Monday, 24 December 2012

العيب فينا وليس في اللغة العربية

العيب فينا وليس في اللغة العربية / عصام عراف
تاريخ النشر: 16/06/2009 - آخر تحديث: 13:52
تعقيب على مقال للبروفيسور سليمان جبران نشر بتاريخ 3-6-2009 في موقع عرب48 تحت عنوان: "جنون الفتحة والكسرة"، ورد على جميع المتبرمين والساخطين والقانطين من لغة الضاد. 
يستهل الكاتب مقاله بجملة "سقى الله أيام الثانوية البعيدة" وهو تعبير لا معنى له إلا عند بعض أهل الجاهلية الذين كانوا يعتقدون أن المطر على قبر الميت رحمة له وهذا ليس بغريب على قوم يعيشون في بلاد أكثرها لا ينال إلا القليل من المطر، وقد تتوالى عليهم سنوات من الجفاف تذهب بالكثير من أنعامهم التى هي مصدر معيشتهم. لذلك دعوا المطر "غيثا". لهذا السبب ينتقد مارون عبود، الشاعر الأندلسي لسان الدين بن الخطيب لاستهلاله موشحه بالقول: "جادك الغيث إذا الغيث همى"، ويقول بحق، ما معناه: هذا رجل يفكر بعقل غيره وإلا لما استهل موشحه بهذا البيت، لأن الأندلس بلد غزير الأمطار، وارف الظلال لا يشكو الجفاف. 
لعل مارون عبود كان ينظر إلى قول ابن خفاجة: 
يا أهل أندلس لله دركم 
ماء وظل وأشجار وأنهار 
ما جنة الخلد إلا في دياركم 
ولو تخيرت، هذا كنت أختار 
أي أن أستاذنا العزيز يستعمل تعبيرا بائدا كان في غنى عنه. 
الأستاذ متفوق في دروسه ونحن نهنئه بذلك التفوق، ولا بأس أن يخبرنا أن المعلم كان "يعلنها" في الصف على مسامع التلاميذ ليشحذ همم طلابه، أما تلك الإضافة: "والتلميذات طبعا"، فأنا لا أعلم لماذا حشاها الأستاذ هنا، لأنها لا تليق حتى بفتى مراهق، فما بالك بأستاذ جامعي. هذه ليست بزلات تمت بوثيق صلة للموضوع الذي نحن بصدده، ولكنها خاطرة سنحت فذكرتها، وليست هي الغاية من الرد على الأستاذ الجليل. 


"المسألة الزنبورية" التي يعتبرها الأستاذ دليلا على عقم التفكير العربي، ليست سوى دليل ساطع يشهد على علو شأن العربية وعلو كعب أبنائها وإدراكهم لمكامن عبقريتها، وحرصهم على الدقة في التعبير بعد أن كثر اللحن بدخول الكثير من غير العرب في الإسلام. وإنه لمن دواعي فخرنا أن يكون لنا أجداد كهؤلاء، وإنه لمن دواعي كمدهم في قبورهم، أن يكون لهم أحفاد مثلنا. 
لو كان المجتمع العربي يعتقد أن إتقان اللغة ضرورة قومية ملحة، كما يزعم الأستاذ، لما كنا اليوم على هذه الحال المزرية التي نراها، لأن النهضة العربية الحضارية التي بدأت في القرن التاسع عشر، ما كانت لتحدث لولا النهضة اللغوية التي كان الشدياق من أبرز فرسانها ومعه ذلك الرعيل من الرواد، أمثال اليازجيين والبساتنة والعلامة الكبير الأب أنستاس ماري الكرملي وكثيرين غيرهم. 



الغريب في الأمر أن الأستاذ يزعم، أنه لم يعجب بأديب قديم أو حديث، إعجابه بعبقرية الشدياق، ثم يستشهد ببعض ما كتبه الشدياق ليثبت للقراء، أن لا حاجة للاهتمام الشديد بدراسة النحو. 
ما من متأدب عربي يجهل فضل الشدياق، وفضل مارون عبود في إحياء ذكر الشدياق، بعد أن كادت تطمسه الطائفية البغيضة، لأنه تحول عن دين آبائه وأجداده، ولا شك أن كتاب "صقر لبنان" لمارون عبود، كان البوق الذي بعث ذكر الشدياق حيا من بين الأموات. 
أما قول الشدياق: "وجميع اللغات التي ليس فيها علامات إعراب فهي خالية من الإفادة التّامّة"، فهذا خطأ لا أعلم كيف وقع فيه علامة مثله. 



لنقرأ ما يقوله سيبويه في الإعراب: 
" هذا باب مجاري أواخر الكلم من العربية، وهي تجري على ثمانية مجارٍ‏:‏ على النصب والجرّ والرفع والجزم والفتح والضمّ والكسر والوقف‏.‏ وهذه المجاري الثمانية يجمعهنّ في اللفظ أربعة أضرب‏:‏ فالنصب والفتح في اللفظ ضرب واحد والجرّ والكسر فيه ضرب واحد وكذلك الرفع والضمّ والجزم والوقف‏.‏ وإنما ذكرت لك ثمانية مجار لأفرق بين ما يدخله ضرب من هذه الأربعة لما يحدث فيه العامل - وليس شيء منها إلا وهو يزول عنه - وبين ما يبنى عليه الحرف بناءً لا يزول عنه لغير شيء أحدث ذلك فيه من العوامل التي لكلّ منها ضرب من اللفظ في الحرف وذلك الحرف حرف الإعراب‏.‏ فالرفع والجر والنصب والجزم لحروف الإعراب‏". 
فهل ينطبق هذا على اللغة اللاتينية وما انبثق عنها من اللغات، كالإيطالية والإسبانية والفرنسية والإنجليزية؟ وهل ينطبق على اللغات المتحدرة من أصل جرماني كالألمانية والهولندية؟ أو اللغات السلاڤية المختلفة؟ أو الصينية واليابانية وغيرها من لغات الشرق الأقصى وهي لغات مقاطع وليست لغات حروف؟ 
وهل الشدياق معصوم من الخطأ؟ ألم يخطىء الشدياق عندما قال عن المترادفات: 
"على أني لا أذهب إلى ان الألفاظ المترادفة هي بمعنى واحد وإلا لسمّوها المتساوية، وإنما هي مترادفة بمعنى أن بعضها قد يقوم مقام بعض فخصّت العرب كل نوع منها باسم، ولبعد عهدهم عنا تظنّيناها بمعنى واحد" 
وهذا غير صحيح لأن هناك بعض الكلمات استعملت في قبائل أو مناطق مختلفة ولكنها تعني شيئا واحدا بعينه، ومنها على سبيل المثال لا الحصر الكلمات: بُرّ، حنطة، قمح، كلها تشير إلى شيء بعينه، ويزعم الجاحظ، في "البيان والتبيين" أن كلمة بر وهي يمانية، أفصحها، ويورد أبياتا يحتج بها لزعمه. 



هناك أيضا أفعال تفيد معنى واحد مثل، نمق، ولمق، وكتب. 
وهل يعقل أن الشدياق، الذي قال أن اللغة العربية أشرف اللغات، وله مباحث تشير إلى اعترافه بفضلها على باقي اللغات كان يحتقر إتقان النحو؟ أم لعله أراد أن يقول، إن الانصراف الكلي للعرب، إلى علوم اللغة وإهمالهم للرياضيات وعلوم الطبيعة المختلفة كان وبالا عليهم؟ أي أن الرجل كان ينذر ويحذر وينبه؟ 
إن الذي ألف كتاب "منتهى العجب في لغة العرب" وكتاب "الساق على الساق في ما هو الفارياق" الذي يزعم الأستاذ أنه قرأه، لا يسعه إلا أن يجزم بأنّ المؤلف يعشق اللغة العربية حتى الهيام، وقد حاول في كل ما كتبه في تلك الكتب وفي صحيفته "الجوائب" إظهار باعه الطويل فيها. 
أوليس الشدياق هو القائل: 
"إنه القرآن، أنزل بلسان العرب، الذي لا يعدله لسان في البلاغة والبيان" 
وهل من بلاغة أو بيان في العربية دون إعراب؟ 
من الجدير بالذكر أن معجم "لسان العرب" لابن منظور، طبع لأول مرة بمطبعة بولاق في القاهرة سنة 1882 بفضل عناية الشدياق بعد أن قدم له بكلماته التي جاء فيها: 
“وبعدُ ، لقد اتفقت آراء الأمم، العرب منهم والعجم، الذين مارسوا اللغات ودروا ما فيها من الفنون والحكم وأساليب التعبير عن كل معنى يجري على اللسان والقلم، على أن لغة العرب أوسعها وأسنعها، وأخلصها وأنصعها، وأشرفها وأفضلها ، وآصلها وأكملها. وذلك لغزارة موادها واطراد اشتقاقها وسَرادة جُوادها واتحاد انتساقها ... مما لا تجد له في غيرها من لغات العجم شبيها”. 
ماذا يقول الأستاذ في أسقف قرطبة، وهي من أهم المدن الأوروبية في ذلك العصر، الذي كتب في القرن العاشر يقول: 
“إن اللغة العربية قد فتنتنا بعذوبة ألفاظها وبلاغة إنشائها حتى لا نكاد نجد فينا من يقرأ الكتب المقدسة باللاتينية. وشبابنا الأذكياء جميعًا لا يعرفون غير لغة العرب وآدابهم ؛ وكلما قرأوا كتبها ودرسوا آدابها ازدادوا إعجابًا بها. فإذا حَدَّثْتَهُم عن كتاب من الكتب اللاتينية سخروا منه وقالوا إن الفائدة منه لا تساوي التعب في قراءته. وهكذا نسي المسيحيون لغتهم وجهلوا كتابتهم وبلاغتها وحذقوا اللسان العربي، حتى ليكتبونه نثرا ونظما بأسلوب أنيق يفوقون به العرب أحيانًا” 
وهذه أيضا زيچريد هونكه مؤلفة الكتاب النفيس “شمس العرب تسطع على الغرب” تقول في كتابها: 
"لقد أضحت العربية لغة العلماء، بل لغة الشعوب التي دخلها الإسلام، وكانت لغة العلم وحدها لا تنازعها تلك المكانة أي لغة أخرى. لقد استطاعت العربية استيعاب جميع العلوم التي بلغتها الحضارات التي سبقتها، مضيفة إليها علوما جديدة بمصطلحات ومفاهيم جديدة. وفيها كانت تؤلف الكتب، وبها يتحدث العلماء ويديرون الحوارات في ما بينهم مهما اختلفت أصولهم، والأدلةُ على المكانة العلمية للغة العربية حينئذ لا تُعوِزُنا، فهناك مئات الألفاظ في الفلك والصيدلة والكيمياء والطب والفيزياء والجغرافية والرياضيات التي أخذتها اللغاتُ العلمية والغربية عنها، وكذلك المؤلفات التي ظلَّت تُدرَّس في جامعات أوربا على امتداد عِدّة قرون” 
ألم يقل البيروني وهو العالم الفارسي الأصل: 
“وإلى لسان العرب نقلت العلوم من أقطار العالم فازدانت وحلت في الأفئدة ، وسرت محاسنها في الشرايين والأوردة... والهجو بالعربية أحب إلّي من المدحِ بالفارسية”. 
هل كان هؤلاء جميعا يلحنون، أم أنهم كانوا يملكون أزِمَّةَ اللغة، ولذا تيسر لهم امتلاك أزمة باقي العلوم من رياضيات وطب وصيدلة وفلك، وغير ذلك؟ 
يقول الأستاذ الجليل، حفظه الله ورعاه، أنه كبر بحمد الله (واتسعت مداركه وتعمقت)، وعرف أن في الحياة أمورا أخرى كثيرة تهم الناس، والمثقفين خاصة (وهو في مقدمتهم) غير الفتحة والكسرة. كان بودي، ويشاركني في ذلك الكثير من القراء (على ما أظن) أن يطلعنا الأستاذ الجليل على تلك الأمور التي يجب أن نوليها اهتماما أكثر من اللغة. ألا يعلم الأستاذ أن اللغة هي الوسيلة لكسب المعرفة وهي الأداة التي بها نفكر، وأن هناك علاقة متينة بين القدرة على التفكير والتحليل والاستنتاج وبين الثروة اللغوية للإنسان؟ 
لست أدري لماذا زج الأستاذ بذكر جبران، للبرهان على صعوبة التمكن من اللغة العربية، ولعل ما قام به جبران هو الدليل القاطع على المكانة العالية التي كانت في نفس جبران للغة العربية، أما ما استطاع أن يحصله منها فذاك أمر آخر، لا ينتقص شيئا من عبقريته وفضله. ما الذي حمل جبران الفتى على العودة إلى لبنان من أميركا سنة 1898 لكي يدرس في مدرسة الحكمة، وعندما اعتقدت إدارة المدرسة أن عليه أن ينتظم في صف المبتدئين ولم يعجبه ذلك، قال للخوري يوسف الحداد: "أتركني ثلاثة أشهر ثم سل عما بدا لك". 
ألم تقل مساعدته بربارة يونغ: 
"كان غنى العربية، التي أولع بها، يدفعه دائما إلى سبر الكلمة التي تتناسب بأفضل شكل مع مثيلتها الإنجليزية، بأسلوب بسيط دائما". 



كل من قرأ أعمال جبران يلاحظ أن ما كتبه بالإنجليزية كان ترجمة لما يفكر به بالعربية وقد يكون هذا هو السر الذي جعل لأفكاره النيرة هذا السحر والتأثير في نفس قارىء الإنجليزية. 
كلام الأستاذ في حد ذاته، لا قيمة له، لأنه لا يمت للحقيقة بصلة، ولكن الضرر الذي قد ينجم عنه في غاية الخطر. حيث أن اللغات كما قلت من قبل، هي الوسيلة لاكتساب المعرفة، فقد يستنتج البعض من الناشئة العرب بوحي من آراء الأستاذ، أن السبب في تخلفنا يكمن في لغتنا وفي حضارتنا التي عجزت عن مواكبة التقدم الذي يأتينا بالجديد من الاختراعات وأبواب الفنون المختلفة التي تتفتق عنها الأذهان بتسارع مطرد لا يكاد يحيط به إلا قلة قليلة ممن آلوا على أنفسهم بذل أقصى جهد ممكن للاطلاع على ما يستحدث في هذا العالم. 



هذا هو تماما ما تحاول أبواق الاستعمار الغربي غرسه في أذهاننا وقد حققت بفضل الأستاذ وأمثاله نجاحا قد يكون السبب في اندثار حضارتنا، إذا لم نتدارك الأمر قبل فوات الأوان. 
ليس التقصير في اللغة العربية، ولا توجد لغة تضاهيها بين اللغات الحية أو القديمة، العجز كامن فينا. إتقان اللغة الإنجليزية فيه الكثير من الصعوبة. هناك 1024 تركيبا مختلفا في تحديد لفظ الكلمات الإنجليزية مما يجعل إتقان تهجئة كلماتها ضربا من العنت، بينما في اللغة الإيطالية لا يتجاوز هذا العدد 32 تركيبا أما في العربية فنحن نكتب ما نلفظ ولا مجال للخطأ. 



أمر آخر في غاية الأهمية قد يكون غاب عن بال الأستاذ. عندما نبحث عن مصادر الكلمات في اللغة الإنجليزية نجد أن معظمها يعود إلى أصول لاتينية والكثير يعود إلى أصول أخرى كاليونانية والألمانية والفرنسية والعربية والهندية وغيرها. أي أن اللغة الإنجليزية التي يعتقد البعض بتفوقها ليست سوى خليط من الكلمات من لغات مختلفة تم تشويهها وأصبحت مع الوقت كلمات مألوفة، فكلمة "ماچازين" أصلها من كلمة مخازن، وكلمة "ألباتروس" الطائر البحري الضخم، هي "الغطاس" في العربية والتي تم تشويهها مرتين: الواحدة، حين مسخها الإسبان فأصبحت "ألكَرتاس"، ثم قام الإنجليز بمسخ الممسوخ! لذلك لا بد لمستعمل الإنجليزية من العودة إلى اللاتينية أو اليونانية، على الغالب، في استحداث كلمات لمخترعات واكتشافات جديدة في أي حقل من حقول الصناعة والعلوم، مع ذلك فإنهم يبذلون كل ما في وسعهم لإتقان لغتهم ودراسة اللاتينية واليونانية، ويثابرون على القراءة وهي أهم وسيلة لإتقان اللغة، وقلما تجد خطأ في ما ينشر باللغات الغربية، بينما لا يكاد مقال قصير في العربية يخلو من الأخطاء، أما عن الأخطاء في الكتب التي تنشر اليوم فحدث ولا حرج! لقد تحققت فينا "نبوءة" حافظ إبراهيم الذي قال ناعيا حال العربية: 
أرى كلَّ يومٍ بالجَرائِدِ مَزْلَقاً 
مِنَ القبرِ يدنينِي بغيرِ أناة ِ 
سَرَتْ لُوثَة ُ الافْرَنجِ فيها كمَا سَرَى 
لُعابُ الأفاعي في مَسيلِ فُراتِ 
فجاءَتْ كثَوْبٍ ضَمَّ سبعين رُقْعة ً 
مشكَّلة َ الأَلوانِ مُختلفاتِ 



اللغات لا تنهض بالشعوب، النقيض من ذلك هو الصحيح، والدليل القاطع على زعمي هذا، أن قدماء المصريين أنشأوا حضارة لا زالت تثير إعجاب العالم ودهشته بلغتهم الهيروغليفية التي كانت تكتب بالرسوم، كما كان للبابليين فضل كبير في الرياضيات والفلك وكل ذلك بلغتهم في ذلك الوقت، وها نحن نرى اليوم شعوب الشرق الأقصى تجترح المعجزات في النجاح العلمي والاقتصادي ولعل "المعجزة" الاقتصادية في كوريا الجنوبية، التي شهدناها في العقود الأخيرة خير دليل على ذلك. على النقيض من ذلك نرى اليونان الذين يمتلكون لغة غنية وعريقة، وقد كانت حضارتهم في الماضي، أرقى الحضارات، ولا زلنا ندرس فلسفتهم وشعرهم ونثرهم، وندهش للإتقان في نحتهم وبنائهم، نرى أحفادهم اليوم لا يساهمون مساهمة تذكر في دفع ركب الحضارة. لو كانت اللغات تكفي لارتقاء الحضارات لما رأينا معظم الشعوب الإفريقية تقبع في وهدة التخلف رغم استعمالها للغات المستعمر الأوروبي كالإنجليزية والفرنسية. اللغات، ترتقي وتتسع وتنمو وتتطور بهمة شعوبها! 
هوذا العقد الأول من الألف الثالث يشرف على النهاية ولا يزال ما يقرب من نصف أمتنا من الأميين، أما عن القراءة فنحن على الغالب من ألد أعدائها، ولا شيء يساعد الإنسان على إجادة اللغة مثل مطالعة النثر الجيد وحفظ الشعر. هل يعلم الأستاذ بأن أكثر من ثلث الاختراعات في العالم خلال سنة 2006 جاءت من الصين؟ قصة الحضارة العربية تشبه كثيرا قصة الحضارة الصينية التي ازدهرت زمانا، وسجلت بعض أهم الاختراعات في تاريخ البشرية كالبارود والبوصلة والورق والطباعة ثم دخلت في سبات عميق حتى جاء ماو تسي تونغ فأيقظها من غفوتها، فغدت على ما هي عليه اليوم من تقدم وازدهار في كل مجال حتى بات البعض يخشى من سيطرتها على مقاليد الأمور في العالم في المستقبل المنظور. هذا أيضا ما كان يعمل له عبد الناصر، لكن الغرب والصهيونية نجحا في وأد مشروعه، وهو ما زال في المهد. 



أنا لا أزعم أنني أملك ناصية العربية، ولم تتعد دراستي المنهجية فيها المرحلة الابتدائية، فقد كانت دراستي الثانوية في مدرسة عبرية والجامعية كذلك، وكان جل اهتمامي، ولا يزال، متجها صوب الرياضيات وعلوم الطبيعة، ولكنني عندما بدأت بتدريس مادة الفيزياء في مدرسة "تيرا سانطا" في عكا، آليت على نفسي أن ألتزم بصرامة باستعمال اللغة العربية، رغم أن العبرية، كانت اللغة الوحيدة التي أتقنها. سافرت في ذلك الحين إلى غزة وابتعت كتب تدريس الفيزياء وتعلمت منها جميع المصطلحات ولم أستعمل سوى العربية في التدريس، وكنت أطلب من الطلاب الكتابة بلغة سليمة ولفظ الحروف كما يجب. ذلك لم يحل دون بذلي أقصى جهد لدراسة اللغة الإنجليزية، التي كنت أترجم لطلابي منها ما ينشر في المجلات وكتب التعليم، خاصة كتاب ريزنيك وهاليداي الذي كان يعتبر من خيرة الكتب في تعليم الفيزياء، فهل كنت مخطئا يا ترى؟ 
لقد استطاع إليعيزر بن يهوداه أن يعيد الحياة إلى اللغة العبرية التي ظلت محنطة لمدة تربو على ألفي سنة ولم يؤلف فيها شيء يذكر، بل أن "دليل الحائرين" وهو أفضل ما كتبه أشهر فلاسفة اليهود في كل العصور، وهو موسى (موشيه) بن ميمون كان بالعربية، فكيف لا نستطيع نحن إحياء لغتنا ولدينا من المؤلفات فيها، من النثر والشعر، ما يعجز الإنسان عن حصره، وكله بلسان عربي مبين؟ 
ليس من العيب أن يقع العربي في خطأ أو أن يلتبس عليه الأمر في بعض الأحيان في إعراب بعض الكلمات، فقد حمي وطيس الخلاف بين علماء البصرة والكوفة زمنا طويلا حول هذه الأمور، وهذا أمر يحسب لهم وليس عليهم، ولكن العيب كل العيب، أن نتقاعس عن دراسة لغتنا ونلفظ القاف همزة ونمسخ الثاء والذال والضاد وغيرها كل واحد على هواه، ثم نتلمس العيوب للغة تكاد تخلو من العيوب، والعيب كل العيب في الكسل والخمول الذي نرتع فيه. 
قد يعجب البعض عندما يعلم أن علامة عصره، الشيخ إبراهيم اليازجي لم يدخل مدرسة في حياته. لكن اجتهاده جعل منه حجة في العربية وشاعرا وناقدا فذا، فكانت صحيفته "الضياء" منارة تشع على العالم العربي حتى وفاته، كما أنه درس العبرية دون معلم، وترجم التوراة للآباء اليسوعيين، فكانت ترجمته أصح الترجمات إلى يومنا هذا. بالأضافة إلى ذلك، أخذ من علم الفلك بطرف وله فيه اجتهاد وتأليف، كما أنه حفر بيديه أمهات الحروف العربية فألبسها حلة أنيقة تزهو بها. 




لماذا لا نتخذ منه ومن الرواد الأوائل أمثاله قدوة، تنير لنا الطريق في هذا الزمن العربي الحالك؟ لقد جاؤوا بالمعجزات يوم كانت معظم الآثار العربية لا تزال مخطوطات يعز الحصول عليها، ودون الوصول إليها مشاق وأهوال، وأسفار طويلة في بعض الأحيان، أما اليوم فإن كنوز العلم في جميع المجالات، مطروحة بين أيدينا والحصول عليها في غاية اليسر، ولا يكلف في كثير من الحالات أدنى نفقة، فقد نشر الكثير منها على الشنكبوتية وما علينا سوى أن ننهل منها. أما الكتب فقد صارت تباع بثمن بخس بعد أن كان ثمنها يرهق الجيوب. 


كان علماء العربية في الماضي يسألون كل من يحاول أن يدلى برأيه في قضايا لغوية: "هل ركبت البحر؟"، يقصدون بالبحر "الكتاب" الذي وضعه سيبويه ولو سألوا هل ركبت المحيط؟ لأصابوا أكثر. دفع إلي منذ مدة، أحد أولادي كتابا بالإنجليزية، صغير الحجم عظيم الشأن، عنوانه "سيبويه" كان المبادر إلى إصداره "مركز الدراسات الإسلامية في جامعة أكسفورد" وقد نشر سنة 2004 بالتعاون مع دار النشر التابعة للجامعة. جاء في مقدمته: 
"إن سيبويه، ليس فقط واضع أسس علم النحو، ولكنه أيضا واضع أسس علم الألسنية العربية، ومن المدهش، أن دارس "الكتاب"، كلما تقدم صفحة فيه تتضح له أكثر فأكثر عبقرية مؤلفه وأن فهمه لِلِّغة كان عميقا وشاملا، وينطبق على جميع اللغات دون استثناء. مما يزيدنا دهشة، أن هذا الإنجاز العظيم كان على يد عالم لوالد فارسي الأصل". 
وإذا كان الشيء بالشيء يذكر فلا بد لي من الثناء على الجمعية الملكية الهولندية العلمية التي أصدرت سنة 1995 مجلدا ضخما عن دراسة العلامة الأندلسي، إبن باجة، ونقده لنظريات أرسطوطاليس في الطبيعيات وعندما قرأته اعتراني شعور بالدهشة والاعتزاز لعمق تفكير ابن باجة وصواب آرائه. 



أليس من العار علينا أن نرى أهم جامعات العالم، تنفق المبالغ الطائلة على مِنَحٍ تُقَدَّمُ للباحثين، فنراهم يغوصون على الدرر واللآلىء في بطون الكتب العربية، وينشرونها بلغتهم ويتحدثون بفضلها ودوام نعمتها على كل طالب علم ونحن عنها لاهون؟ 
وفي الختام، أدعو طالباتنا وطلابنا الأعزاء وكل من يغار على لغته وحضارته ومستقبله، إلى التمسك بلغتنا ولفظ حروفها كما يجب، والمثابرة على حفظ الشعر، قديمه وحديثه، فإنه أفضل وسيلة لإثراء معجم ألفاظهم وتحسين قدرتهم على التفكير والتعبير، لعلهم يساهمون فى إخراجنا من الظلمة إلى النور. تذكروا دائما قول الأصمعي، اللغوي والراوية الشهير: 
وما حُسنُ الرجال لهم بِزَينٍ (النساء أيضا!) 
إذا لم يُسعِف الحسنَ البيانُ 
كفى بالمرء عيبا أن يقالَ 
له وجهٌ وليس له لسانُ 
(هل يستقيم المعنى دون نصب الحسن ورفع البيان؟) 



وهاءنذا أهديكم بعض أبيات للشاعر حليم دموس أرجو أن تحفظوها وأن تعمموها: 


لا تسلني في هواها أنا لا أهوى سواها 
يا لقومي، ضيعوها فدهاها ما دهاهـــا 
كلما صعدت آهــــا هتف الإخوان واها 
ما أنا وحدي فداهـا كلنا اليوم فداهــــا 
لغة الأجداد كونــي لحمــة نحن سـداهـا 
وعلى بغداد فيضي بركـــات في رباهــا 
وعلى المغرب هبي نسمة طاب شذاهــــا 
واسطعي في الشام نورا يتلالا في سماها 



وهو القائل أيضا: 


لو لم تكن أم اللغات هي المنى... لكسرت أقلامي وعفت مدادي 
لغة إذا وقعت على أسماعنا... كانت لنا برداً على الأكباد 








عصام زكي عراف 
قرية معليا 
الجليل الغربي 

No comments:

Post a Comment