن الخلية العصبية تختلف عن سائر خلايا الجسم اختلافا بيّنا، شكلها يشبه الكرة ويتفرع منها ما يقارب عشرة آلاف فرع وكأنها شجرة كثيفة الأغصان، الغالبية العظمى من هذه التفرّعات تدعى "مخارج" يبلغ طول الواحد منها بضع سنتيمترات وقليل من التفرعات التي تدعى "مداخل"، لا يتجاوز طول الواحد منها الميليمتر الواحد.
كيف تتخاطب الخلايا العصبية؟ من المعروف أنه لا يوجد اتصال بين خلايا الدماغ أي أن الخلية الواحدة لا ترتبط بالأخرى بسلسلة مستمرة من الخلايا، وإرسال المعلومات يتم بإرسال إشارة كهربائية ذات جهد يقارب عُشر الفولط، تستمر ما يقرب من جزء من ألف من الثانية وتنتقل بسرعة تقرب من سبعة عشر مترا في الثانية الواحدة. تسري هذه الإشارة خلال أحد المخارج في اتجاه خلية أخرى حيث تصل إلى طرف مدخل من مداخلها وعند نقطة التلاقي بين المدخل والمخرج يكون المفصل، وهو عبارة عن نقطة تماس، وعندما تصل الإشارة القادمة من المخرج إلى المفصل تؤدي إلى دلق مادة كيماوية في المفصل وهذه المادة تؤدي إلى إنتاج إشارة كهربية في المدخل تأخذ طريقها إلى الخلية التي تعالج المعلومات التي تحملها الإشارة وتتخذ القرار بشأنها، كأن ترسلها إلى خلية أخرى أو تختزنها أو غير ذلك.
لا نزال بحاجة للكثير من الدراسة والبحث قبل أن يكون باستطاعتنا الإجابة على جميع التّساؤلات المطروحة غير أن ما تحقق حتى الآن أتاح لنا التعرف على بعض مزايا الدماغ ولعل من المفيد أن نستعرض بعض ما توصل إليه العلم عن القدرة على التعلّم في المراحل المختلفة من عمر الإنسان. 
يقول الباحث مالكولم هورن من جامعة موناش في ملبورن في أستراليا: يتكامل نمو الدماغ في السنة العاشرة من العمر ومع اكتمال النّموّ تتحدّد مهام الأجزاء المختلفة منه. ومن الجدير بالذكر والملفت للنظر، بل لعله من المفيد ألا تغيب هذه الحقيقة عن بال أي والد أو مربي، أنّ في هذه المرحلة المبكّرة يتحدد عدد الخلايا التي نستعملها فيما تبقّى لنا من العمر. فالخلايا التي نستعملها تظل حية وناشطة، والتي لا نستعملها تأخذ بالضمور والموت والتلاشي تدريجيا. نحن نعلم حق العلم أنّ هناك أجزاء بعينها في الدماغ تتولى التحكم في مهام محددة. هناك حيز في الدماغ ينحصر فيه تعلم اللغة واختزان المفردات والمصطلحات والمباني اللغوية المختلفة، وهناك جزء في الدماغ تكون خلاياه هي المنظّم والمنسّق لعملية النّطق. الشيء ذاته يقال عن تعلم الموسيقى والعزف على الآلات المختلفة وقيادة السيارة أو الضرب على لوحة مفاتيح الحاسوب، وأشباه ذلك كثير، في كل واحدة من هذه المهارات تتحكم مجموعة بعينها من خلايا الدماغ. 
والسؤال هو: هل تتعلق القدرة على التعلم والاستيعاب بعمر الإنسان؟ وكيف تتأثر قدرة الدماغ على الأداء في المراحل المختلفة من العمر؟
يقول الباحث هورن: الجواب هو نعم وبكل تأكيد، نعم هناك مهارات وقدرات يسهل على الإنسان اكتسابها وتعلمها في مرحلة بعينها من العمر ثم تأخذ هذه القدرة على التقهقر تدريجيا مع التقدم في العمر، فقد ثبت أن تعلم اللغة في سن مبكر يؤثر تأثيرا بيّنا على قدرة الإنسان على التفكير وعلى التحصيل في المجالات الأخرى، أي أنّها تحدد نسبة الذكاء إلى حد ما.
بين العاشرة والخامسة عشرة تكون القدرة على التعلم والاستيعاب في القمة، ومع بلوغ العام الخامس عشر، تكون القدرة اللغوية قد تحددت إلى درجة كبيرة. ومن الملفت للنظر أيضا أن إجادة لغة الأم لها انعكاسات وتأثيرات متشعبة، فكلما كانت الثروة اللغوية أكبر كلما زاد ذلك من القدرة على الاستيعاب في شتى العلوم، بل لقد وجد الباحثون أن تعلم اللغات الأجنبية يكون أسهل عند الذين يجيدون لغة الأم. لوحظ أيضا، أن الإنسان في مقتبل العمر يستطيع أن يؤدي عدة مهام في آن واحد:كأن يستعمل التليفون ويستمع إلى المذياع ويكتب. هذه القدرة على التركيز على أكثر من مهمة في الوقت ذاته تقل مع التقدم في العمر. اتضح أيضا أنّ القدرة على استيعاب الرياضيات والعلوم تبلغ الأوج في العقد الثاني والثالث من العمر بينما تظل القدرة على الإبداع عالية في المجالات الأخرى إذا ثابر الإنسان على الدراسة والبحث، ونحن نعلم أن الكثير من المفكرين أبدعوا بعد أن شاخوا وذلك يعود على الغالب إلى مواظبتهم على النشاط الذهني دون توقف منذ حداثتهم. فقد تأكد من آخر الدراسات أنّ خلايا الدماغ التي لا تستعمل لمدة طويلة، أي، لا يصل إلى أطراف مداخلها إشارات لمدة طويلة، تنفصم تلك العروة التي تكون نقطة التماس بين المخرج والمدخل فتصبح تلك الخلية معزولة عن باقي أجزاء الدماغ ولا نفع منها بعد ذلك. هكذا نحكم بالموت على خلايا دماغنا التي لا نستعملها ثم ندفع الثمن في اللاحق من العمر ويكون على الغالب مقرونا بالكثير من الألم والمعاناة.
الخلاصة من الدراسات والأبحاث التي لا شك فيها هي أن دماغنا يسعفنا ويفيدنا إذا ما واظبنا على الدراسة والمطالعة والتعلّم في أكثر من مجال، أما إذا استسلمنا للكسل فإن ذلك يعني الحكم على خلايا الدماغ بالشلل ولا سبيل لبعث الحياة فيها من جديد بعد ذلك وبعبارة موجزة: ما لا نستعمله من خلايا الدماغ في مقتبل العمر نخسره إلى الأبد . وفي عالم مثل عالمنا، حيث يطلع علينا العلماء والباحثون كل يوم باكتشافات واختراعات جديدة تسهم في تغيير حياتنا، بل كثيرا ما تتحكم في نواح عديدة من حياتنا، يصبح الذي يمتلك القدرة على الإبداع صاحب القرار وبيده أن يقرر مصير الآخرين الذين تخلفوا عن اللحاق بركب العلم، فالقوة الاقتصادية والعسكرية والسيطرة الحضارية أصبحت مرهونة وبشكل لا يخفى على اللبيب، بما تحققه الأمم من تقدم علمي. لم تعد الثروات الطبيعية وكثرة العدد تكفي بل أصبح العقل البشري أهم مصدر من مصادر القوة والثراء والأدلة والشواهد على ذلك أكثر من أن تحصى. 
 


No comments:

Post a Comment