Friday 5 September 2014

أخطاء وافتراآت مصطفى يوسف اللداوي

أخطاء وافتراآت مصطفى يوسف اللداوي.




كتب مصطفى اللداوي مقالا نشرته بعض المواقع والصحف، بعنوان «البابا يعترف في بيت لحم» استهله بالفقرة التالية:

«تُرى هل جلس بابا الفاتيكان فرنسيس الأول بصفاءٍ مع نفسه، وطهرٍ من قلبه، بتصميمٍ وإرادة، ووعيٍ ومسؤولية، ليعترف أمام العالم كله بذنب قومه، وجريمة أتباعه، والخطيئة الكبرى التي اقترفها قادة شعوبه، وحكام بلاده، عندما سهلوا قديماً اغتصاب اليهود لأرض فلسطين، وهجرتهم إليها، واستيطانهم فيها، وطردهم لشعبها، وحرمانه من كل حقوقه المشروعة فيها».

إنها لبراعة فريدة أن يكدِّس الكاتب مثل هذا الجهل والافتراء في فقرة واحدة ناهيك عن تكرار الكلام والحشو الذي لا طائل تحته!

الحقائق التاريخية تقول ما يلي: 

مدينة الڤاتيكان التي يقيم فيها الباباوات وعدد المقيمين فيها اليوم يقرب من 840 نسمة تنتشر على مساحة  440,000 من الأمتار المربعة وقد اتخذت مقام دولة في الحادي عشر من شهر شباط لسنة 1929 باتفاق وقعه الكاردينال پيترو چاسپاري بالنيابة عن البابا پيوس الحادي عشر ورئيس الوزراء الإيطالي بينيتو موسوليني بالنيابة عن ملك إيطاليا في ذلك الحين، ڤيكتور إمانويل الثالث، وقَضى ذلك الاتفاق بأن تكون مدينة الڤاتيكان دولة مستقلة بكل ما في تلك الكلمة من معنى، فهي من هذا الوجه أصغر دولة في العالم مساحة وسكانا، أما الإسم فإن مصدره الكلمة اللاتينية ڤاتيكانوس مونس vaticanus mons أي تلة أو جبل النبوآت (إحدى تلال روما السبع، قديما) حيث كان العرافون يدلون بنبوآتهم على هذه التلة أيام الرومان.

مما أوردته أعلاه نستدل بأن البابا فرانسيس الأول يقيم في مدينة الڤاتيكان وهو الحاكم الإداري المطلق السلطة في هذه المدينة فقط لا غير، ولا سلطة له على أي شبر مربع آخر من بقاع الأرض، وهو رأس الكنيسة الكاثوليكية في العالم ومن الصواب أن يُدعَى «بابا الكاثوليك» وليس «بابا الڤاتيكان»، كما نقول «بابا الأقباط» أي رأس الكنيسة القبطية كما أن هناك الكنيسة الأنچليكانية التي يرأسها رئيس أساقفة كانتربري وغير ذلك من الكنائس الأخرى كالأرثوذكسية وغيرها.

وعليه، فإن البابا ليس له أي سلطة مدنية على أتباع الكنيسة الكاثوليكية حيث ما حلوا، وما هو بصاحب الأمر في أي بلد من البلدان التي يقطنها أكثرية من الكاثوليك، وبالتأكيد لا شأن له في أمور الذين ينتمون لكنائس أخرى كالأرثوذكسية أو البروتستانتية أو الأنچليكانية أو غيرها.

والأمر كذلك فإن ما أورده الكاتب هو جهل بحقيقة الأمور، لأن “العالم المسيحي” الذي يعتقد الكاتب أن البابا زعيمه ليس له وجود إلا في أوهام الكاتب وذلك لأن الدول الأوروبية والولايات المتحدة وكندا ودول وسط وجنوب أميركا وأستراليا والفيلپين وغيرها ليست سوى دول رأسمالية مثلها مثل العديد من الدول العربية وتركيا وإيران والعديد من دول آسيا كاليابان وكوريا الجنوبية، وكم من حروب طاحنة خاضتها تلك الدول المسيحية الواحدة ضد الأخرى وكفى بالحربين العالميتين في القرن العشرين برهانا على ما أقول وعشرات الحروب في القرون السابقة يعرفها كل من قرأ تاريخ العالم.

من الجدير بالذكر أن المسيحية في جوهرها ليست دين ودولة، بل هناك فصل كامل بين الدين والدولة ومعظم الدول الديمقراطية تتبع ما اصطلح على تسميته «نظام ويستمنستمر» البريطاني الأصل، وهو القائم على ثلاث سلطات مستقلة، التشريعية والقضائية والتنفيذية، حيث أن السلطة القضائية تقضي حسب القوانين التي تسنها السلطة التشريعية والسلطة التنفيذية تنفذ أحكام القضاء وتتقيد في تصريفها لشؤون الدولة بالدستور والقوانين التي تسنّها السلطة التشريعية، وقد قال المسيح بوضوح لا لبس فيه للذين سألوه إذا كان من الجائز دفع الضرائب للوالي الروماني الذي يحكم باسم القيصر في روما:

«أعطوا ما لقيصر لقيصر وما لله لله». 

«القيصر» هي الحكومة في أيامنا وهي التي تهتم بأمور المواطنين في الدولة فتوفر الأمن ومعاهد التعليم وخدمات الصحة وغير ذلك من المصالح التي يحتاجها المواطنون، ولا بد لها من جمع الضرائب من المواطنين للقيام بمسؤولياتها، أما الله فلا يطلب منا سوى عمل الخير، وما كان من انغماس الباباوات في الشؤون السياسية في العصور الغابرة ليس سوى انحراف مذموم عن تعاليم المسيح وقد بدأت نهايته مع نشوب الثورة الفرنسية وتلاشى في ما بعد.

لست أدري ما الذي يحمل الكاتب على أن يطلب من البابا أن يعتذر ويستغفر ويندم على ما لحق بالفلسطينيين من قتل وجور وتشريد ومعاناة خلال الاستيطان الصهيوني منذ أيام الأتراك إلى عهد الانتداب وما بعد قيام إسرائيل في الخامس عشر من شهر أيار لسنة 1948.

المسيحي يؤمن بأن المسيح الذي جاء في عهد الوالي الروماني پونتيوس پايليت هو المخلص الذي ورد ذكره في كتب الأنبياء، خاصة كتاب أشعيا وقد آمن به بعض اليهود وأنكر ذلك البعض الآخر منهم، خاصة الصدوقيون أصحاب الأمر والنهي، وهم حلفاء الرومان وسدنة الهيكل في ذلك الوقت وكل من جاء بعدهم من اليهود حتى يومنا هذا يعتقد أن المسيح لم يأت بعد، وأن المسيحيين يتبعون تعاليم شاب يهودي ضال وكاذب، انتحل شخصية المسيح زورا وبهتانا وأغرى الناس باتباعه، أي أن جميع المسيحيين على ضلال، ولا أظن مسيحيا يجهل ذلك، ولذلك فإن زعم الكاتب بأن المسيحيين عطفوا على اليهود لدوافع دينية وساعدوهم على الاستيلاء على فلسطين، وهي مهد المسيحية، يناقض المنطق السليم، فقد عانى يهود أوروبا من بغض المسيحيين لهم والاضطهاد الديني لقرون طويلة، فكيف تحولت تلك الكراهية إلى محبة وعطف بين ليلة وضحاها؟ 

قضية فلسطين لم تكن قضية دينية في نظر عامة الأوروبيين في القرن التاسع عشر.  القضية الأهم كانت ولا تزال ضمان أمن أوروبا التي كانت على وشك السقوط في يد الأتراك لو لم يندحر الجيش العثماني في الثاني عشر من شهر أيلول لسنة 1683 على أبواب مدينة ڤينا بعد حصار دام شهرين وكان سبب اندحاره نجدة ملك بولندا في اللحظة الأخيرة، وقد سبقه حصار آخر سنة 1529 لمدينة ڤينا كان مصيره الإخفاق أيضا لكن تلك الحملات كانت ترمي إلى احتلال أوروبا وهذا ما حفر في ذاكرة الأوروبيين أخاديد لم ولن تمحى، أي أن أوروبا تعيش في ظل قلق دائم من نشوء قوة في الشرق تهدد أمنها منذ سقوط  القسطنطينية في يد الأتراك سنة 1453.  لا بد من التنويه أيضا أن الهند كانت قد أصبحت أهم مستعمرة بريطانية في منتصف القرن التاسع عشر بعد ما يقرب من نصف قرن من الزحف الاستعماري البريطاني عليها وهذا ما زاد من أهمية الهيمنة الأوروبية على غرب آسيا خاصة بعد حفر قناة السويس التي أصبحت الممر المائي الأهم الذي يربط دول أوروبا بمستعمراتها في شرق وجنوب آسيا كإندونيسيا والفيلپين وغيرها. 

بعد تلك الحملات نشأ إجماع أوروبي على الحؤول دون قيام قوة تهدد أمنها من الشرق وهذا ما اصطلح على تسميته في أوروبا بالمسألة الشرقية أو القضية الشرقية.  

ظهر موقف أوروبا الموحد في مؤتمر لندن الذي عقد بعد انتصار إبراهيم باشا على الجيش العثماني في معركة نصيبين، واستسلام الأسطول العثماني لمحمد علي سنة 1839 وكان ذلك سببا في انعقاد مؤتمر لندن الذي انتهى بتاريخ 15 تموز لسنة 1840 بتوقيع معاهدة بين كل من بريطانيا وروسيا وبروسيا والنمسا وتركيا اضطر على أثرها محمد علي إلى سحب قواته من بلاد الشام.

ولأن الفصل بين شرق العالم العربي وغربه، للحؤول دون وحدته، لا يتم إلا بالسيطرة على فلسطين لكونها همزة الوصل بين شِقَّيه، كان لا بد من إنشاء كيان غير عربي يتولى هذه المهمة.  لم يكن بوسع البريطانيين استنباط أي ذريعة للاستيطان في فلسطين وإقامة كيان لهم هناك  مثل ما استوطنوا في أميركا وأستراليا ونيوزيلاند وغيرها، فلم يجدوا خيرا من اليهود ليقوموا بالاستيطان بالوكالة عنهم، لأن اليهود فقط باستطاعتهم أن يوفِّروا الذريعة اللازمة وذلك بأن يزعموا بأنّ لهم الحق المشروع في فلسطين لأنها أرض الميعاد كما جاء في التوراة وقد كان لهم فيها مملكة في الماضي ولهم الحق في إعادة بناء تلك المملكة، بغض النظر عن أنّ الغالبية العظمى منهم لا تمت بصلة إلى قدماء اليهود، فيهود أوروبا معظمهم ينحدر من أصول خزرية، ويهود شمال إفريقية من أصول بربرية.

بعد هزيمة الجيش العثماني في نصيبين، أرسل تشارلز هنري تشرتشل، القنصل البريطاني في دمشق في ذلك الحين والذي عُرف بين السكان المحليين باسم تشرتشل بك، أرسل كتابين إلى موشيه مونتيفيوري زعيم اليهود البريطانيين، الأول بتاريخ 14 حزيران 1841 والثاني بتاريخ 15 آب 1842 يحثه فيهما على استيطان اليهود في فلسطين (ولا أظن أن قلبه كان يتفطر أسى شفقة على اليهود في بريطانيا، خاصة وأنهم كانوا في حال يحسدهم عليها باقي يهود أوروبا) وبذلك يكون أول من أرسى الأساس للحركة الصهيونية قبل قيامها بأكثر من نصف قرن!  كما أن پالمرستون وزير الخارجية البريطانية في ذلك الحين أرسل بتاريخ 11 آب 1840 كتابا إلى پونسونبي السفير البريطاني في الآستانة يطلب منه إقناع السلطان بتشجيع هجرة اليهود إلى فلسطين ليقفوا في وجه المطامع الشريرة لمحمد علي والإفادة من الأموال اليهودية التي ستتدفق على خزينة السلطان نتيجة تلك الهجرة.

لم يتحقق الحلم البريطاني إلا بعد قيام الحركة الصهيونية رسميا بعد مؤتمر بازل سنة 1897 بمبادرة من ثيودور هِرتسل لأسباب لا مجال لسردها هنا ثم كانت الحرب العالمية الأولى واتفاقية سايكس- پيكو وخدعة البريطانيين للعرب الذي انضموا للحرب ضد تركيا بقيادة الشريف حسين وأولاده وهم لا يعلمون ما يبيّته البريطانيون لهم حتى نشر وعد بالفور، ثم الانتداب البريطاني بقرار من عصبة الأمم، الذي فتح أبواب فلسطين على مصراعيها للهجرة اليهودية وكان ما كان!

لست أدري لماذا ينحو الكاتب باللائمة على الغرب ويحمله مسؤولية تشريد الشعب العربي القاطن في فلسطين ولا ينحو باللائمة على الضعف والتخلف والفساد العثماني والعربي والخيانة التي كان يمارسها الولاة والموظفون العثمانيون وغيرهم من زعماء وشيوخ وأمراء وإقطاعيين عرب الذين لولا تواطؤهم وتعاونهم مع بريطانيا والحركة الصهيونية لما تمزق العالم العربي برمته شر ممزق، فها هي بلاد العرب تطحنها حروب غيّرت معالمها وأعادتها إلى الخلف سنوات ستجعل منها دويلات لا شأن لها، بعد أن أحرقت البشر والشجر ونسفت الحجر.

كان الأولى بالكاتب مصطفى يوسف اللداوي قبل أن يكتب مقاله أن يتأكد من صحة مزاعمه والأجدر به أن يعتذر عن الإفتراآت والاتهامات التي أطلقها دون التحقق منها.

لو كان الغرب مسيحيا حقا لما عمل على اجتثاث المسيحيين من الشرق منذ القرن التاسع عشر. كان المسيحيون في منتصف القرن التاسع عشر يمثلون ما يقرب من ثلث السكان في بلاد الشام ومصر وكانوا رواد النهضة في كل مجال، وها هم اليوم يختفون تدريجيا من الكثير من المناطق التي عمروها منذ ما يقرب من ألفي سنة، وما حدث لمسيحيي العراق في ظل الحراب الأميركية لا يخفى على أحد، وما حدث في معلولا وصدد وكسب وغيرها من الجرائم في الآونة الأخيرة شاهده «العالم المسيحي» المزعوم بأسره وهو يفرك يديه من الفرح سرا.

عصام زكي عراف
معليا 
الجليل الغربي




Saturday 2 August 2014

ناصر جرجس العيسى



أسماء وأحداث منسية: ناصر جرجس العيسى (1887-1965)



ولد الشاعر ناصر جرجس العيسى سنة 1887 في قرية الرامة في الجليل في شمال فلسطين أنهى دراسته الابتدائية ثم التحق بدار المعلمين الروسية في الناصرة وبعد تخرجه منها عُيَّن مديرا للمدرسة الروسية في قرية بينو في قضاء عكار وبعد ذلك مديرا للمدارس الروسية في كل من بلدتي منيارة وكسبا في شمال لبنان.
عاد بعد نهاية الحرب العالمية الأولى إلى مسقط رأسه ثم عمل معلما في بيت لحم ثم في ثانوية عكا للبنين.
أحيل على التقاعد عام 1943 ولكن مديرية المعارف بفلسطين احتفظت به أستاذًا للعربية بثانوية عكا تقديرًا لنجاحه في التدريس، وظل يدرس حتى اقتلعته حرب 1948 في فلسطين.
عمل في العراق (1948) معلمًا للأدب العربي في المدرسة الثانوية بمدينة الحلة لمدة عشر سنوات، ورحل عنها (1958) إلى طرابلس الشام.
توفي في منطقة الكورة في لبنان سنة 1965.
ذكر لي الأستاذ الصديق صفوت عودة (أبو يوسف) من ترشيحا، وكان من تلاميذه، أن الشاعر دخل عليهم غرفة التدريس في ثانوية عكا للبنين وهو متجهم الوجه وأخذ يذرع الغرفة ذهابا وإيابا أمام الطلاب وهو صامت ثم توجه إلى طلابه قائلا:
أسألوني ماذا بك، لماذا لا تسألوني؟
فقال الطلاب: ماذا بك يا أستاذ؟
فأجاب: لقد أذيع في الأخبار اليوم أن شرق الأردن أصبحت مملكة، هل تعلمون ما يعني هذا الإعلان؟ هذا يعني أن الثمن سيكون فلسطين!
عندما أطلق المعلمون في المدارس الفلسطينية شعر ذقونهم احتجاجا على سياسات حكومة الانتداب كان الشاعر من الذين شاركوا في الاحتجاج، وفي أحد الأيام دخل غرفة التدريس وهو حليق الذقن فرأى وجوه الطلاب تطفح بالأسئلة فأنشدهم الأبيات التالية:
وقفت أمام مرآتي أناجي ***** بها وجها كثيف الشعر كاسف
وقلت أيا مليحة أخبريني: ***** أأحلق شعر ذقني أم أجازف
هنالك مبدآن: ثبات حرٍ ***** وحكم الظالمين من الزعانف
تجهم وجهها الصافي وقالت ***** رأيتك يا أخا الآداب خائف
ألست الشاعر المقدام تلقي ***** قصائد ثائرات كالعواصف
وتلهب كل عقل عبقري ***** وتحيي ما استمات من العواطف
فقلت بلى ولكني جبان ***** وإنَّ الجبن في أهل المعارف
إيضاح:
أهل المعارف هم المدرسون في المدارس الحكومية أيام الانتداب البريطاني على فلسطين لأن ما يطلق عليه اليوم اسم وزارة التربية والتعليم كانت تدعى في ذلك العهد "وزارة المعارف".
عصام زكي عراف

Wednesday 11 June 2014

مطران جديد، فهل من جديد؟

مطران جديد، فهل من جديد؟


في السادس عشر من شهر حزيران الجاري للسنة الرابعة عشر بعد الألفين من ميلاد المعلم يسوع المسيح سيجتمع مطارين الطائفة الملكية الكاثوليكية (السينودوس «المقدس») في لبنان لاختيار مطران لأبرشية عكا وحيفا والناصرة وسائر الجليل خلفا للمطران الياس شقور الذي استقال من المنصب في شهر شباط المنصرم بعد أن كَثُرَ التذمر من سلوكه بين أبناء الأبرشية، وقد كانت فترة خدمته من أسوأ ما عرفته الأبرشية حتى اليوم.
لدى طائفة الروم الكاثوليك اليوم أكثر من ثلاثين مطرانا ما بين سالك في الخدمة ومتقاعد أو نائب بطريركي (هذا ما علمته من أحد قدماء الكهنة ولم أجد في موقع البطريركية العدد الدقيق) 
سألت نفسي: 
«من ذا الذي يرشح الكهنة لهذا المنصب؟ وما هي المزايا التي يجب أن يتحلى بها الكاهن ليكون جديرا بهذه المسؤولية الجسيمة؟ وهل يخضع لاستجواب من قبل لجنة مختصة من غير رجال الدين لكي نعرف إذا ما كان جديرا بتبوّأ هذا المنصب والقيام بتلك الخدمة على أتم وجه؟ (كما يخضع الذين يرشحهم الرئيس الأمريكي لمناصب هامة لأستجواب أعضاء الكونچرس).  ما الذي يدور بخَلَدِ كل واحد من هؤلاء المطارين عندما يمنح صوته لأحد المرشحين، وما الذي يجعله يفضِّلُ كاهنا على آخر ليكون مطرانا لأبرشيتنا التعيسة؟ ما هو دور العلاقات الشخصية أو الإغراء والإغواء والترهيب والترغيب؟».
جالت هذه الأسئلة في خاطري لما عاينته وسمعته في الخمسة عقود الأخيرة من تصرفات المطارين الذين يضمن لهم هذا المنصب بأن يكونوا من الذين «يَسأَلون ولأ يُسأَلون»، فبعد أن يكون الواحد منهم كاهنا بمرتب محدود ويكون خاضعا خضوعا شبه تام لمطران أبرشيته يصبح ما غمضة وانتباهتها صاحب الأمر والنهي والعقد والحل في الأبرشية التي يولّى عليها في قصر أو على الأقل قُصَيرٍ يحيط به الخدم والحشم الذين يسهرون على راحته ويقتني ما شاء من السيارات الفارهة، ويسافر في مقصورة الدرجة الأولى في الطائرات، وكل ما زار رعية تقام على شرفه المآدب العامرة بكل ما لذ وطاب احتفاءً بقدوم سيادته والكل يتنافس للتقرب منه ففي يديه مفاتيح الملكوت ومفاتيح خزائن الأبرشية معا، فالمقربون المحظوظون ينعمون بنعيم الدنيا والآخرة، لأن قوانين الكنيسة الشرقية تبيح له التصرف بعقارات الوقف والمدارس وغيرها تصرف المالك بملكه فيبيع ويؤجر ويرهن ما شاء بالثمن الذي يرتأيه دون حسيب أو رقيب وهكذا تبخر العديد من الأوقاف في أبرشيتنا دون أن يعلم أحد حق العلم حتى يومنا هذا ماذا كنا نملك وكم بقي لنا منها.  والأمر لا ينتهي عند هذا الحد لأن منصبه يتيح له أن يفصل من يشاء من مديرين ومعلمين وموظفين في مدارسنا وأن يعين بدلا منهم من يشاء من الذين نالوا عطفه ورعايته دون غيرهم فانهار مستوى التحصيل العلمي فيها بعد أن كانت قِبلة الطلاب من جميع الطوائف ومن كل حدب وصوب، كما أن معظم الكهنة يخشونه ويطلبون رضاه لأنه يستطيع أن ينقلهم من رعية إلى أخرى حسب ما يشاء، فهو الذي يدفع أجورهم ويتحكم في لقمة عيشهم ويستطيع أن يحوّل حياتهم إلى جحيم إذا غضب على أحدهم فينفيه إلى حيث شاء.
الأسوأ من ذلك كله أنه يستطيع التوجه إلى أصحاب النوايا الحسنة والضمائر الحية في داخل البلاد وخارجها ويستجدي منهم التبرعات باسم المؤمنين القابعين في الأراضي المقدسة ويودع تلك الأموال في حسابه الخاص فيشتري بها من شاء من أراض وعقارات باسمه الخاص وكل ذلك لأن القوانين البائدة أي قوانين «أمّنا» الكنيسة المقدسة تسمح له بذلك.
سؤال آخر يتبادر إلى الذهن:
ما هي نسبة تلاميذ المسيح الحقيقيين من بين الإكليروس؟ بطبيعة الأمر لا أحد يستطيع أن يجيب الجواب الدقيق على هذا السؤال، ولكن من الذي عاينته في الخمسين عاما الأخيرة، أي منذ بلغت أشدي، هم قلة قليلة، أما الغالبية العظمى فأقل ما يقال عنهم أنهم ولّوا يسوع المسيح ظهورهم وخانوه وتنكّروا لرسالته ولا هم لهم سوى اكتناز ما يتيسر لهم ولأقاربهم وكأنهم ذئاب تعيث فسادا حيث ما حلوا ولم يزرعوا في حقل الرب سوى الزؤان والأشواك ولم يغرسوا سوى الأشجار العقيمة التي قال عنها يسوع ما قاله. 
الوجود المسيحي في الشرق برمته مهدد بالزوال ومن يرى ما يحدث منذ عهد بعيد لا يسعه إلا أن يقول بأن الزوال الكامل أصبح وشيكا، وما حدث في العراق خير دليل وشاهد حيث أن معظم المسيحيين اضطر للهرب من وطنهم لينجو بنفسه بعد أن أصبح تفجير الكنائس والاعتداء على الأشخاص والأملاك أمرا شائعا وما من نصير، وما يحدث في سوريا لا يقل فظاعة.  صحيح أن جميع الطوائف تعاني من الاعتداء على الأبرياء لكن الوجود المسيحي هو الوحيد المهدد بالزوال لأن المعتدي على المسيحي في الشرق لا شيء يردعه في غياب سيادة الدولة وهيمنة قانون الغاب فنحن لا نملك جيوشا، وليس لدينا عصابات مسلحة، أما أن يكون بلاؤنا من داخلنا فهذا مما يعجّل بتقويض وجودنا وفنائنا عن قريب، أما ترون أن عدد أبناء الأبرشيات من جميع الطوائف يتناقص باستمرار في كل مكان؟ الكثير من المسيحيين يقيمون في أوطانهم على مضض، لأن الهجرة غير متيسرة لهم فهل لديكم علم بهذا؟ 
كان لأبرشيتنا مطران رعاها ما يقرب من أربعين عاما فازدهرت أيما ازدهار حتى أن بعض رعايا إخوتنا من الروم الأرثوذكس تحولوا إلى الكاثوليكية لما رأوا من حسن رعايته الأبوية المخلصة وإنجازاته العمرانية الباهرة وكان أشبه الناس بالمسيح خَلْقاً وخُلُقاً كما قال شاعرنا الكبير وصديقه الحميم خليل مطران عندما هنّأه بيوبيله الفضي:
بورك في خُلقك المليح         يا أشبه الخَلق بالمسيح
فأين نحن من هذا كله؟
حتى دير المخلص الذي خرج منه العديد من العظماء من الكتاب والشعراء والخطباء أمثال المطران الحجار والأب نقولا أبو هنا، الذي ترجم حكايات لافونتين إلى العربية شعرا مدهشا، أصبح اليوم ظلا باهتا لماضيه المجيد،  كان للمسيحيين في الشرق الفضل الأكبر في النهضة العربية في النصف الثاني من القرن التاسع عشر والنصف الأول من القرن العشرين، فلماذا تقلص وانحسر هذا المد الحضاري الفكري البنّاء ومن هو المسؤول عن ذلك؟   
بعض الجواب ولا أقول كله، تجدونه عند أحد عظمائنا، المرحوم الأب نقولا الصايغ الرئيس العام لدير المخلص في القرن الثامن ومن أهم بناة مجدنا في الماضي حيث يقول في مستهل إحدى قصائده:
كَثُرَ العِثارُ بعَثرةِ الرُؤَساءِ        وغَوَى الصِغارُ  بِغرَّة الكُبَراءِ
لمَّا رأَيتُ الرأسَ وَهوَ مُهشَّمٌ        أَيقنتُ منهُ تَهَشُّمَ الأَعضاءِ 
إذا استمر الحال في أبرشيتنا على ما هو عليه في العقود الأخيرة من فساد وقدوة سيّئة فلن تقوم لنا قائمة أبدا ويكون السينودس الذي سيلتئم في عين تراز بعد أيام قد دق المسمار الأخير في نعش أبرشية عكا وحيفا والناصرة وسائر الجليل، هذا الجليل الذي بدأ به يسوع رسالته ومنه اختار أول تلاميذه وكان منه أول المؤمنين به، يبدو أنه لن يبقى له فيه أتباع عما قريب.
لست أدري متى ومن سن قوانين الكنيسة، ولكني أراها تتناقض وتعاليم المسيح وسيرته، حبذا لو فرضت الكنيسة على كل من ينوي أن يكون خادما في حقل الرب أن يحفظ ما كتبه جبران خليل جبران عن ظهر قلب فقد أدرك هذا الكاتب والشاعر العظيم سر رسالة يسوع المسيح على حقيقتها (ولذلك ناوأه رجال الكثير من رجال الكنيسة في ذلك الوقت)، ومن يقرأ ما جاء في كتابه "يسوع ابن الإنسان" يعلم حق العلم أن هناك بونا شاسعا بين سيرة المسيح وبين سيرة معظم رجال الكنيسة اليوم وفي الأمس.
حان الحين وآن الأوان لأن نغيّر من قوانين الكنيسة وأنظمتها التي أكل الدهر عليها وشرب، فالماء الراكد يصبح آسنا لا يصلح للشرب، والماء الجاري هو علامة التجدد، ولنأخذ العبرة من برلمانات الدول المتحضِّرة التي تعيد النظر باستمرار في دساتيرها وقوانينها لكي تتناسب مع التطور والتشعب في مناحي الحياة.


كلمة «سينودس» كلمة يونانية الأصل، σύνοδος، مصدرها كلمتان، كلمة سُنْ σύν ومعناها، «معا» وكلمة «هودوس أو أودوس» ὁδός ومعناها طريق، رحلة، أو ممرّ.  وتعني جمعية أو مجلس أو لقاء المطارين في الكنائس عامة والكنائس الشرقية الأرثوذكسية والكاثوليكية، خاصة في العصور الحديثة.

عصام زكي عراف
معليا 
الجليل الغربي

Wednesday 16 April 2014

رثاء المرحوم الصديق نعيم مخول

رثاء صديق فاضل مناضل

رثاء الصديق، المرحوم نعيم مخول (أبي مُكَرَّم) من البقيعة الغربية، القرية التي بناها بنضاله وتضحياته.

قصدت الدار دار أبي مكرم                 وإذ بالحزن فوق الدار خيّم
نظرت إلى عيون الأهل فيها                 وإذ بالجفن مقروحٌ مُكَلّم
فقلت لصاحبي والقلب يدمَى               ذَوَت أيامُنا والحيُّ أظلم
فقدنا سيّدَ المَيْدان منّا                        فقدنا فارسا فذّا مُخَضرَم
جوادا حائزا من كل فضلٍ                  بنى من فضله فخرا ومعلم
سديد الرأي إن أدلى برأي                 وفي الشدات لا يخشى العرمرم
بدرب الحق يمضي لا يبالي               ولو جار القضاة بكل مغرم
خطيبٌ في المحافل لا يجارى              فصيحُ اللفظ إن يوما تكلم 
يهُب لنُصرة الحق ابتدارا                  وما يوما تلكّأ أو تلعثم
له في كل معترك غبارٌ                      وما عرف النكوص ولا تجمجم
بنى صرحا من الأمجاد سام            له أسٌّ بأرض المرج محكم
يكافح سلطة زلَّت وزاغت                  تروم بأرض ذاك المرج مغنم
بهام شامخ وثبات قلب                    وعزم لا يُفلُّ ولا يُثلَّم
رحلت وفي الضلوع لك التياعٌ          كنيران المجامر إذ تَضَرَّم
لَئن غال الرّدى جسما نحيلا            فذكرك دائما حيٌّ مُكرَّم
لك في كل قلب مستقرٌّ                   وعهدٌ لا يحول ولا يُصَرَّم
ستغدو بعدك الساحات ثكلى          وطعم العيش ممزوج بعلقم

عصام زكي عراف
معليا
الجليل الغربي

Saturday 15 February 2014

ذرّ الملح على الجروح

ذرّ الملح على الجروح

بيان صادر عن رابطة طائفة الملكيين الكاثوليك (قيد التأسيس) 

الأخوات والإخوة الكرام، أبناء أبرشية عكا وحيفا والناصرة وسائر الجليل للروم الكاثوليك، حفظكم الله

وَجَّهَ كاهن رعية حيفا، الأب أغابيوس أبو سعدى الدعوة التالية: 
«ندعو الجميع للمشاركة في الليتورجية الإلهية التي يحتفل فيها سيادة المطران الياس شقوا نهار الأحد القادم الساعة السابعة - قداس شكر لخدمته في أبرشية عكا والجليل. 
بغض النظر عن الذي كان من وراء هذه الدعوة، بودنا نحن أعضاء لجنة المبادرة لطائفة الملكيين الكاثوليك أن نسترعي انتباهه أن مثل هذه الدعوة لا مكان لها ولا مبرر.  
عندما عندما اعتزل المطران شقور كان لسان حال الغالبية العظمى من أبناء الأبرشية ومن الكهنة يقول: 
يا له يوما سعيدا للبنين الصالحينا!
السؤال الذي لا بد منه هو: 
ما هي النعم التي حلت على أبرشيتنا منذ سيامة الخوري الياس شقور مطرانا على أبرشيتنا؟ هل هي المحاكم التي خاضها ضد أبناء أبرشيته؟ أم هو الدمار الذي لحق بمعاهدنا ومدارسنا عندما أخذ يفصل ويعيِّن المديرين والمدرسين على هواه؟ أم العلاقة «الودية» التي أقامها مع كهنة الطائفة؟
يترك الياس شقور المطرانية غير مأسوف عليه من الغالبية العظمى من أبناء الأبرشية، لأنه خالف سيرة المسيح في كل أعماله.
كان الياس شقور يجول العالم يشرح للناس فهمه «العميق» لعظة سيدنا يسوع المسيح على الجبل وكم من مرة كرر العبارة التي وردت في إنجيل متى: 
«طوبي لصانعي السلام لأنهم أبناء الله يدعون» (مت5: 9).  
هل كان حقا صانع سلام ومخلصا لتعاليم المسيح كما كان يزعم قبل أن يصبح مطرانا؟
هل كان المطران الياس شقور عطشا إلى البر؟ هل كان وديعا كالحملان حقا؟ هل أحب أعداءه أم جعل الكثير من الناس أعداءا له؟ هل أحب الخير أم أحب المال؟ هل كان متواضعا أم أنه عشق الشهرة والجاه الدنيوي الزائف؟ 
هذه الدعوة هي إهانة في الصميم لبنات وأبناء الأبرشية الشرفاء والمخلصين، لا بل هي صفعة مدويّة من الذين بادروا لها.
ليس واضحا من النص من الذي سيشكر من، هل هو الياس شقور الذي سيقدم الشكر لربه لأنه اختاره ليتربع على كرسي المطرانية؟ وهل حقا كانت تلك يد الرب التي اختارته؟
أم أن الشكر للمطران شقور من أبناء الأبرشية على أياديه البيضاء التي أسبغها عليهم؟
ما هي المآثر التي خلّفها الياس شقور التي كانت وراء الدعوة إلى قداس احتفالي لشكره وتكريمه؟ احتراما للمدعوين كان من الواجب على الداعين أن يذكروا مأثرة واحدة من تلك المآثر.
عطفا على ما جاء أعلاه نحن نستنكر ونشجب هذه الدعوة وندعو جميع أبناء الأبرشية للنأي بأنفسهم عن هذا القداس وندعوهم لتعميم هذا الاستنكار والشجب على معارفهم وأصدقائهم.

السبت في 15-2-2014



Friday 3 January 2014

شعب بدون وطن؟ وطن بدون شعب؟

شعب بدون وطن؟ وطن بدون شعب؟


 المقال التالي أرسله إلي صديقي المؤرخ شلوموه زاند إثر حديث تليفوني بيننا في السادس من آذار لسنة 2010 سألته خلاله ماذا كتبت مؤخرا، فقال لي:
كتبت مقالا طويلا أرد فيه على الحملة المحمومة التي قامت إثر نشر كتابي: متى وكيف نشأ الشعب اليهودي، وسأرسله لك لتقرأه.
ترجمت المقال ولم أنشره حتى الآن. عنوان المقال:

شعب بدون وطن، وطن بدون شعب

الجاليات التي تتجمع في إسرائيل، لا يصح أن تدعى شعبا حتى الآن، لأنها ليست سوى أخلاط غير متجانسة وهباء بشر، لا يجمعها لسان واحد، ولا نشأة مشتركة، ولا جذور، ولم تتغذّ من تراث الأمة ولا تحمل شيئا من أحلامها.  (داڤيد بن چوريون، ייחוד וייעוד (تفرد ورسالة)، 1950)

عندما صدر كتابي باللغة العبرية انبرى البعض للرد عليه، وبعد ترجمته للغتين الفرنسية والإنچليزية على التوالي تناوله العديد من الأقلام وعقبوا عليه، ولا أظنني أنني أستطيع أن أُضَمِّن هذا المقال القصير الشرح الوافي ولا الرد الشافي على الذين حملوا علي في تعقيباتهم، وأكثر ما أجدني عديم الحيلة، في الرد على هؤلاء الذين زعموا أن كل ما ورد في كتابي ليس سوى أكاذيب، بينما يزعمون في الوقت ذاته أن كل ما كتب كان معروفا ومدونا من قبل ولا اعتراض عليه.  لذلك سوف ينحصر مقالي في الرد على أهم التعقيبات التي حاولت النيل من كتابي، الذي حطم العديد من الأصنام التي دأب على عبادتها الكثير من دعاة الخطاب الصهيوني.
قبل أن أخوض في صلب الموضوع، ودرءا لسوء الفهم، أرى من واجبي أن أنوه أنني لم أتوخ أن يتناول كتابي تاريخ اليهود، غاية كتابي هي نقد المزاعم وصوغ التاريخ التي ما زال سائدا حتى الآن، بالإضافة إلى ذلك، حاولت أن أحدد معالم القومية التي تتوكأ عليها دولة إسرائيل والتي ساهمت في نشوء وبلورة الأساطير التي من دونها ما كان للاستيطان الصهيوني أن يخرج إلى حيز التنفيذ، ليس كما نراه اليوم، على الأقل.  من الجدير بالذكر أيضا أن صوغ التاريخ المغرض ليست حكرا على المشروع الصهيوني، لأنه جزء لا يتجزأ من صوغ معتقدات الجماهير في جميع أنحاء العالم المعاصر.  جميعنا يعلم حق العلم أن ما تختزنه الشعوب في ذاكرتها القومية هو من بنات أفكار أناس أنيطت بهم مهمة نسج تلك الأساطير.

 اليهود موجودون منذ القدم

في الماضي، كانت كلمة شعب تطلق على الذين يعتنقون ديانة ما، كقولهم "الشعب اليهودي"، أو "الشعب المسيحي"، أو "شعب الله" وما يشبه ذلك.  أما في العصر الحديث، فقد أصبحت تلك الكلمة تشير إلى مجموعات من البشر، لها معالم حضارية ولغوية مشتركة.  لا أعتقد أن من الجائز إطلاق كلمة شعب على مجموعة من الناس قبل انتشار الطباعة ومعها جاء انتشار الكتب والصحف على نطاق واسع، حيث ساهم شيوع المطبوعات في نشوء التربية الوطنية.  قبل ذلك العهد، كان الاتصال بين الناس يتم على نطاق ضيق للغاية، وكان كعظم الناس يعملون في الزراعة وتربية الماشية، بحيث أن ثروتهم من اللغة كانت تقتصر على ما يحتاجه الواحد منهم للقيام بعمله وعبادته، ولذك لا أرى أن من الجائز أن نطلق كلمة شعب على مجموعة من الناس، معظمهم من المزارعين والرعاة الأميين، من يزعم ذلك يشوه وجه التاريخ!
عندما تزعم كتب التاريخ الصهيونية مملكة الحشمونائيم بأنها مملكة قومية، فإنها تثير السخرية، كيف تكون مثل تلك المملكة، دولة قومية، إذا كان حكامها الذين يعيشون في العاصمة يتكلمون الآرامية، بينما كان معظم رعاياهم يتكلمون لهجات مختلفة من العبرية، بينما كان التجار والحرفيين وكثيرون غيرهم يتكلمون اليونانية التي كثر انتشارها في ذلك العهد؟
حيث أن المؤرخين يعتمدون على دائما على ما دونه الأقدمون، وحيث أن جميع هؤلاء كانوا ينتمون إلى طبقة المثقفين في عصرهم، فقد وقعوا في خطاء التعميم، واعتقدوا أن تلك الوثائق تعكس حالة عامة الشعب، بينما كانت في الواقع، تصف لنا حالة قلة قليلة من الناس، وذلك لأن السواد الأعظم من سكان تلك الممالك والأمارات لم يكن لهم علم ولا تأثير بما يدور بلاط الحكام ومعاونيهم، وكان جل همّهم توفير قوت يومهم، لا غير.  كان الشعور بالولاء للحكام يأتي من الإقطاعيين وأثرياء المدن الذين يعتمدون على سطوة الحاكم للحفاظ على امتيازاتهم ولذك ساعدوه على تثبيت دعائم سلطته.
قبل العصور الحديثة لم يكن هناك مثقفون يعالجون في كتابتهم ما يمثل مصلحة عامة الناس، كان رجال الدين هم الوحيدون الذين اهتموا بنشر المعتقدات الدينية بين الجماهير، أما الحرية التي أتيحت لهم فقد كانت منوطة بقدرتهم على إرساء دعائم الدين بين عامة الناس، وقد كان من أسباب نفوذهم، ما اعتادوه من تضامن واتصال دائم في ما بينهم.  لم يقتصر تأثيرهم على نشر الإيمان فقط، بل نتج عنه أيضا تكوين ذاكرة مشتركة لدى عامة الناس، ولذلك فإن جموع البربر في جبال أطلس كانوا يعرفون عن قصة خروج اليهود من مصر، وعن نزول التوراة أكثر بكثير مما كانوا يعرفون عن الحاكم الذي يعيش في عاصمته بعيدا عنهم.  لم يختلف الأمر عن ذلك في فرنسا أيضا، حيث كان العديد من الفلاحين يعرف عن قصة ميلاد المسيح، بينما بعضهم لا يعرف اسم ملكه.
كما أنه لم يكن هناك منذ خمس مائة عام شعب فرنسي، أو بولندي، أو إيطالي، أو ڤيتنامي، كذلك أيضا لم يكن هناك شعب يهودي في العالم برمته.  لا شك أن العقيدة اليهودية وما يتبعها من عبادات وطقوس كانت موجودة بمقادير متفاوتة من التزمت والانتماء، لكن الصبغة اليهودية لتلك الجاليات كانت طفيفة كل ما كانت عناصر الحضارة الغير يهودية التي يعيشون بين ظهرانيها، تحتل حيزا أكبر في حياتهم اليومية.  التباين العميق في مظاهر الحياة اليومية للجاليات اليهودية حيث ما وجدت حمل المؤرخين الصهيونيين على الزعم بأن جميعهم ينحدرون من أصل واحد، وهذا الأصل لا بد من رده إلى العبرانيين القدماء، كما بيّنت ذلك في كتابي.  لأسباب موضوعية، لم يكن بوسع هؤلاء المؤرخين الزعم بأن اليهود جميعا هم سلالة واحدة، غير أن الغالبية العظمى منهم  أكدت أنهم ينحدرون من أب واحد وهذا ما يسوّغ لهم أن يزعموا بأنهم "شعب".   كما أن الفرنسيين كانوا على ثقة في ما مضى بأنهم جميعا من سلالة الغاليين، أو كما أن الألمان كانوا أيضا يعتقدون بأنهم ينحدرون من السلالات التوتونية الآرية، كذك كان اليهود أيضا يعتقدون بأنهم أحفاد اليهود الذين خرجوا من مصر.  أسطورة "الآباء العبرانيين"  كانت الشرط الذي لا غنى عنه لمزاعم الحركة الصهيونية بأن فلسطين من حق اليهود فقط، ولا يزال العديد من اليهود على يقين بأنهم أحفاد العبرانيين القدماء.  كلنا نعلم حق العلم، بأن الانتماء إلى فئة دينية ما لا تصلح أن تكون ذريعة لملكية رقعة من الأرض في العالم المعاصر،  ولكن من يزعم أنه حفيد أناس كانوا يعيشون يوما على رقعة من الأرض يستعمل تلك الذريعة، وهذا ما فعلته الحركة الصهيونية.
وهكذا، بجرة قلم، حول المؤرخون الصهيونيون كتب العهد القديم من كتابات حكايات دينية مؤثرة، إلى كتاب تاريخ علماني، يدرسه جميع الطلبة اليهود في إسرائيل منذ السنة الدراسية الأولى حتى نهاية المرحلة الثانوية.  استطاعت مناهج التعليم الحديثة في دولة إسرائيل أن تحول "بني إسرائيل"  من  "الشعب المقدس" إلى شعب من "نسل إبراهيم".  
عند ما أخذت الحفريات الحديثة تثبت أن خروج العبرانيين من مصر ليس سوى أسطورة، وأن المملكة الموحدة العظمى التي أقامها داؤود وسليمان، هي أيضا من الأساطير، كانت تلك صدمة كبيرة ومحرجة للجماهير اليهودية العلمانية في إسرائيل ولم يكن بوسعها أن تصدق تلك الاكتشافات (لأنها تنسف المزاعم الصهيونية من أساسها - المترجم)، ولذك لم يتورع بعض الغلاة من اليهود بأن يصموا علماء الآثار بأنهم "منكروا العهد  القديم".

الجلاء والذاكرة التاريخية

علمنة العهد القديم كانت تسير يدا بيد مع قومنة المهجر.  الأسطورة السائدة عن تهجير "الشعب اليهودي" من موطنه على يد الرومان في السنة السبعين للميلاد كانت الذريعة الوحيدة لادعاء الملكية اليهودية على أرض فلسطين، التي حولها الخطاب الصهيوني إلى "بلاد شعب إسرائيل".  في هذا نجد محاولة مريعة، ليس لها مثيل، لتحوير التاريخ، لصوغ ذاكرة مستحدثة للجماهير اليهودية.  رغم أن جميع الدارسين لتاريخ اليهود القديم يعلمون حق العلم، أن الرومان لم يطردوا اليهود من فلسطين، ولذلك، لا يوجد كتاب أو بحث جدي واحد يثبت هذا المزعم، رغم ذلك، فإن عامة الناس على ثقة بأن "شعب إسرائيل" القديم اقتُلع من وطنه قسرا، كما أشير إلى ذلك في وثيقة الاستقلال لدولة إسرائيل، ويظهر بجلاء على النقد الإسرائيلي. 
كلمة "جلاء" استعملها اليهود قديما للدلالة على رفضهم لفكرة الخلاص التي اتكزت عليها المسيحية التي تقول أن المخلص، أي المسيح قد جاء ومن ينكر ذلك فهو ملحد.  استعمل المؤرخون الصهيونيون هذه الكلمة لإضفاء معنى جديد له دلالات سياسية علمانية فقد استبدلوا المعنى الديني العميق الذي يقرن بين "الجلاء" و "الخلاص"، (أي أن الجلاء الذي فرضه الرب عقوبة لبني إسرائيل سينتهي عندما يعفو الرب عنهم ويرسل المسيح، أي الملك ليخلصهم ويعيد لهم مجدهم الغابر - المترجم) بمعنى آخر، بمهارة فائقة ليصبح "الجلاء" الذي يفضي إلى "الوطن".  ظل اليهود لقرون عديدة يحلمون بالعودة إلى صهيون، مدينتهم المقدسة، غير أن الهجرة إليها والعيش فيها لم يخطر حتى ببال اليهود الذين عاشوا قريبا منها، حتى تلك القلة القليلة من اليهود التي استوطنت مدينة القدس، كانوا على يقين أنهم لا يزالون في المهجر حتى يأتي المسيح ويخلصهم باستصحابهم إلى صهيون ومعهم جميع الأموات من اليهود.
وهنا لا بد لي من أن أنوه أنّ كتابي لم تكن غايته الطعن في "الحقوق التاريخية" لليهود في صهيون.  حتى عندما كنت لا أزال ساذجا وأصدق أن الرومان قد أجلوا اليهود في بداية العهد المسيحي، لم أكن أعتقد أن جلاء ألفي سنة عن بلاد ما يعطي حقوقا للذين جلوا عنها، بينما هؤلاء الذين يعيشون عليها باستمرار منذ ثلاثة عشر قرنا لا حقوق لهم.  هل يخطر ببال أحد أن ينفي الوجود الأمريكي الحالي بسبب حقوق السكان الأصليين؟ أو أن يدعو إلى طرد الغزاة النورمانديين من بريطانيا أو إعادة العرب إلى إسبانيا. إن الذي يستند في دعواه إلى قصص خرافية وأساطير دينية من الأزمنة الغابرة، يكون كمن يهزأ بالتفكير السليم والمنطق القويم.  حق إسرائيل في الوجود لا ينبع من قصص العهد القديم ولكن من أحداث تاريخية مؤلمة لا سبيل إلى نقضها، وكل محاولة لنفي حقها في الوجود ستؤدي إلى مزيد من الكوارث والمآسي.

هل الفلسطينيون هم أحفاد قدماء اليهود؟

إذا كان الجلاء اليهودي لم يتم، ماذا حل إذن بالسكان اليهود في ذلك العصر؟ اتهمت بأنني زعمت أن فلسطينيي اليوم هم أحفاد قدماء اليهود، أنا لم أكن أول من زعم ذلك، أنا نقلت بأمانة، ما قاله آباء الحركة الصهيونية أمثال يسرائيل بالكيند وداڤيد بن چوريون ويتسحاك بن تسڤي الذين كانوا على ثقة بأن العديد من الفلاحين الذين قابلوهم في بداية استيطانهم هم من أحفاد "الشعب اليهودي" القديم ولذك يجب الاندماج في ما بينهم.  كان اعتقادهم ينبع من معرفتهم أن الرومان لم يجلوا اليهودمن فلسطين في القرن الميلادي الأول، ولذلك استنتجوا بحق أن الفلسطينيين هم أحفاد اليهود القدماء الذين اعتنقوا الإسلام مع استيلاء العرب على فلسطين في القرن السابع الميلادي.  تنكر بن چوريون في ما بعد لاعتقاده الأول عندما شارك في كتابة وثيقة الاستقلال لدولة إسرائيل، دون أن يشرح سبب ذلك التحول.  في اعتقادي، أن سكان فلسطين في العهد الحديث، ينحدرون من أصول متنوعة مثل معظم شعوب العالم المعاصر، حيث أن فلسطين خضعت لسيطرة العديد من الشعوب على مر التاريخ، من مصريين ويونان ورومان وعرب وأتراك، فإن دماء هؤلاء جميعا اختلطت ونتج عنها الشعب الفلسطيني كما نعرفه اليوم.  رغم إنني لا أعير هذه الحقيقة كبير اهتمام فإني اعتقد أن بن چوريون الشاب قد قارب الصواب، لأن أحد سكان الخليل اليوم أقرب سلالة إلى قدماء اليهود من معظم يهود العالم المعاصر.

الملاذ الأخير: علم الوراثة

بعد أن استنفُدِت جميع التعليلات التاريخية، لجأ العديد من منتقديَّ إلى علم الوراثة، بتناقض صارخ لزعمهم بأن الصهيونية لا تقول بأن اليهود من سلالة واحدة، وكأنهم يقولون "اليهود ليسوا خلصاء، ولكنهم يعودون إلى أصل واحد".  عبثا، حاول بعض المختصين في إسرائيل، في الخمسينيات من القرن العشرين، البحث عن تشابه في بصمات الأصابع لدى اليهود، أو وجود أمراض تنتشر بين اليهود أكثر من سواهم.  منذ سبعينيات ذلك القرن وتطور وسائل الكشف عن الأسّ الوراثي في الخلايا الحية (الجينات) عمد العديد من العلماء في معاهد البحث الإسرائيلية والأمريكية للتنقيب عن صفات وراثية مشتركة لجميع "بني إسرائيل".  تناولت بالتفصيل في كتابي عدم جدية النتائج التي تمخضت عنها أبحاث هؤلاء العلماء، والتناقض الذي أوقعتهم فيه رغبتهم العارمة في إيجاد دليل علمي لوحدة الأصول اليهودية.  القاسم المشترك لمعظمهم هو التوكأ على ما درسوه من الخطاب الديني الذي جعلهم يؤمنون بأن تلك النصوص الدينية تروي بأمانة ودقة، وقائع أحداث من الماضي السحيق، ولذلك لا بد من البحث عن برهان علمي يؤلد صحة تلك الأساطير.  يذكرني هؤلاء العلماء من الصهيونيين ومريديهم، بتلك المجموعة الأوروبية من العلماء التي حاولت في نهاية القرن التاسع عشر أن تبرهن بأن للشعوب الآرية جمجمة تختلف في شكلها وحجمها عن جماجم غيرهم من الشعوب، وكأن القدرات العقلية للإنسان ترتبط بالمظهر الخارجي لجمجته!  
من الجدير بالذكر، أن جميع المحاولات لاكتشاف صفات وراثية مشتركة لليهود قد باءت بالفشل حتى الآن.  من سخرية القدر أن أحفاد ضحايا النازية يبحثون عن الهوية اليهودية في الخلايا الحية ( لا شك أن ذلك كان سيثلج قلب أدولف هتلر، بعد أن أخفق هو بذلك! ).  من المثير أيضا، أن مثل هذه المزاعم والأبحاث تتم في دولة تنفذ منذ عقود سياسة معلنة لتهويد البلاد، ولا تقر بزواج اليهودي من غير اليهودية!   

المتهودون، الخزر، المؤرخون

رغم إقرار جميع منتقديّ بأن قصة جلاء "الشعب اليهودي" من بلاده على يد الرومان في القرن الميلادي الأول، لا أساس لها من الصحة، ورغم إقرارهم بأن كتب العهد القديم ليست مصادر تاريخية موثوقة، ظل الكثير منهم يقذفني بسهامه لأنني عالجت في فصلين من كتابي "القضية الخزرية"، قال الكثير منهم: 
"كلنا قرأنا في حداثتنا عن تهود الخزر"، "هذه قصة مهترئة وغير موثقة"، "الكاتب المعادي للسامية، آرتور كوستلر، هو الذي لفقها"، "العرب يسخرون هذه القصة منذ مدة طويلة"، وكثير غير ذلك.
لعل أكثر ما شد انتباهي، أن أحدا من هؤلاء النقاد لم يذكر، ولو بكلمة واحدة، التهويد القسري للجيران، الذي أقدم عليه الحشمونائيون، واعتناق بعض الجماعات الكبيرة لليهودية، حول حوض البحر المتوسط، في العصور القديمة، ومنها على سبيل المثال، مملكة حدايب في بابل القديمة، مملكة حمير في اليمن، البربر في شمال إفريقيا.  على النقيض من الاعتقائد السائد في أيامنا، فإن أتباع اليهودية منذ بداية القرن الثاني للميلاد وحتى مستهل القرن الرابع على الأقل كانوا يعملون بحماس لنشر مذهبهم بين الفئات الأخرى، ولا  يوجد من يستطيع أن يتنكر بالبرهان لهذها الحقيقة التاريخية.  لم يتوقف العمل على نشر اليهودية، إلا عندما قامت دول مسيحية ( وإسلامية في ما بعد ) وحظرت على اليهود الدعوة إلى اليهودية بين رعاياها، ولكن ذلك لم يحل دون محاولة نشر اليهودية بين الشعوب الوثنية، وهذا هو المدخل لقصة اعتناق جموع الخزر لليهودية.
هناك إجماع على أن تحول الإمبراطورية الخزرية إلى اليهودية حدث في القرن الثامن الميلادي، غير أن المؤرخين الصهيونيين يستشيطون غضبا عندما يزعم غيرهم بأن انتشار اليهودية الكثيف في شرق أوروبا كان نتيجة لانهيار تلك الامبراطورية وهجرة الكثير من اليهود فيها إلى أوكراينا وروسيا وبولندا والمجر.  لا بد من التنويه بأن كوستلر لم يكن أول من زعم بأن الوجود اليهودي الكثيف في تلك الأرجاء نتيجة لهجرتهم من الامبراطورية الخزرية المتداعية، ولعل ذنبه الوحيد أنه كان آخر من نشر أبحاثه.  حتى نهاية الستينيات من القرن العشرين، اعتقد عامة المؤرخين والصهيونيين منهم أيضا، ما كتبه كوستلر في ما بعد، وقد أوردت في كتابي العديد مما كتبه هؤلاء، ولذلك كانت دهشتي شديدة عندما زعم بعض النقاد: "قصة الخزر كانت معروفة لنا، وقد كتبنا عنها".
في ما يلي أورد بعض الأمثلة:
زعم بن تسيون دينار، المؤرخ الأول في أسرائيل ووزير التربية والتعليم في الخمسينيات، أن بلاد الخزر أصبحت "المصدر لجميع الجاليات، هي المصدر لإحدى كبرى الجاليات، أي الجاليات اليهودية في روسيا وليتوانيا وبولندا"
أما المورخ الأمريكي اليهودي شالوم بارون المعروف بتعاطفه مع إسرائيل فقد كتب يقول: "ذلك الوجود اليهودي الظاهر للعيان، أثر لعشرات العقود من خلال وجوده (740-1250) ومن خلال فروعه التي امتدت في شرق أوروبا، واستمر تأثيره العميق على التاريخ اليهودي أكثر بكثير مما يخطر على بالنا الآن.  من بلاد الخزر انطلق اليهود إلى سهوب شرق أوروبا الواسعة الأرجاء خلال ازدهار الإمبراطورية الخزرية وخلال هبوطها".
عندما سئل الباحث الفرنسي المعروف مارك بلوخ، من هم اليهود؟ قال:
"هم مجموعة من المؤمنين التي نشأت في الماضي البعيد على جوانب البحر المتوسط وفي المحيط التركي - الخزري والسلاڤي". 
وضع المؤرخ أفراهام پولاك، وهو مؤسس موضوع تاريخ الشرق الأوسط في جامعة تل أبيب، كتابا يعتبر المرجع الأهم والأشمل في مجاله، يشير فيه إلى أن الغالبية العظمى من يهود شرق أوروبا تنحدر من قبائل كانت تعيش في المملكة الخزرية.  الفرق بين المؤرخين الصهيونيين وسواهم هو أن الصهيونيين يزعمون دون أي دليل، أن سيلا كبيرا من المهاجرين اليهود الذين استقروا في بلاد الخزر جاؤوا إليها من فلسطين.  هذه ليست سوى محاولة عقيمة لردهم إلى أصول عبرانية.
منذ أن نشر پولاك أبحاثه في أربعينيات القرن العشرين حتى يومنا هذا، لم تصدر دراسة واحدة تبحث في العلاقة بين القبائل التي تهودت في المملكة الخزرية الواسعة الأرجاء وبين ظهور تلك الأعداد الغفيرة من اليهود الناطقين بالييديش، لم يكتب حتى اليوم بحث موثق واحد ولم تظهر أي دراسات يعول عليها تفسر لنا كيف يمكن أن ينبثق ذلك السيل الغزير من الهجرة اليهودية، من تلك الجالية الصغيرة في غرب ألمانيا، والتي نتج عنها وجود أكثر من ثلاثة أرباع مليون من اليهود في الاتحاد البولندي الليثواني (عدا عن اليهود الذين وجدوا في أوكراينا الشرقية، روسيا، رومانيا، المجر، وبوهيميا)، وهو عدد ضخم جدا في ذلك الوقت الذي سبق الانفجار السكاني في القرنين التاسع عشر والعشرين.  زعم بعض خبراء النمو السكاني الصهيونيين، أن تكاثر اليهود يفوق غيرهم بعشرات الأضعاف لأنهم يغسلون أيديهم قبل تناول الطعام.  هذا زعم باطل يتوكأ على حجج واهية.  ما لم تنشر دراسات جديدة تفسر ظهور تلك الجاليات اليهودية الكبيرة في شرق أوروبا،  والتي لا مثيل لها في أي بقعة أخرى من العالم، فإن التفسير الوحيد لذلك، هو نزوحهم من مملكة خزرية ازدهرت خلال العصور الوسطى.  ( من الجدير بالذكر أن عدة دراسات ألسنية، أشارت إلى أن لغة الييديش جاءت من أصول تختلف عن لغة اليهود الألمان التي انتشرت في الأحياء اليهودية (الچيتو) في غرب ألمانيا).
منذ أن انطوت صفحة الاستعمار في آسيا وإفريقيا، وبعد ظهور الحركة الوطنية الفلسطينية واحتلال إسرائيل في سنة 1967 لما تبقى من فلسطين إلى الغرب من نهر الأردن، لم يعد هناك شك (عند غلاة الصيهيونية) بأن الفاتحين اليهود الجدد للقدس هم أحفاد العبرانيين في مملكة داؤود وسليمان، وكما نفى المؤرخون السوڤييت اليهود الخزر من كتبهم، بعد الحرب العالمية الثانية، نفاهم أيضا مؤرخو الحركة الصهيونية من كتبهم بعد حرب سنة 1967.  في الحالتين كانت الدوافع العقائدية - السياسية هي التي أملت تشويه الوقائع التاريخية.

نفي وجود شعب إسرائيلي

اتهمت أيضا بأنني "أنفي وجود شعب يهودي"، وأنا أقر واعترف بأن هذه التهمة لا تخلو من الصدق وإن كانت الغاية منها التقريع والتلميح إلى أنني أنفي وقوع المحرقة، وهذه تهمة لا تغتفر.
إذا كان انتشار الكتب والصحافة على نطاق واسع هو السبب في نشوء القوميات في العصر الحديث أفلا تكون تلك الظاهرة أيضا تمخضت عن ولادة شعب يهودي؟  الجواب هو لا، لم يحدث ذلك، باستثناء شرق أوروبا حيث كان اليهود يمثلون نسبة ملموسة من السكان وحيث كان لهم لغة مشتركة ومعالم حضارية خاصة بهم، لم ينشأ شعب يهودي يضم تحت لوائه جميع اليهود في العالم.  مؤسسي حزب "البوند" اليهودي الكبير الذي نشأ في شرق أوروبا كانوا يعلمون بأن تخوم الشعب الذي أرادوا الحفاظ على كيانه ومصالحه لا تتعدى تخوم انتشار لغة الييديش.  من الواجب التنويه أيضا بأن أوائل الصهيونيين في غرب أوروبا  كانوا يعتقدون بأن فلسطين يجب أن تكون لليهود الناطقين بالييديش وليس لهم، فقد كانوا يشعرون بالانتماء للدول التي عاشوا فيها وكانوا ينظرون إلى أنفسهم كرعايا بريطانيين أو فرنسيين أو ألمان أو أمريكيين وقد حاربوا في صفوف جيوش تلك الدول بحماس وغيرة.
رغم عدم وجود شعب يهودي في الماضي، أوَلم تنجح الحركة الصهيونية في ابتعاثه؟  
كل حركة قومية حلمت بابتعاث شعب، عملت على نسبته إلى أصول معرقة في القِدَم، هذا أيضا ما فعلته الحركة الصهيونية، وإذا كانت قد حققت غايتها في إيجاد شعب لم تنقطع مسيرته منذ القدم فإنها قد أخفقت في ابتعاث شعب يهودي ينتمي إليه جميع اليهود في العالم.  لا توجد اليوم بقعة على الأرض لا يستطيع اليهود الهجرة منها إلى إسرائيل، رغم ذلك فإن معظمهم لا يرغب في العيش في ظل سيادة يهودية ويفضل العيش في دول قومية مختلفة بل ويختلط بهم بالزواج أيضا.  بيد أن الصهيونية وإن أخفقت في ابتعاث شعب يهودي عالمي، أو قومية يهودية، فقد نجحت في ابتعاث شعبين وقوميتين جديدتين، ولكنها، من سوء الحظ، تأبى الاعتراف بوجودهما، بل إنها ترى فيهما كيانان غير شرعيان.  يوجد اليوم شعب فلسطيني، وهو وليد الاستعمار، يحلم بدولة ذات سيادة ويحارب بكل ما أوتي من وسائل للحفاظ على ما تبقى من وطنه، ويوجد شعب إسرائيلي يبذل كل ما في وسعه للحفاظ على استقلاله القومي، كما أن له لغته الخاصة به ونظام تعليم شامل وإنتاج أدبي وفني يعبر عن نشاطه الزاخر في كل المجالات، دون أن يكون لباقي اليهود في العالم أي مساهمة في ذلك.
بوسع اليهود الصهيونيين الذين يعيشون خارج إسرائيل أن يمدونها بالمال، وأن يحملوا الحكومات في بلادهم على تأييد إسرائيل وتقديم المعونات المالية والعسكرية والاستخباراتية، كل ذلك في الوقت الذي لا يجيدون النطق باللغة العبرية وهي اللغة الرسمية لدولة إسرائيل، أي أنهم لا يفهمون لغة تلك "القومية" التي يزعمون بأنهم جزء منها! كما أنهم يمتنعون عن الالتحاق "بالشعب الذي عاد إلى أرض أجداده"، ولا يرسلون أبناءهم للمشاركة في حروب إسرائيل.
في الوقت الحاضر، يفوق عدد اليهود الذين يهاجرون من إسرائيل إلى دول الغرب عدد اليهود الذين يهاجرون من تلك الدول إلى إسرائيل.
كلنا نعلم بأن معظم اليهود الذين هاجروا من دول الاتحاد السوڤييتي السابق إلى إسرائيل، كانوا يفضلون الهجرة إلى أمريكا لو أتيح لهم ذلك، كما فعل الناطقين بالييديش قبل قرن من الزمن.
ترى هل كانت إسرائيل لتقوم لو لم تغلق الولايات المتحدة أبوابها في وجه الهجرة من أوروبا الشرقية في سنوات العشرينيات من القرن العشرين، وقد ظلت سياسة الهجرة عديمة الرحمة تلك تغلق الأبواب في وجه الفارين من النظام النازي قبل الحرب العالمية الثانية وخلالها وفي ما بعد الحرب. 
لعل أقل البلدان أمنا في العالم في هذه الأيام، للذين يعتبرون أنفسهم يهودا هي إسرائيل، بينما كانت الصهيونية تزعم أنها تسعى لإقامة كيان يعيش فيه اليهود آمنين، ومن أسباب في ذلك عدم اعتراف الحركة الصهيونية بوجود شعب إسرائيلي، لأنها ترى في اليهود المقيمين في إسرائيل مجرد طلائع استيطانية في مشروع استيطاني توسعي مستمر، ولذك يجب أن يظل معزولا عن محيطه ومزملا بعقائدية عرقية منطوية على نفسها.
كانت ولادة معظم القوميات من توهّم ماض مشترك وأصل واحد انحدر منه جميع أبناء "الشعب".  ظل النقاش محتدما حول تعريف ماهية المعالم المشتركة التي تؤلف قومية ما، خلال القرنين التاسع عشر والعشرين، ولا يزال هذا النقاش مستمرا حتى أيامنا هذه في عديد من بقاع الأرض.  في معظم الدول الديمقراطية - الليبرالية تسود اليوم قومية قوامها المواطنة السياسية، حيث تم فصل الدين عن الدولة وأصبحت القيم العلمانية الإنسانية من حرية ومساواة في الحقوق والواجبات دون تمييز، هي التي تجعل من الإنسان جزءا من ذلك الكيان.  بينما لا تزال بعض الدول ترى في الانتماء العرقي أو الديني أو كليهما، الشرط الأول للحصول على الحقوق المدنية والسياسية وامتلاك الأرض.
نشأت الصهيونية في وسط وشرق أوروبا وتأثرت كثيرا بالتيارات العقائدية السائدة في موطِن نشأتها، حيث كان الانتماء منوطا بالمنشأ العرقي المتصل بعقيدة دينية هو الشرط الذي لا بد منه للحصول على عضوية كاملة في تلك المجتمعات، حيث لم تشفع لغة مشتركة، أو إقامة طويلة، أو الاندماج في الحياة المدنية العلمانية بجميع أشكالها ليصبح المواطن جزءا من الأمة.
ما زالت الحركة الصهيونية تتشبث بالانتماء إلى أحفاد إبراهيم واسحق ويعقوب والدين اليهودي كشرط لا بد منه للانتماء "للشعب اليهودي"، وهذا يعني أن باب الانضمام إلى هذا "الشعب" مغلق أمام جميع العلمانيين.  بل أن الخروج من حظيرة تلك "القومية" غير ممكن.  هذه هي المعضلة الكبرى التي تواجه إسرائيل اليوم.
أدى الاستيطان الصهيوني في فلسطين إلى مزيد من التشبث بهذه الصيغة من القومية، وإذا كان هناك من قادة الصهيونية من كان يرى في الفلسطينيين أحفاد قدماء اليهود ويعتقد بإمكانية اندماجهم في الكيان الصهيوني المزمع إقامته، فقد تلاشت تلك الفكرة تماما مع ظهور بوادر المعارضة العربية للاستيطان الصهيوني، فأصبح الانتماء العرقي - الديني هو الذي يجب أن يتوفر في أي شخص يرغب في الانضواء تحت لواء هذه "القومية" المستحدثة.
لم يتمسك مجتمع استيطاني بالانتماء العرقي - الديني كما تمسكت به الصهيونية، ففي أريكا الشمالية مثلا، دام ذلك التمسك طويلا ثم تلاشى، أما في أمريكا اللاتينية - الكاثوليكية التي شهدت نشوء قوميات جديدة منذ أمد غير بعيد، فقد تلاشت تلك الصيغة بسرعة أكبر.
ظهرت في إسرائيل في مستهل الستينيات من القرن العشرين بوادر طفيفة لصيغة علمانية قومية لكنها ما لبثت أن توارت إثر حرب 1967 ووقوع أعداد كبيرة من الفلسطينيين تحت الاحتلال الإسرائيلي، مما أدى إلى مزيد من التعصب وهيمنة عقيدة "العرق" اليهودي المُتَوَهّم.
ما زالت إسرائيل ونحن في العقد الأول من القرن الحادي والعشرين، تُعَرّفُ نفسها بأنها دولة يهودية تعود "للشعب اليهودي" ، أي أنها دولة جميع يهود العالم حيث ما حلوا ونزلوا، وليست دولة جميع مواطنيها الذين يعيشون فيها، ولذك من الصواب أن ننعتها بأنها دولة "إثنوقراطية" وليست ديمقراطية كما تزعم، حيث جميع الدول الديمقراطية الحديثة على اختلاف أشكالها إنما تمثل جميع مواطنيها وتعمل على تلبية حاجاتهم دون استثناء أي فئة ودون محاباة أي فئة دون أخرى.  العمال الأجانب في إسرائيل وعامتهم من دول جنوب شرق آسيا كالفيلبين وسيريلانكا، يظلون غرباء، حتى لو عاشوا وعملوا فيها عشرات السنين وأنجبوا أولادا لا يعرفون لغة لهم سوى العبرية.
خمس السكان في إسرائيل هم من العرب الفلسطينيين، وهم سكان البلاد الأصليين، ولكن الدولة تعتبرهم أعداء أو غرباء في أحسن حال، رغم أن إسرائيل قامت على أنقاض وطنهم واستولت على معظم أراضيهم.  لن أفاجأ إذا ما اندلعت الانتفاضة القادمة من بين صفوفهم إذا ما استمر الحال على ما هو عليه اليوم.
هناك من يطيب له أن يتجاهل الواقع القائم ، ويطيب له الاستمرار بالادعاء بأن "الشعب اليهودي" موجود منذ أربعة آلاف سنة، وأن "أرض إسرائيل" كانت دائما ملكه الخاص، غير أن تلك الأساطير التي سُخِّرَت في الماضي القريب (بواسطة الخيال المجنح لبعض المؤرخين الصهيونيين)، لإقامة دولة إسرائيل، هذه الأساطير بعينها قد  تكون السبب في زوالها.

Wednesday 1 January 2014

دراسة الفيزياء

دراسة الفيزياء

أطلب المعرفة لأجل المعرفة وهي تجلب لك السعادة (قول يوناني).
عزيزي طالب العلم،
يحكى عن الفيلسوف اليوناني العظيم أفلاطون، ( 347-427 ق.م.) أنه كتب فوق مدخل مدرسته هذه العبارة:
" من يجهل الرياضيات لا يدخل من هذا الباب "
هذه العبارة هي الدليل على عظمة أفلاطون وعلى ثاقب نظره .  (أرجو أن تقرأ شيئا من كتاباته الكثيرة) .
" الكون مبني حسب نموذج رياضي ".  هذه الكلمات للفيلسوف والرياضي البريطاني المعروف بِرتراند رَسِل 
1970-1872   Bertrand Russell  .  بكلمات أخرى: " كل ما في الكون من أشكال وحركات يمكن وصفها بواسطة الرياضيات " .   
لعلك تتساءل ما الذي يجعلني أستهل المدخل لكتاب يعالج علوم الطبيعة بالتنبيه إلى أهمية الرياضيات، الجواب على ذلك هو أنّ الإلمام بالرياضيات هو المفتاح الذي لا غنى عنه ولا بديل له لدراسة علوم الطبيعة على فروعها المختلفة من هندسة وطب وكيمياء وفلك وغيرها.  من يدرس تاريخ الاكتشافات في علوم الطبيعة يجد أنها ترتبط ارتباطا وثيقا بتطور الرياضيات ولذا كان لا بد لي من أن ألفت النظر إلى هذه العلاقة المتينة بين الموضوعين.
" دراسة الرياضيات والطبيعيات من الأمور الصعبة ".  كلام يكثر ترديده بين الناس عامة والطلاب خاصة، فما هي الحقيقة؟
قبل أن أحاول الإجابة أود أن أورد أمامك نص رسالة بعث بها بديع الزمان الهمذاني، الذي كان من أئمة عصره في الكتابة، إلى ابن أخت له كان ينفق عليه من ماله ليتعلم.  كتب إليه:
" أنت ولدي ما دمت والدفتر أليفك والمحبرة حليفك،العلم شأنك والمدرسة مكانك، فإذا قصّرت، ولا أخالك، فغيري خالك، والسلام ".
ولا بد لي أيضا من أورد ما ذكره ضياء الدين بن الأثير هذا (وزير صلاح الدين الأيوبي) عن نفسه في كتابه 
" المثل السائر في أدب الكاتب والشاعر " يقول، أنه بعد أن حفظ القرآن الكريم دأب على حفظ الحديث فاختار ثلاثة آلاف حديث نسخها بيده وأخذ يقرأها مرة كل أسبوع لمدة عشر سنوات دون انقطاع حتى حفظها جميعا عن ظهر قلب لا تفوته منها كلمة واحدة! وكان يحفظ الكثير من الشعر والنثر مما ساعده على أن يبلغ في كتابه المذكور ما لم يبلغه أحد قبله في نقد الشعر والنثر.
ويبقى السؤال، أين الحقيقة؟ الحقيقة هي أنّ الكسل والتواني والنّكوص يلد الفشل والجد والاجتهاد والعزم يلد  النجاح ولقد قال توماس إديسون 1931-1847 Thomas Eddison المخترع الأمريكي المعروف الذي سجل في حياته أكثر من ألف براءة اختراع:
" واحد في المائة من العبقرية يأتي من العقل وتسع وتسعون في المائة يأتي من العرق ".
من الطبيعي أن يواجه الواحد منّا شيئا من الصعوبة عندما نبدأ دراسة مادة لا عهد لنا بها من قبل، من الطبيعي أيضا أن تختلف هذه الصعوبة من فرد لآخر، قد يحتاج العازف على آلة موسيقية أن يعيد عزفها مئات المرات قبل أن يبلغ درجة الإتقان.  ما الغريب إذن في أن  يعيد الواحد منا قراءة مادة ما مرة بعد مرة حتى ينجلي له ما استغلق عليه فهمه منها؟ بالعزم والإصرار والمثابرة نستطيع أن نجعل من عقولنا شعلة متوهجة ندرك بها أسرار هذا الكون ونساهم في صنع حياة أفضل فالتطور السريع للعلوم يقتضي منا استمرار التحصيل حتى لا نصبح بمعزل عما يدور حولنا في عصر تيسّرت فيه وسائل العلم كما كَثُرَت فيه المهاوي التي تقود إلى الجهل.
 تذكّر دائماً أن العالِم يَقود والجاهل مَقود.  هذا القول ينطبق على الأفراد كما ينطبق على الأمم والتاريخ يشهد !     
تذكّر أيضا أن للعقل خاصة فريدة وهي: كلما تعلمنا أكثر كلما أصبح التَّعَلُّم أيسر أي أن الذي يقرأ ويدرس ويُجهِد عقله باستمرار في اكتساب المعارف والمهارات تزداد قدرته باطراد على كسب المعرفة وكلما كان ذلك أبكر كان أفضل  ومن يستسلم عقله للكسل والخمول يكون شأنه كمن أهمل آلة فيعلوها الصدأ فلا تعد تصلح للاستعمال..
لا أظنّ أن هناك إنسان عاقل لا تمر بذهنه بعض هذه الأسئلة أو غيرها:
كيف يتعاقب الليل والنهار؟
كيف تتولّد الفصول؟
كيف تتولد الحرارة في الشموس وكيف تصلنا؟
كيف يتكون المطر والصواعق والندى والرياح؟
كيف تعمل محركات البخار ومحركات الاحتراق الداخلي على مختلف أنواعها ؟
كيف يتم توليد الطاقة الكهربائية من مصادر مختلفة وكيف تعمل الأدوات الكهربائية المختلفة الأغراض؟ 
كيف تطير الطيور والحشرات؟ كيف تطير الطائرات، من نفاثة ومروحية، مجنحة وعمودية؟
كيف يتم إرسال الصوت والصورة عبر مسافات بعيدة بمثل هذا الوضوح؟
كيف تتولد الطاقة النووية من انشطار بعض الذرات أحيانا واندماج بعضها أحيانا؟
كيف يتم تصوير العظام والأعضاء الداخلية للجسم؟
كيف يعمل الحاسوب وكيف يُنظِّم ويوجه عمل الآلات العديدة ويتحكّم بها؟
كيف تنتقل قوة الجاذبية وبأي سرعة؟ 
لماذا تبتعد المجرات عن بعضها وهل سرعتها في تزايد أم نقصان؟
ما هو مجموع كتلة المادة الموجودة في الكون؟
هل هناك حياة على كواكب أخرى في الكون؟
هل سنتمكن من القيام برحلات خارج المجموعة الشمسية ومتى؟ 
تساؤلات لا حصر لها بعضها نعرف الإجابة عليه وبعضها لا زلنا نبحث عن الإجابة عليه.  ما أنجزناه حتى اليوم يرجع الفضل فيه إلى ما أحرزه علماء الرياضيات والطبيعة من اكتشافات على مدى العصور، ولعل أكثر ما يميز العصر الحديث هو كثافة الأبحاث وتشعبها بعد أن أصبحت الدول تتنافس لتحتل مكان الصدارة بواسطة إنجازاتها العلمية التي وفّرت لها القوة الاقتصادية والتفوق العسكري.    
من يتابع عن كثب ما يجري في السنوات الأخيرة يلاحظ أن عائدات الثروات الطبيعية لم تعد المصدر الوحيد الذي تعتمد عليه الشعوب إذ أنّ العائدات الناتجة عن التقدم العلمي أصبحت في المقدمة والبرهان على ذلك هو الأرباح العالية التي تحققها الشركات التي تنزل إلى الأسواق كل يوم باختراعات جديدة من برامج للحاسوب ووسائل اتصال وأدوات طبية وعقاقير جديدة وغير ذلك وهو يكاد لا يحصى.
كانت  الثورة الصناعية نتيجة طبيعية بل حتمية لتطور علوم الرياضيات والطبيعة في أوروبا وأتاحت لشعوبها من الأسلحة ما لم يكن معروفا في إفريقيا وآسيا فاجتاحت شعوب أوروبا القارات الأخرى ونهبت خيراتها وتلاعبت بمصير شعوبها ولا زالت المعاناة مستمرة في كثير من بلدان العالم التي قعد بها التخلف عن صيانة واستغلال مواردها الطبيعية والبشرية .
وفي ختام هذه الكلمة أود أن ألفت نظر الطالب والمعلم إلى أمر هو في غاية الأهمية والخطورة وكان يجدر بي أن أصدّر به كلمتي هذه ألا وهو إجادة اللغة.  اللغة ليست فقط وسيلة للتعبير بل هي أيضا أداة للتفكير.  كلما كانت ثروتك اللغوية أكبر كلما أتيح لك أن تعبر عن نفسك بوضوح أكثر وأن لا يلتبس عليك فهم ما تقرأه أو تسمعه.  ولعل أجمل وأدق ما قرأت في فضل البلاغة ما جاء في كتاب "البيان والتبيين" للجاحظ حيث جاء: 
"يكفي من حظ البلاغة أن لا يؤتى الناطق  من سوء فهم السامع ولا يؤتى السامع من سوء إفهام الناطق" 
فإذا فاتك فهم هذه العبارة فلا يهدأن لك بال حتى تحيط بمعناها.

      أتمنى لك دراسة ممتعة ومستقبلا زاهرا
  عصام زكي عراف
  معليا- الجليل الغربي