Monday 30 September 2013

أهو عرس أم مأتم؟

أهو عرس أم مأتم؟

«عرس الديمقراطية»، هو اسم مرادف لموسم الانتخابات في المجتمعات المتحضرة، لأنه يعيد إلى الأذهان ذلك الإنجاز الذي أحرزه القدماء من سكان أثينا قبل ما يقرب من ألفين وخمسمائة عام يوم كانوا يجتمعون في الساحة العامة التي تدعى باليونانية « Aγορά أچورا» للتداول والبت في أمور المدينة وفيها كانت الممارسة الأولى لانتخاب حكام المدينة من الشعب.  هناك كان مولد الديمقراطية التي جاءت من الكلمتين ديموس δῆμος ومعناها شعب، وكراتوس κράτος ومعناها قوة أو حكم ومنهما تكوّنت الكلمة ديمقراطية δημοκρατία والتي تعني «حكم الشعب».
يقول الفيلسوف اليوناني أفلاطون في كتابه «الجمهورية»، أن الحكماء من الشعب هم أجدر الناس بتولي السلطة، لأن الحكيم يؤثر المصلحة العامة على الخاصة، ويحسن تصريف الأمور، ويستخدم في المناصب العامة أصحاب الكفاءة، ولا يحابي الأقارب والأصدقاء أو الأغنياء.
ما الذي يحدث عندنا في موسم الانتخابات؟
إذا ما نظرنا إلى المرشحين، نرى أن الغالبية الساحقة منهم تعتقد بأن الوصول إلى المجلس المحلي أو البلدي هو وسيلة للحصول على الجاه (الزائف) بحيث يجعله يبدو أعلى مقاما في أعين الناس، حتى لو كان يفتقر إلى أي رصيد علمي أو ثقافي وأن ماضيه ملوّث بما يشين من الأفعال والمواقف، وإذا ما تحدث فلن تسمع منه سوى التضليل، والهراء والكذب والنفاق.  الأسوأ من ذلك هو العداوات التي تخلفها الانتخابات في مدننا وقرانا بين الأقارب والأهل والجيران والتي قد تستمر لعشرات السنين أحيانا فتمزق نسيجنا الاجتماعي وتحفز الناس على الانتقام فتحول حياة الناس إلى جحيم لا يطاق وتشل حياتنا في كثير من الوجوه.
العديد من هؤلاء يصل إلى المجلس أو البلدية كأعضاء أو كرؤساء لأن الذين ينتخبونهم يفعلون ذلك لروابط القرابة أو الصداقة أو رجاء المنفعة كالحصول على وظيفة أو الفوز بأعمال المصلحة العامة بالغش والمحاباة والمواربة، أو بشراء الأصوات بالمال، ولذلك ينتظر أحط خلق الله، أي سماسرة الانتخابات، هذا الموسم بفارغ الصبر ليملأوا جيوبهم بالمال القذر، وكل هذه الممارسات ليست سوى دليل قاطع وبرهان ساطع على عقول عَفِنَة وأخلاق مريضة، فالمرض لا يصيب الأجسام فقط بل الأخلاق أيضا، غير أن أمراض الأجسام تفتك بمن تصيبه فقط بينما أمراض الأخلاق قد تفتك بشعوب بكاملها أحيانا، فالكثير من الإمبراطوريات تهاوت واندثرت عندما أصيبت في أخلاقها، ومنها الإمبراطورية البيزنطية، والإمبراطورية العثمانية التي قضى عليها شراء المناصب والمنافع المختلفة بالمال، ولقد صدق أحمد شوقي حين قال:
وإذا أصيبَ القومُ في أخلاقِهم       فأقِم عليهم مَأتماً وعويلا
ومن غرائب الأمور أن الجميع تقريبا يعرفون أدق التفاصيل عن تلك الصفقات وكيف موّلها المرشح لكي يدفع للسماسرة ولفلان وفلان مقابل الأصوات التي أوصلته إلى المنصب العزيز على قلبه، بينما هو يبدو واثقا بأن تلك الصفقات العفنة لم يشم رائحتها أحد.
بلغ عدد السلطات المحلية العربية التي حُلَّت بأمر من وزير الداخلية في الحقبة الأخيرة أربعا وعشرين سلطة، ومنها من تولت السلطة فيها لجنة معينة لمدة عشر سنوات، كمجلس «طلعة وادي عارة» الذي يضم القرى: مصمص، مشيرفة، زلفة، سالم والبياضة.  من الجدير بالذكر أن سلطة وزير الداخلية تكاد تكون مطلقة في ما يختص بالسلطات المحلية التي يتعذّر فيها على رئيس السلطة المحلية إدارة شؤون البلدة لافتقاره لتأييد غالبية أعضاء المجلس أو البلدية، مهما كانت دوافع الرئيس نبيلة وغاياته شريفة وأياديه نظيفة، لأن الغايات الشخصية والأسرية-العشائرية أو حب الانتقام من الرئيس هي التي تملي على بعض الأعضاء موقفهم فيؤدي ذلك إلى شلل السلطة وخضوعها التام لوزير الداخلية الذي يتخذ القرار بشأنها وبذلك تُلغى إرادة الأهالي وتصبح الانتخابات حبرا على ورق وهكذا تصبح الديمقراطية عندنا مأتما بدلا من عرس لأن ما انتخبناه كان المجلس العشائري  فيصدق فينا قول الشاعر:
وتفرّقوا شِيَعاً فكل قبيلة    منهم أمير المؤمنين ومِنبرُ
لكي نصبح شعبا بالمعنى العصري للكلمة علينا أن نضع نصب أعيننا ما كتبه محمود درويش: 
«سنصير شعبا حين ننبذ ما تقول لنا القبيلة».  
لكي نمارس انتخابات عصرية حضارية نظيفة وراقية علينا أن نقتدي بالأمم الراقية حيث يطرح المرشحون برنامجا يشتمل على الأهداف النبيلة التي سيعمل على تحقيقها إذا ما حاز على ثقة الناخب، وبناءً عليه يختار الناس المرشح الذي يرونه مناسبا لتحقيق آمالهم ومطامحهم دون صفقات سرية ودسائس ومناورات رخيصة وحقيرة، والذين يلجأون إلى تلك الممارسات هم فاسدون ومُفسِدون وفاشلون، ورغم أنهم قِلِّةٌ قليلةٌ لا تتجاوز الواحد في المائة من السكان لكنهم يدمرون المجتمع بسبب جبن ونفاق ومسايرة عامة الناس الذين لا يجرؤون على مصارحتهم برأي الناس فيهم ولكنهم يغتابونهم بأقذع الألفاظ في كل مناسبة وكل مجلس يخلو منهم، وإذا ما دخل أحدهم فجأة إلى أحد تلك المجالس ترى معظمهم يهش له ويرحب به بعد أن كان يسبه قبل لحظات، وهذا مما يجعلهم يتمادون في غِيِّهم وفسادهم وجرائمهم.  حالنا مع هؤلاء المفسدين حال الجسم مع الأورام السرطانية التي تفتك به إذا تجاهلها ولم يعالجها أو يستأصلها في الوقت المناسب.
من الجدير بالذكر أن جريمة المُفسِد الذي يشتري الأصوات بالمال أو الوظائف والمنافع الأخرى التي يَعِدُ بها الناخبين أعظم بكثير من جريمة الذين يعطونه أصواتهم طمعا بالمال أو الوظيفة أو المنافع الأخرى، لأنّ الذي يشتري الذِّمم هو المُبادِر إلى عقد تلك الصفقات الذميمة، وهو في الأصل إنسان قد غرق في الفساد حتى أذنيه، ولكن فِعلُهُ الذميم يفسد العديد من الناس فيكون السبب في تجردهم من أخلاقهم وكرامتهم وهكذا يستشري الفساد في المجتمع، وكل مجتمع فاسد يُحَوِّلُ حياة أهله إلى جحيم، لأن الأخلاق الشريفة هي الضمان الوحيد لبقاء المجتمعات وازدهارها، والأخلاق الفاسدة تُنهِكُها وتفنيها، ولذلك يجب على كل صاحب ضمير حي وكرامة لا تباع وتشترى، الامتناع عن التصويت لكل مرشح تاجر بالأصوات في الماضي أو عقد الصفقات المخزية مهما كان نوعها، لأنهم لا يؤتمنون على المصالح العامة.
أمر آخر جدير بالتنهويه، وهو أن المرشحين في المجتمعات الراقية يطرحون أمام الناخبين برنامجا يعرضون به بالتفصيل المشاريع والإنجازات التي يضعونها نصب أعينهم لتحقيقها خلال فترة ولايتهم إذا ما حازوا على ثقة الناخب، أما عندنا فلا نقرأ سوى شعارات براقة وعبارات طنانة لا تسمن ولا تغني من جوع، تصلح لكل زمان ومكان كخدعة بصرية أو ألاعيب بهلوانية تؤكد أن جعبتهم خاوية من الأفكار البناءة وهي مجرد استهتار بعقول الناخبين، تعدهم بالإنجازات والعطاء والتضحية دون أن يذكروا واحدة منها، ثم تمر السنوات الخمس ويكون الإنجاز الأهم أن جيب الواحد منهم احتشى بما يزيد على مليون ونصف مليون شاقل من الضرائب التي يدفعها المواطنون ثم نعود إلى جولة أخرى أسوأ من سابقتها لتُعرَض هذه المسرحية الهزلية في شوارعنا وساحاتنا وبيوتنا من جديد، والحال يزداد سوءاً من جولة إلى أخرى وأفق المستقبل يبدو مع كل موسم انتخابات أحلك من ذي قبل، فهل نتعظ؟

معليا في 27 أيلول 2013

عصام زكي عراف