Monday 30 September 2013

أهو عرس أم مأتم؟

أهو عرس أم مأتم؟

«عرس الديمقراطية»، هو اسم مرادف لموسم الانتخابات في المجتمعات المتحضرة، لأنه يعيد إلى الأذهان ذلك الإنجاز الذي أحرزه القدماء من سكان أثينا قبل ما يقرب من ألفين وخمسمائة عام يوم كانوا يجتمعون في الساحة العامة التي تدعى باليونانية « Aγορά أچورا» للتداول والبت في أمور المدينة وفيها كانت الممارسة الأولى لانتخاب حكام المدينة من الشعب.  هناك كان مولد الديمقراطية التي جاءت من الكلمتين ديموس δῆμος ومعناها شعب، وكراتوس κράτος ومعناها قوة أو حكم ومنهما تكوّنت الكلمة ديمقراطية δημοκρατία والتي تعني «حكم الشعب».
يقول الفيلسوف اليوناني أفلاطون في كتابه «الجمهورية»، أن الحكماء من الشعب هم أجدر الناس بتولي السلطة، لأن الحكيم يؤثر المصلحة العامة على الخاصة، ويحسن تصريف الأمور، ويستخدم في المناصب العامة أصحاب الكفاءة، ولا يحابي الأقارب والأصدقاء أو الأغنياء.
ما الذي يحدث عندنا في موسم الانتخابات؟
إذا ما نظرنا إلى المرشحين، نرى أن الغالبية الساحقة منهم تعتقد بأن الوصول إلى المجلس المحلي أو البلدي هو وسيلة للحصول على الجاه (الزائف) بحيث يجعله يبدو أعلى مقاما في أعين الناس، حتى لو كان يفتقر إلى أي رصيد علمي أو ثقافي وأن ماضيه ملوّث بما يشين من الأفعال والمواقف، وإذا ما تحدث فلن تسمع منه سوى التضليل، والهراء والكذب والنفاق.  الأسوأ من ذلك هو العداوات التي تخلفها الانتخابات في مدننا وقرانا بين الأقارب والأهل والجيران والتي قد تستمر لعشرات السنين أحيانا فتمزق نسيجنا الاجتماعي وتحفز الناس على الانتقام فتحول حياة الناس إلى جحيم لا يطاق وتشل حياتنا في كثير من الوجوه.
العديد من هؤلاء يصل إلى المجلس أو البلدية كأعضاء أو كرؤساء لأن الذين ينتخبونهم يفعلون ذلك لروابط القرابة أو الصداقة أو رجاء المنفعة كالحصول على وظيفة أو الفوز بأعمال المصلحة العامة بالغش والمحاباة والمواربة، أو بشراء الأصوات بالمال، ولذلك ينتظر أحط خلق الله، أي سماسرة الانتخابات، هذا الموسم بفارغ الصبر ليملأوا جيوبهم بالمال القذر، وكل هذه الممارسات ليست سوى دليل قاطع وبرهان ساطع على عقول عَفِنَة وأخلاق مريضة، فالمرض لا يصيب الأجسام فقط بل الأخلاق أيضا، غير أن أمراض الأجسام تفتك بمن تصيبه فقط بينما أمراض الأخلاق قد تفتك بشعوب بكاملها أحيانا، فالكثير من الإمبراطوريات تهاوت واندثرت عندما أصيبت في أخلاقها، ومنها الإمبراطورية البيزنطية، والإمبراطورية العثمانية التي قضى عليها شراء المناصب والمنافع المختلفة بالمال، ولقد صدق أحمد شوقي حين قال:
وإذا أصيبَ القومُ في أخلاقِهم       فأقِم عليهم مَأتماً وعويلا
ومن غرائب الأمور أن الجميع تقريبا يعرفون أدق التفاصيل عن تلك الصفقات وكيف موّلها المرشح لكي يدفع للسماسرة ولفلان وفلان مقابل الأصوات التي أوصلته إلى المنصب العزيز على قلبه، بينما هو يبدو واثقا بأن تلك الصفقات العفنة لم يشم رائحتها أحد.
بلغ عدد السلطات المحلية العربية التي حُلَّت بأمر من وزير الداخلية في الحقبة الأخيرة أربعا وعشرين سلطة، ومنها من تولت السلطة فيها لجنة معينة لمدة عشر سنوات، كمجلس «طلعة وادي عارة» الذي يضم القرى: مصمص، مشيرفة، زلفة، سالم والبياضة.  من الجدير بالذكر أن سلطة وزير الداخلية تكاد تكون مطلقة في ما يختص بالسلطات المحلية التي يتعذّر فيها على رئيس السلطة المحلية إدارة شؤون البلدة لافتقاره لتأييد غالبية أعضاء المجلس أو البلدية، مهما كانت دوافع الرئيس نبيلة وغاياته شريفة وأياديه نظيفة، لأن الغايات الشخصية والأسرية-العشائرية أو حب الانتقام من الرئيس هي التي تملي على بعض الأعضاء موقفهم فيؤدي ذلك إلى شلل السلطة وخضوعها التام لوزير الداخلية الذي يتخذ القرار بشأنها وبذلك تُلغى إرادة الأهالي وتصبح الانتخابات حبرا على ورق وهكذا تصبح الديمقراطية عندنا مأتما بدلا من عرس لأن ما انتخبناه كان المجلس العشائري  فيصدق فينا قول الشاعر:
وتفرّقوا شِيَعاً فكل قبيلة    منهم أمير المؤمنين ومِنبرُ
لكي نصبح شعبا بالمعنى العصري للكلمة علينا أن نضع نصب أعيننا ما كتبه محمود درويش: 
«سنصير شعبا حين ننبذ ما تقول لنا القبيلة».  
لكي نمارس انتخابات عصرية حضارية نظيفة وراقية علينا أن نقتدي بالأمم الراقية حيث يطرح المرشحون برنامجا يشتمل على الأهداف النبيلة التي سيعمل على تحقيقها إذا ما حاز على ثقة الناخب، وبناءً عليه يختار الناس المرشح الذي يرونه مناسبا لتحقيق آمالهم ومطامحهم دون صفقات سرية ودسائس ومناورات رخيصة وحقيرة، والذين يلجأون إلى تلك الممارسات هم فاسدون ومُفسِدون وفاشلون، ورغم أنهم قِلِّةٌ قليلةٌ لا تتجاوز الواحد في المائة من السكان لكنهم يدمرون المجتمع بسبب جبن ونفاق ومسايرة عامة الناس الذين لا يجرؤون على مصارحتهم برأي الناس فيهم ولكنهم يغتابونهم بأقذع الألفاظ في كل مناسبة وكل مجلس يخلو منهم، وإذا ما دخل أحدهم فجأة إلى أحد تلك المجالس ترى معظمهم يهش له ويرحب به بعد أن كان يسبه قبل لحظات، وهذا مما يجعلهم يتمادون في غِيِّهم وفسادهم وجرائمهم.  حالنا مع هؤلاء المفسدين حال الجسم مع الأورام السرطانية التي تفتك به إذا تجاهلها ولم يعالجها أو يستأصلها في الوقت المناسب.
من الجدير بالذكر أن جريمة المُفسِد الذي يشتري الأصوات بالمال أو الوظائف والمنافع الأخرى التي يَعِدُ بها الناخبين أعظم بكثير من جريمة الذين يعطونه أصواتهم طمعا بالمال أو الوظيفة أو المنافع الأخرى، لأنّ الذي يشتري الذِّمم هو المُبادِر إلى عقد تلك الصفقات الذميمة، وهو في الأصل إنسان قد غرق في الفساد حتى أذنيه، ولكن فِعلُهُ الذميم يفسد العديد من الناس فيكون السبب في تجردهم من أخلاقهم وكرامتهم وهكذا يستشري الفساد في المجتمع، وكل مجتمع فاسد يُحَوِّلُ حياة أهله إلى جحيم، لأن الأخلاق الشريفة هي الضمان الوحيد لبقاء المجتمعات وازدهارها، والأخلاق الفاسدة تُنهِكُها وتفنيها، ولذلك يجب على كل صاحب ضمير حي وكرامة لا تباع وتشترى، الامتناع عن التصويت لكل مرشح تاجر بالأصوات في الماضي أو عقد الصفقات المخزية مهما كان نوعها، لأنهم لا يؤتمنون على المصالح العامة.
أمر آخر جدير بالتنهويه، وهو أن المرشحين في المجتمعات الراقية يطرحون أمام الناخبين برنامجا يعرضون به بالتفصيل المشاريع والإنجازات التي يضعونها نصب أعينهم لتحقيقها خلال فترة ولايتهم إذا ما حازوا على ثقة الناخب، أما عندنا فلا نقرأ سوى شعارات براقة وعبارات طنانة لا تسمن ولا تغني من جوع، تصلح لكل زمان ومكان كخدعة بصرية أو ألاعيب بهلوانية تؤكد أن جعبتهم خاوية من الأفكار البناءة وهي مجرد استهتار بعقول الناخبين، تعدهم بالإنجازات والعطاء والتضحية دون أن يذكروا واحدة منها، ثم تمر السنوات الخمس ويكون الإنجاز الأهم أن جيب الواحد منهم احتشى بما يزيد على مليون ونصف مليون شاقل من الضرائب التي يدفعها المواطنون ثم نعود إلى جولة أخرى أسوأ من سابقتها لتُعرَض هذه المسرحية الهزلية في شوارعنا وساحاتنا وبيوتنا من جديد، والحال يزداد سوءاً من جولة إلى أخرى وأفق المستقبل يبدو مع كل موسم انتخابات أحلك من ذي قبل، فهل نتعظ؟

معليا في 27 أيلول 2013

عصام زكي عراف
















Saturday 10 August 2013

رشيد خالدي يكتب عن الياس شوفاني

In Remembrance: Elias Shoufani, 1932-2013
Rashid I. Khalidi
Journal of Palestine Studies, Vol. 42, no. 1 (Spring 2013), p. 7

From the Editor

BEYOND ITS PERSONAL IMPACT for his family, friends, and colleagues, the passing of Elias Shoufani in Damascus earlier this year had a special meaning for all those who, over the past four decades, have been involved with research at the Institute for Palestine Studies (IPS).

For more than a generation, Elias Shoufani was the Arab world’s leading analyst of Israeli affairs. He possessed a rare level of understanding of Zionist ideology and of the Israeli state’s policies and strategic doctrines, and spread that knowledge widely through over a dozen books and monographs, scores of articles, and extensive lectures. He did this while living in exile through capitalizing on the unique perspective on Zionism and Israel gained from living his formative years and being educated as a Palestinian under the iron military rule of the new Israeli state in the first decades of its existence. He shared this background with a few others like Sabri Jiryis and Habib Qahwaji, who drew on their experiences to help Palestinians in the Diaspora obtain a better understanding of an Israel outside the personal experience of most of them.

Born in Mi’liya in the Galilee in 1932, Shoufani spent much of his life in opposition to the trends of his time, whether as a young man completing his secondary schooling and his undergraduate education (at the Hebrew University) in the institutions of the new Zionist state, or as a militant and activist who rejected many of the political formulas espoused by his Palestinian comrades in Beirut and Damascus, or as an intellectual, writer, and analyst challenging conventional wisdom.

In the early 1960s, Elias Shoufani travelled to the United States, where he obtained a PhD in Islamic studies from Princeton University and thereafter an appointment at the University of Maryland. Like others of his generation, including Hanna Mikhail (Abu ‘Umar), who was memorialized in issue 165 of this Journal, he could have taken the easy course of an academic career far from his homeland and its travails. Instead, like Mikhail, he chose to return to his own people, joining the ranks of the Palestinian Resistance in Lebanon in 1972, at a time when the conflict over the Palestinian presence there was about to explode. At the same time, he began working at IPS, supervising pioneering programs such as the daily translation of the Hebrew press and several other major research and translation projects dealing with Israel. He eventually became head of the IPS Research Department.

I met Elias at the Institute in the early 1970s and came into more regular contact with him when I joined the Research Department on a part-time basis in 1974, alongside my teaching at the Lebanese University and the American University of Beirut (AUB). We worked together in an extraordinary group that included the military expert Riyad Ashkar and AUB professor Marwan Buheiry (both deceased), as well as researchers like Camille Mansour, Ahmad Khalifa, Mahmud Soueid, Sami Musallam, and many others. This fruitful interaction continued until Elias left Beirut for Damascus in 1982 as part of the forced evacuation of the PLO from the city in the wake of the 1982 Israeli invasion of Lebanon. He continued to undertake research and writing projects for IPS thereafter from Damascus, where he lived for the rest of his life.

Elias Shoufani was a remarkable presence during the decade he worked at IPS in Beirut, animating all our discussions of its research agenda and of the complex Palestinian and regional political situation. His depth of knowledge of Israel was extraordinary. His complete mastery of the Arabic and Hebrew languages, as well as his extensive knowledge of the Qur’an and the Bible, gave him a deeper understanding of the modern Hebrew language than most other analysts, Arab or Israeli. Shoufani was a wide-ranging scholar, having written a dissertation, later published, on the wars whereby the early Islamic state was securely established in the wake of the death of the Prophet Muhammad. He was broadly read in European languages, as well as Arabic and Hebrew; his intellectual interests ranged far and wide. The focus of Shoufani’s scholarship and his political activism, however, was the struggle over Palestine unleashed by the rise of Zionism and the establishment of Israel over the ruins of Palestinian Arab society.

Shoufani’s insight into the ideology and the policies of the Likud government of Menachem Begin that came to power in Israel in 1977 was penetrating and accurate. Elias saw, as did few others at the time, the extent and full implications of the changes in the world view of the Israeli elite that would result from the systematic implementation over time of the “Greater Land of Israel” philosophy of Begin and his Revisionist Zionist followers. Like many others, I listened and learned, read and absorbed, as Shoufani developed his ideas in the years after Begin’s ascension to power. Little did I—or most others at the time—think that the rise of Likud and its maximalist ideology represented a fundamental and permanent change in the orientation of Israel. In fact, every Israeli government since 1977 has reflected to a greater or lesser degree the thinking of this powerful right-wing current in Zionism, which became the new Israeli mainstream after decades of the hegemony of Labor Zionism. In hindsight, it is now clear that the policies of Israel towards Palestine and the Palestinians over the last thirty-five-plus years in the crucial arenas of military occupation, colonial settlement, and all-encompassing security control were thoroughly changed by this seminal event, which Elias was one of the first analysts to understand and articulate fully.

In his numerous books and articles on this and related topics, Shoufani not only analyzed these seminal trends in Zionism and in the policies of successive Israeli governments. He also tried to explain to an often uncomprehending Palestinian and Arab audience how incongruous was the turn by the Arab States and the PLO towards a two-state solution, in light of these momentous shifts in Israel’s posture. Shoufani argued correctly that Israeli governments from that of Begin onwards were committed to keep what Revisionists called “Judea, Samaria, and the Gaza District” by virtue not only of greed for further territorial expansion or supposed “security” concerns. He saw that these governments would cling to these territories most importantly out of a messianic and deeply held ideological belief that they belonged exclusively to the Jewish people, who had a God-given right to settle without hindrance anywhere within them.

Against this background, Shoufani maintained that ostensibly “moderate” and “pragmatic” Palestinian and Arab strategies for dealing with Israel were increasingly unrealistic, and indeed unrealizable in terms of ending occupation and colonial settlement of what remained of Palestine and achieving Palestinian self-determination. He was therefore a scathing critic of the PLO’s move towards a negotiated two-state solution, but his critique was based not on his own ideological predispositions but rather on an acute assessment of what the Israeli leadership would and would not accept, and of what the Palestinians and Arabs must do to change that situation.

Elias Shoufani’s strong opposition before and after 1982 to the political line of the PLO leadership was thus fully grounded in his complete analytical clarity about the situation. This clarity enabled him to predict the dead end toward which these policies were leading long before the Oslo process revealed the same conclusions to many others. He saw, in other words, that because of their unswerving commitment to their “Greater Land of Israel” ideology, Begin and his ideological heirs who have dominated most Israeli governments since 1977 would never voluntarily accept Palestinian self-determination and statehood, or an end to occupation and to the unceasing expansion of colonial settlement throughout Palestine. In his view, only a fundamental change in the balance of forces in favor of the Palestinians, and a clear understanding of the obstacles to changing the status quo, would enable the transformation of that hard reality.

Elias Shoufani was in some sense a modern-day Cassandra, foreseeing a bleak future that others preferred to ignore or to pretend was not inevitable. The bitter outcome for the Palestinians of the Oslo process and of the creation of a Palestinian “Authority” that is fully subordinate to Israel in every way and largely serves Israel’s interests, and the growing hegemony of expansionist Likud ideology in Israel for the past thirty-five years have shown that his bleak vision was accurate. His passing is a great loss to our understanding of Israel and its policies, and has been keenly felt by all those who knew and learned from him over the years.

— Rashid I. Khalidi
 

Monday 29 July 2013

تحالف الذئاب وتخالف العرب

تحالف الذئاب وتخالف العرب

نشرت هذا المقال في موقع عرب48 بتاريخ  13/11/2012  وقد رأيت من المناسب أن يطلع عليه القراء حيث أن ما  توقعته من إقدام بعض أعضاء الكنيست الإسرائيلي على المطالبة برفع نسبة الاجتياز قد تحقق في هذه الأيام.
http://www.arabs48.com/?mod=articles&ID=95767

اتفق نتانياهو وليبرمان على التحالف لخوض الانتخابات القادمة بقائمة واحدة تضمن للفريقين الفوز بأكبر عدد من المقاعد بحيث يستطيعان الهيمنة على تركيب الحكومة الآتية وتنفيذ ما في جعبتهما من خطط لا تخفى على أحد، فالرجلان على وفاق تام في ما ينبغي لإسرائيل أن تكون عليه في سياستها الخارجية والداخلية على السواء، ولا يزيدان عن وجهين لعملة واحدة هي «عملة القوة».
هذه هي الديمقراطية، ومن حق كل حزب أن يختار الحليف الذي يراه مناسبا لتحقيق مآربه، وما يتبعها من مكاسب، توطد مكانته في حلبة الصراع بين الأحزاب المختلفة.
في كل موسم انتخابات ترتفع بعض الأصوات العربية تطالب بخوض الانتخابات بقائمة عربية موحدة، وحجتهم في ذلك أن المواطنين العرب، دون تمييز! يعانون من تجاهل الحكومات الإسرائيلية لحقوقهم كمواطنين، ويوردون من الأدلة والبراهين ما لا يخفى على أحد.
يقول الصحافي جاكي خوري في مقال له نشر في صحيفة هآرتس بتاريخ 27-10-2012 أن استطلاعا للرأي بين أصحاب حق الانتخاب العرب، يشير إلى أنّ ثلثهم سوف يمتنع عن التصويت لاعتقادهم بأن الأحزاب التي تخوض الانتخابات لا ترتقي إلى مستوى التحديات الذي تواجهها الجماهير العربية في إسرائيل، وإن جميعها منطوية على نفسها ولا تقوم بأي خطوات جدية ومخلصة لخوض الانتخابات في قائمة موحدة.
هل نلوم المواطنين العرب في إسرائيل، الذين يمتنعون عن التصويت امتعاضا ونفورا من التشرذم السائد في تمثيلهم؟
لنسأل أعضاء الكنيست العرب: 
هل الواحد منكم يمثل هؤلاء الذين صوتوا له فقط؟ فإذا كان الجواب نعم، فهل يستطيع أي واحد من هؤلاء الأعضاء أن يقول لنا ما هي المظالم وما هو الغبن الذي يعاني منه أشياعه فقط؟
هل هي البطالة؟ أم تدني التحصيل العلمي؟ أم تفشي استعمال المخدرات والعنف وجرائم القتل؟ أم التمييز العرقي في كل مجال من مجالات الحياة؟
أما إذا كان الجواب نفيا، أي أنه يمثل المواطنين العرب كافة ويهتم لمعاناتهم، فيكون كمن يعترف ضمنا أنه مسؤول عن التشرذم القائم.
وجه آخر للقضية يستحق الاهتمام:
من المعلوم أن نسبة الاجتياز المتدنية هي السبب الوحيد الذي يتيح للقوائم والأحزاب الصغيرة أن تخوض الانتخابات بنجاح.  لو ارتفعت نسبة الاجتياز من إثنين من المائة إلى أربعة من المائة من مجموع أصوات الناخبين، فما الذي ستفعله الأحزاب والقوائم العربية؟  عند إذن سيكونون مرغمين على الاتحاد، وإلا ضاعت جميع الأصوات أو معظمها سدى وارتفع عدد تمثيل الكتل الكبرى، وهذا سيكون يوم عيد لليمين لأنه يكون قد حظي بالكسب من وجهين: 
اختفت الوجوه العربية التي لا يرتاح لها من الكنيست وزاد من عدد مقاعده.
أما إذا اتحدت الأحزاب والقوائم العربية تحت سطوة الخوف من نسبة الاجتياز، فسوف نقول، وبحق: «مكره أخوك لا بطل»، والأسوأ من ذلك أن البعض سيقول، وبحق أيضا:
«لم يكن اتحادهم حبا في المصلحة العامة بل حبا في المصلحة الخاصة»
في استطلاع للرأي أجراه معهد «داحَف» قبيل فصح اليهود من العام المنصرم 2011 بطلب من حركة «إسرائيليون من أجل إنقاذ الديمقراطية»، تبين أن سبعين في المائة من المواطنين في إسرائيل يحبذون رفع نسبة الاجتياز في الانتخابات، لأسباب موضوعية منها:
حماية رئيس الوزراء المكلف بتشكيل الحكومة من ابتزاز الأحزاب والقوائم الصغيرة، مما يؤدي إلى تقليص عدد الوزراء واهتمام الحكومة بتنفيذ المشاريع الحيوية فقط، وفي ذلك توفير النفقات التي يفرضها الائتلاف مع تلك الأحزاب والقوائم .
تسهيل عمل الكنيست: حيث أن وجود الأحزاب والقوائم الصغيرة خارج الائتلاف، يؤدي إلى تضخم عدد القوانين التي تطرح على جدول عمل الكنيست، مما يهدر وقت أعضاء الكنيست ويعرقل عملها، فقد بلغ عدد القوانين المقترحة من النواب بشكل مستقل ما يقارب 12،000 خلال عشر سنوات، أقرت الكنيست عددا ضئيلا منها.
 بالنيابة عن الذين قرروا الامتناع عن التصويت، ولست منهم، بودي أن أرجو جميع أعضاء الكنيست العرب أن يشرحوا لنا في بيان مفصل في صحفهم ومواقعهم على الشبكة، ما الذي يحول بينهم وبين الاتفاق على خوض الانتخابات القادمة في قائمة واحدة.
وهاءنذا أختتم كلمتي هذه متسائلا ببيتين من قصيدة أحمد شوقي المشهورة:

إِلامَ الخُلفُ بَينَكُمُ إِلاما
                   وَهَذي الضَجَّةُ الكُبرى عَلاما؟
وَفيمَ يَكيدُ بَعضُكُمُ لِبَعضٍ
                   وَتُبدونَ العَداوَةَ وَالخِصاما؟

فهل تكرمون بجواب شاف؟

عصام زكي عراف 
معليا 
الجليل الغربي

Monday 13 May 2013

وبعض القول تضليل وبهتان

وبعض القول تضليل وبهتان


في الثامن والعشرين من شهر آذار المنصرم نشر موقع عرب 48 وقائع ندوة سياسية دعا إليها التجمع الوطني الديمقراطي في سخنين،حيث اشترك فيها «العشرات من أهالي سخنين وحضور شبابي لافت» كما ورد في الخبر.
هل من العسير على السيد المحترم ربيع عيد، الذي نشر الخبر، أن يحصي عدد الذين حضروا الندوة استجابة لدعوة التجمع؟ إذا كان عدد سكان مدينة سخنين قد تجاوز السبعة والعشرين ألفا، فإن عدد الذين استجابوا للدعوة لم يتجاوز ثلث الواحد في المائة في أحسن الأحوال، هذا إذا كان عدد الذين حضروا يقارب التسعين فردا،  هل مثل هذا الحضور يعتبر نجاحا باهرا لمنظمي هذه الندوة السياسية؟  كم كان بودي أن تتسم أخبارنا بالدقة والأمانة.
والآن إلى كلمة أمين حزب التجمع السيد عوض عبد الفتاح:
عندما جاء على ذكر القوى السياسية التي بادرت ومهدت وعملت لتنظيم يوم الأرض، ذكر حركة الأرض وأتبعها بذكر الحزب الشيوعي مع اعتراف منه بالدور المركزي للحزب.  هذا غبن لا مبرر له،  كنت من الذين شاركوا واشتركوا في يوم الأرض الأول عام 1976 ومن الحق  والإنصاف أن نقول أن الاشتراك الواسع للجماهير العربية في البلاد في يوم الأرض كان بفضل الحزب الشيوعي وصحيفته الاتحاد التي كانت وسيلة الإعلام الوحيدة التي استنفرت الجماهير العربية وحثتها على الاشتراك، فلماذا إذن يأتي السيد عوض عبد الفتاح على ذكره في المقام الثاني؟ يعترف بدوره المركزي ويذكره بعد حركة الأرض، ويشير أيضا إلى قوى وطنية أخرى ساهمت في الإعداد ليوم الأرض دون أن يذكرها.  ترى من هي تلك القوى الوطنية الأخرى؟ ولماذا يجحد السيد عبد الفتاح فضلها ولا يذكرها بالإسم؟ أم أنها محاولة لا مبرر لها للانتقاص من فضل الحزب الشيوعي في النجاح الباهر في استقطاب الجماهير العربية في يوم الأرض الأول؟  إذا كان السيد عبد الفتاح من المؤيدين لمواقف حركة الأرض فهل هذا يعني ضمنا، أنه يؤيد دعوتهم لمقاطعة الانتخابات التي عمموها في بيان لهم قبل الانتخابات الأخيرة؟  من الجدير بالذكر أنني أظهرت زيف دعوتهم وبطلانها في مقال بعنوان "سيشكركم اليمين على حسن تعاونكم". 
ما معنى قول السيد عبد الفتاح أن الحزب الشيوعي كان «مسيطرا» على الساحة السياسية في ذلك الحين؟ هل هذا يعني أن الحزب كان يسوق المواطنين، من عرب ويهود، إلى صناديق الاقتراع بالعصي والأسواط؟ أم أنه كان يحشو جيوب الناس بالمال لشراء الذمم؟ أو لعله كان يعدهم بالمناصب التي تدر سمنا وعسلا وجاها زائفا؟ أم أن النقيض من ذلك هو الصحيح؟ ألم تحاول الحكومات الإسرائيلية المتعاقبة أن تفعل كل ما في وسعها باستعمال مؤسساتها المختلفة، واعتماد أساليب الترهيب والترغيب المتعددة لثني المواطنين العرب عن التصويت للحزب الشيوعي؟ ألم يتم إبعاد العديد من أعضاء الحزب عن قراهم ونفيهم إلى قرى بعيدة؟ كم من معلم فُصل من عمله لانتسابه أو لمجرد تعاطفه مع الحزب الشيوعي؟  ألم يتعرض الكثير من الشيوعيين للإقامة القسرية في قراهم ومدنهم؟ ألم يُحظر على الشاعر نايف سليم تشييع جثمان كريمته وفاء إلى مثواها الأخير الذي يقع على بعد عشرات الأمتار فقط خارج حدود قريته البقيعة, لأنه كان يخضع للإقامة القسرية التعسفية؟
كان للحزب الشيوعي الفضل في إرسال ما يقرب من ألف وثمانمائة من الطلاب العرب في إسرائيل، والمئات من أشقائنا من طلاب هضبة الجولان، للدراسة في الاتحاد السوڤييتي والدول الاشتراكية الأخرى في شرق أوروبا وألمانيا الشرقية، على نفقة تلك الدول، فهل هناك فضل أكبر وأشرف من هذا؟  كان لهذه البعثات خير الأثر في حياتنا من جميع النواحي، كما أنها اضطرت الجامعات في إسرائيل لفتح أبوابها لاستقبال المزيد من الطلاب العرب وذلك خشية التحاقهم بجامعات الدول الاشتراكية ثم عودتهم إلى البلاد كدعاة حق للمبادئ الاشتراكية وهذا ما كانت تخشاه السلطة في إسرائيل.
يذهب السيد عبد الفتاح إلى القول أن الحزب الشيوعي في تراجع لأنه آثر الشراكة اليهودية على الشراكة العربية، هذا محض افتراء أو جهل بطبيعة الأحزاب الشيوعية في جميع أنحاء العالم، لأنها تدعو إلى وحدة النضال لجميع القوى العاملة ضد الاستغلال والظلم الذي تمارسه الرأسمالية في صورها المختلفة من شركات عالمية أو محلية كبرى، أو صغار الرأسماليين على اختلاف طبقاتهم، لذلك من الطبيعي أن ينضوي تحت لواء هذا الحزب، اليهودي والعربي لأنه حزب أممي منذ نشأته وكان شعاره دائما: «يا عمال العالم اتحدوا».  هل يمكن أن ننكر ما للشيوعيين واليساريين اليهود من فضل في النضال من أجل الفلسطينيين عامة والمواطنين العرب في إسرائيل خاصة، في الماضي والحاضر؟ لماذا يجب أن نستثني المواطنين اليهود من النضال مع العرب من أجل العدالة والحق؟ 
لو أقام فريق من الإخوة اليهود حزبا يدعو إلى حل عادل للقضية الفلسطينية وإنصاف المواطنين العرب في إسرائيل، فهل من عار يلحق بالمواطن العربي الذي ينضم لمثل هذا الحزب؟ لماذا إذن يعتبر السيد عبد الفتاح وجود المناضلين اليهود في الحزب الشيوعي مَذمَّة لأعضاء الحزب من العرب؟ نحن بأمس الحاجة لمزيد من اليهود الذين يرفعون أصواتهم ضد المظالم التي ارتكبت وترتكب بحق الفلسطيني في داخل البلاد وخارجها.
يقول السيد عبد الفتاح:  «نريد لجنة المتابعة مؤسسة وطنية قوية، وأن يكون هناك برلمان عربي في الداخل ينتخب بشكل مباشر من الجمهور، ليكون له شرعية، كي نكون على قدر التحديات التي تواجهنا كأقلية قومية».
هذا استخفاف بعقول الذين حضروا الندوة وعقول القراء الذين قرأوا كلماته في وسائل الإعلام! ألا يعلم الأمين العام المحترم أن المؤسسات التي تتكون منها الأنظمة الديمقراطية هي ثلاث لا غير: التشريعية والتنفيذية والقضائية وبها تُصَرَّفُ شؤون البلاد والمواطنين، ما هي الصلاحيات التي تملكها لجنة المتابعة؟ هل هي تشريعية، أم تنفيذية، أم قضائية؟ ما هي «القوة» التي يريدها لها، آمل أن يفصل لنا ذلك.
أما البرلمان العربي الذي يدعو له السيد عبد الفتاح فهو أمر في غاية العجب ومنتهى الاستهتار بعقولنا نحن العرب في إسرائيل! أو أن حضرته يجهل معنى وأبعاد ما يتفوه به!
البرلمان أو مجلس الشعب يكون للدول ذات السيادة أو لولايات في اتحاد فدرالي أو مقاطعات تنضوي تحت راية دولة ذات سيادة ويقوم البرلمان بسن القوانين التي يتقيد بها المواطنون والسلطات في ذلك الكيان، بما في ذلك السلطة التنفيذية والسلطة القضائية، وهذا هو واقع الأمر في إسرائيل.
كان بودي أن يبيّن لنا السيد عبد الفتاح ما هو الكيان ذات السيادة الذي يمكن للمواطنين العرب الانضواء تحت لوائه؟  أين حدوده؟ ما هي مساحته؟ هل سيكون له جيش خاص به؟ هل ستكون له شرطة أيضا؟ ما هو نشيده الوطني؟ من هي الدول التي ستعترف به يا ترى؟ من سيعين السفراء لدى تلك الدول؟ وماذا ستكون مهمتهم؟ من أين تأتي سلطته التنفيذية التي تضمن التقيد بتلك القوانين التي يسنها ذلك البرلمان الوهمي؟ من ذا الذي سيعيّن قضاته ومن الذي سيدفع أجرة العاملين في «القطاع العام» المزعوم؟ من أين ستأتي الأموال اللازمة لإدارة هذا الكيان؟ هل سيكون لنا وزارة مالية لجباية ضرائب من المواطنين العرب فقط؟ أي قانون يخول هذا الكيان الوهمي جباية الضرائب؟ وإذا رفض المواطن الدفع، فمن ذا الذي سيرغمه على ذلك؟ 
سأكتفي بهذا القدر من الأسئلة، رحمة بالقارئ، عسى أن يجود السيد عبد الفتاح بإجابات، عَجِز عقلي المحدود عن الإحاطة بكنهها.
من المؤسف أيضا، افتخار السيد عبد الفتاح بإنجازات حزبه في الانتخابات والشماتة التي يبديها للهزيمة التي لحقت بالحزب الشيوعي.  كنت قد نشرت مقالا بعنوان «لغة الأرقام ولغة الأوهام» وتناقلته بعض المواقع والصحف أبيِّن فيه بما لا يدع مجالا للشك أن جميع القوائم والأحزاب العربية مُنِيَت بالإخفاق في الانتخابات الأخيرة، حيث أن الارتفاع في عدد الأصوات لم يكن سوى الزيادة الطبيعية في عدد المصوتين وأن نسبة الذين أحجموا عن التصويت بين المواطنين العرب زادت عن الانتخابات السابقة، والأسوأ من ذلك أن نسبة الأصوات العربية التي حصلت عليها القوائم والأحزاب العربية في انتخابات سنة 2009 كانت 82٪ ، وقد انخفضت إلى 77٪ في انتخابات 2013 ، وهذا أمر في غاية الخطورة ويبدو أنه لم، ولن يحظى بالاهتمام المناسب، مع العلم أن الكاسب الأكبر من ذلك كانت أحزاب اليمين. وهذا دليل قاطع على إخفاق جميع القوائم والأحزاب العربية دون استثناء، في الانتخابات الأخيرة.  لا مجال للتباهي والاختيال بإنجاز لم يكن إلا في الأوهام!
كانت نسبة الاجتياز في انتخابات الكنيست واحد في المائة من الأصوات الصالحة ثم ارتفعت إلى اثنين في المائة، وهناك من يطالب بمضاعفتها مرة أخرى لتصبح أربعة في المائة لأسباب تبدو وجيهة للغاية، كما أنها تخدم مصالح الأحزاب الكبرى، وعندئذ لا مناص للأحزاب والقوائم العربية من خوض الأنتخابات في قائمة واحدة وإلا زالت عن الخريطة السياسية في إسرائيل. فلماذا إذن ينقضّ العربي على أخيه العربي (ولا أستثني أحدا) بمخالبه وأنيابه بدلا من البحث عن سبل التعاون من أجل مجابهة التحديات والأخطار التي تواجهنا جميعا؟ 

عصام زكي عراف
معليا
الجليل الغربي 

Saturday 6 April 2013

البحث عن المادة الخفية في الكون

معرفة بدايات الكون تخبرنا عن نهايته

تمهيد

نحن نعيش على الكرة الأرضية، التي تدور حول الشمس وهي التي تزوِّد الأرض بالطاقة التي كانت السبب في نشوء الحياة واستمرارها عليها حتى اليوم. يقدر العلماء عمر الأرض بأربعة بلايين ونصف البليون سنة  وذلك بواسطة دراسة عمر أقدم الصخور على سطحها. أما عمر الكون الذي نعرفه فإنه يتراوح ما بين تسعة إلى أربعة عشر بليون سنة، يختلف باختلاف النظريات المستعملة في الحساب.
الشمس وما يدور حولها من كواكب وكويكبات ومذنبات وغيرها، هي جزء من مجرة "درب التبانة” التي تحتوي على ما يقرب من مئة بليون نجم أي شمس، بأحجام متفاوتة وكل واحدة منها عبارة عن "موقد” يشتعل باستمرار، وقوده الوحيد هو عنصر الهيدروجين.  عندما يتوفر الضغط ودرجة الحرارة اللازمة تتحد ذرتان من الهيدروجين فتكونان ذرة واحدة من عنصر الهيليوم بالإضافة إلى كمية من الطاقة نتيجة ذلك  الالتحام وذلك لفقدان جزء من الكتلة، أي أن كتلة ذرة الهيليوم الناتجة عن التحام ذرتين من الهيدروجين أقل من مجموع كتلتي ذرتي الهيدروجين قبل التحامهما. وقد كان العالم ألبرت أينشتاين أول من حسب الطاقة الناتجة عن تحول الكتلة إلى طاقة في معادلته الشهيرة:
E = mc2
 أي أن الطاقة الناتجة E تساوي الكتلة m مضروبة بتربيع سرعة الضوء c

يقدر عدد المجرات من الأرصاد والحسابات التي قام بها علماء الفلك بمئة بليون مجرة.  تدور كل مجرة حول مركزها، كما تدور كل شمس فيها حول مركزها أو حول مركز الكتلة المشتركة لها ولشموس أخرى مجاورة أو كواكب تدور حولها.  لنأخذ مثلا القمر الذي يدور حول نفسه ويدور حول الأرض التي تدور حول نفسها أيضا (وتتأرجح في الوقت ذاته) وتدور حول الشمس مع ما ذكرنا من توابع للشمس، والشمس تدور حول نفسها وتدور مع جميع توابعها حول مركز المجرة مع المئة مليون شمس وتوابعها التي تتكون منها المجرة. 

لم يمض سوى أربع سنوات من الوقت الذي اكتشفت فيه المجرات في منتصف العشرينيات من القرن العشرين بفضل العالم الأمريكي إدوين هََبِلْ ومجموعة من زملائه، حتى اتضح أن تلك المجرات تبتعد كل واحدة منها عن الأخرى، أي أن الحيِّز الذي يقع بين المجرات يتسع باستمرار وكأن المجرات تقع على سطح كرة مطاطية تنتفخ دون توقف.
التفسير الوحيد لهذه الظاهرة هو أن بداية الكون كما نعرفه اليوم كان نتيجة لانطلاق جميع المجرات من نقطة واحدة في جميع الاتجاهات في لحظة ما.  بعبارة أخرى:  جميع المادة الموجودة في الكون كانت تنحصر في حيز ضيق حجمه يقترب من الصفر، وهذا يعني أن كثافة المادة في تلك اللحظة كانت تقترب من اللانهاية.  بعد الانفجار تناثرت المادة الموجودة في ذلك الحيز الضئيل في جميع الاتجاهات وتكونت منها في ما بعد المجرات على كل ما فيها. 
السؤال الذي يحاول العلماء الإجابة عليه منذ أن انتشرت نظرية الانفجار الكبير هو:
ما هي الجسيمات الأولية التي كانت تتكون منها المادة في ذلك الوقت؟
الجواب على هذا السؤال قد نستطيع الحصول عليه إذا ما استطعنا أن "نفتت” أحد الجسيمات الثلاثة التي تكون "اللبنات” التي تكونت منها جميع العناصر المعروفة وهي: النيوترون والبروتون والإلكترون.  الوسيلة الوحيدة التي تتيح ذلك هي الوسيلة ذاتها التي نستعملها في تفتيت المواد في حياتنا اليومية، أي طرقها بمطرقة أو إكسابها سرعة كافية تجعلها تتفتت عند ارتطامها بكتلة أخرى.  لو أخذت في يدك كرة من الزجاج أو الرخام وقذفت بها إلى كومة من كريات مشابهة بالسرعة اللازمة التي تعطيها الطاقة اللازمة للتغلب على قوة التماسك أو قل التجاذب بين جزيئات الكرة، سوف تتفتت الكرة إلى شظايا.  من الواضح أن عدد الشظايا يكون أكبر كل ما كانت سرعة الكرة أكبر.
هذا ما يحاول العلماء تحقيقه في المركز الأوروبي للأبحاث النووية حيث يقومون بدفع البروتونات بواسطة مجال كهربائي وحصر مسارها في داخل أنبوب فارغ بواسطة مجال مغناطيسي، لتعجيلها وإكسابها سرعة كبيرة تقترب من سرعة الضوء فتدور في المسار الدائري الذي يبلغ طوله سبعة وعشرين كيلومترا أحد عشر ألف مرة في الثانية الواحدة، عندئذ تكون كتلة كل بروتون قد بلغت سبعة آلاف ضعف كتلته عند بداية حركته.  (من الجدير بالذكر أن الكتلة تزداد بازدياد السرعة وهذا أحد اكتشافات أينتشتاين أيضا، ولذلك من المستحيل أن تتحرك كتلة بسرعة الضوء لأن ذلك يعني بلوغ الكتلة مقدار اللانهاية حسب المعادلة النسبية المعروفة).  
يقوم الجهاز آنيا بدفع مجموعتين من البروتونات واحدة في اتجاه حركة عقارب الساعة وأخرى في الاتجاه المعاكس وبواسطة التحكم في مسار كل مجموعة تدفع المجموعتان إلى نقطة محددة حيث تصطدم البروتونات بسرعة تساوي ضعف سرعة كل منهما. (لإيضاح ذلك نقول أنه لو اصطدمت سيارتان تسير كل واحدة منهما بعكس اتجاه الأخرى بسرعة ستين كيلومترا في الساعة، فإن هذا يشبه تماما اصطدام سيارة تسير بسرعة مئة وعشرين كيلومترا في الساعة بسيارة واقفة)
لإبقاء البروتونات في مسارها الدائري لا بد من توفير مجال مغناطيس يتعامد مع اتجاه حركة البروتونات وهذا يحتاج إلى تيار كهربائي مقداره إثنا عشر ألف أمپير ولا يتيسر ذلك إلا بتخفيض درجة حرارة "الأسلاك” إلى درجة قريبة من درجة الصفر المطلق بحيث تصبح عديمة المقاومة لمرور التيار الكهربائي فيها للحؤول دون ارتفاع درجة حرارة الموصلات في الكهرومغناطيسات.  لا بد من التنويه أن الأنابيب التي تتحرك فيها البروتونات تكون مفرغة تفريغا كاملا.
أثيرت إشاعات عن "خطورة” تلك التجربة تشهد للذين أثاروها بعدم إحاطتهم بما يحدث في هذه التجربة الفريدة.  كل طالب أنهى الثانوية في القسم العلمي يستطيع أن يحسب الطاقة الناتجة عن تصادم البروتونات بهذه السرعة وذلك باستعمال معادلة أينشتاين.  إنها لا تزيد عن الطاقة الناتجة عن تحول أربعة عشر ألفا من البروتونات إلى طاقة وهي تزيد قليلا عن جزئين من مليون من "جول” بحيث لا يوجد كائن حي يستطيع أن يشعر بها في أي حال من الحالات ولو كان من أصغر الحشرات!
أما عن "الثقوب السوداء” التي قد تنتج فإنها أيضا من الصغر بحيث لا يكون لها أي تأثير وقد لا يستمر وجودها لأكثر من جزء من بليون من الثانية.
أما "الشظايا” التي ستتطاير نتيجة لتصادم البروتونات فهي الجسيمات التي يتكون منها كل بروتون فإن العلماء يتوقعون الحصول على الجسيمات الأولية التي كانت تتكون منها مادة الكون برمته عند حصول الانفجار الكبير ولا بد أنها تختلف في ماهيتها عما تسنى لنا اكتشافه حتى اليوم.  

قصة الكتلة "الخفية” والاحتمالات الثلاث

والآن إلى جانب آخر عظيم الأهمية في هذه التجربة وإن كانت نتائجه على كوكبنا وعلى الحياة فيه لن تحدث إلا بعد البلايين العديدة من السنين!
قلنا سابقا أن المجرات تبتعد عن بعضها بسرعة والسؤال هو: هل ستستمر المجرات في حركتها دون توقف؟ أي أن الكون سيستمر في الاتساع، أم أن سرعتها تقل باستمرار نتيجة لقوة الجاذبية بين المجرات بحيث سوف تتوقف في لحظة ما في المستقبل ثم تبدأ في التسارع باتجاه المركز الذي انطلقت منه لتتحد مرة أخرى وتكون كتلة واحدة تعود وتنفجر بانفجار عظيم آخر وهكذا دواليك؟  أم أنها ستصل إلى نقطة تكف فيها عن الحركة وتبقى ساكنة إلى الأبد؟
الجواب على هذه الأسئلة يتطلب معرفة كمية المادة والطاقة الخفية الموجودة في الكون.  يعتقد بعض العلماء أن كمية المادة التي رصدناها حتى اليوم لا تتجاوز الخمسة في المائة من المادة والطاقة الموجودة في الكون دون أن يقوم حتى اليوم دليل قاطع على ذلك.  من أهم أسباب عجزنا عن معرفة كمية المادة الموجودة في الكون هو جهلنا الكامل في الوقت الراهن لطبيعة مجال الجاذبية وأمواج الجاذبية وسرعتها، بخلاف معرفتنا شبه الكاملة للحقول الكهربائية والمغناطيسية.
قد تساعدنا هذه التجربة في إماطة اللثام عن بعض جوانب مجال الجاذبية، وإذا حدث ذلك فلا شك أنه سيكون أهم اكتشاف منذ الاكتشافات الكبرى في نهاية القرن التاسع عشر وأوائل القرن العشرين.

أرقام ذات صلة

يشارك في الأبحاث 2100 باحث من 35 دولة وأكثر من 180 معهد أبحاث
تكاليف إقامة المشروع قاربت ستة بلايين يورو 
درجة حرارة الموصلات في المغناطيسات  271.3  درجة مئوية تحت الصفر
الضغط في داخل أنابيب التسارع أقل من عشر تريليون ضغط جوي
عدد المغناطيسات 9300
عدد الاصطدامات في كل ثانية  600 مليون
درجة الحرارة الناتجة عن تصادم البروتونات تزيد بمئة ألف مرة عن الحرارة في داخل الشمس التي تزيد على 13 مليون درجة مئوية  
ثمن الكهرباء المستهلكة في السنة يقرب من عشرين مليون يورو
لمشاهدة عرض مبسط لعمل المسارع إذهب إلى الموقع التالي

http://kalyanb4u.wordpress.com/2008/09/13/lhc-animation-of-proton-proton-collision-experiment/

Sunday 24 March 2013

هل من سؤال؟


هل من سؤال؟

إلى الأخوات والإخوة العاملين في حقل التربية والتعليم:

مع بداية السنة الدراسية يعود إلى الأذهان ما نشرته بعض الصحف العربية  والعبرية عن سوء تحصيل الطلاب العرب في إسرائيل، ومن أهمها أرقام نشرتها صحيفة هآرتس من قبل، في أوائل هذا العام أو أواخر العام المنصرم، عن دراسة شملت ما يقرب من مائتي مدرسة في البلاد ظهر فيها بوضوح أن الطالب العربي في حال لا يحسد عليها من سوء التحصيل.  قد يلقي بعض الأخوات والإخوة باللوم على وزارات الحكومة المختلفة وعلى السلطات المحلية أو على الأهل وقد يكون الحق معهم في بعض ما يزعمون.  لكن السؤال هو: إذا كان التقصير في حق الطالب يجيء من كل حدب وصوب أوليس هذا سببا كافيا لكي يشمر المعلمات والمعلمين عن سواعدهم ويبذلوا أقصى جهدهم من أجل التعويض عن ذلك التقصير  من أجل مستقبل طلابنا الذي هو مستقبلنا؟

هذه بعض النصائح التي كنت قد قرأتها في أحد أعداد مجلة "The Physics Teacher” التي تصدر عن رابطة معلمي الفيزياء في الولايات المتحدة وكنت قد انتسبت إليها في أوائل السبعينيات من القرن العشرين مع إضافات من عندي اكتسبتها خلال سنواتي التسع في التدريس، وقد بذلت كل ما في وسعي لتطبيقها عندما كنت أدرس مادت الفيزياء في مدرسة تيراسانطا في عكا وأظن أن ذلك الأسلوب لاقى نجاحا لا بأس به.

هل من سؤال؟

إن الدروس التي تقل فيها أسئلة الطلاب أو تنعدم لا يمكن أن تكون الدليل على حسن أداء المعلم، النقيض هو الصحيح. عندما يمتنع أو ينقطع التلميذ عن التساؤل وطرح الأسئلة هناك ألف سؤال وسؤال يجب أن يطرحه المعلم على نفسه وأن يحاسبها بكل صراحة وجرأة لأن الاعتراف بالخطأ فضيلة والتمادي فيه رذيلة.
من الشائع أن السؤال عن شيء ما يدل على جهل السائل بذلك الشيء، فهل خطر على بالك أيها المعلم أن السؤال يدل على مدى الفهم؟

لعل أهم ما يحتاج إليه المعلم في أداء تلك الرسالة المقدسة التي يحملها على عاتقه هو أن يعرف كيف يسأل وكيف يجيب. الذي لا يقلّ أهمية عن ذلك هو إجادة توجيه التلاميذ إلى مزيد من التساؤل الذي يؤدّي بالتلاميذ إلى تعميق الفهم للمادة المدروسة وفي الوقت ذاته تكون تلك الأسئلة دليلا للمعلم على مدى استيعابهم للمادة التي يدرِّسها، ولنا في سقراط خير مثل فقد طبق ذلك الأسلوب منذ خمسة وعشرين قرنا.

من الواجب ألا تغيب عن ذهن المعلم الأسئلة التالية وهو يقف أمام تلاميذه:

1)  كيف أحث الطلاب على التساؤل ومن ثم على السؤال؟
2)  كيف أجيب على أسئلة الطلاب؟
3)  كيف أجيب على الأسئلة لتي تبدو "سخيفة”؟
4)  كيف أزيد من دقة ووضوح أسئلتي ؟
5)  هل تؤدي أسئلتي إلى فهم أوسع وأعمق للمادة؟
6)  هل أستطيع الإجابة عن أسئلة تبدو لي "تافهة” بحيث لا أُخجِل السائل وأجعله موضع سخرية وبذلك أكبت فيه الجرأة وأثنيه عن طرح الأسئلة؟
7)  هل تزيد أسئلة التلاميذ أحيانا من فهمي للمادة؟
8)  هل تؤدي أسئلتي إلى إفهام التلاميذ ما يحتاجون لفهمه؟
9) هل أستطيع أن أميّز بين سؤال يبحث عن إجابة وبين سؤال يُقصَد به عرض المعرفة؟
10) هل أشجع التلاميذ أن يجيبوا على أسئلة زملائهم بحيث يؤدي ذلك إلى حوار مثمر يشحذ الأذهان أم أنني أجيب بنفسي على جميع الأسئلة التي يطرحها الطلاب؟
11) هل أجيب حتى على الأسئلة التي أطرحها أنا؟
12) عندما لا تحضرني الإجابة على سؤال ما، هل تكون إجابتي: "آسف لعدم معرفتي الإجابة الآن، وسأحاول الحصول على الإجابة الصحيحة في أقرب فرصة ممكنة”. أم أنّ عندي دائما الإجابة لكل سؤال؟
13) هل أشعر فعلا بأنني تلميذ يسعى أبدا إلى توسيع معرفته وتعميقها؟
14) هل لدي الجرأة اللازمة لأن أعيد على مسامع التلاميذ القول التالي: "حاول أن تنقض كل ما تسمعه أو تقرأه لأن هذا هو السبيل الوحيد للوصول إلى الحقائق؟”
15) هل أنا مقتنع بأن الإجابة على سؤال ما قد تكون الفاتحة لأسئلة أخرى وليست خاتمة النقاش.
إذا تضمّنت الإجابة على سؤال ما للطالب على شيئ من السخرية أو الاستخفاف أو التقليل من شأن السؤال أو السائل فهي الشهادة الدامغة على تقصير المعلم وهي أقصر الطرق لكبت التفكير المثمر والمبدع عند التلميذ وهذا في حد ذاته جريمة حتى لو لم يكن هناك قانون يعاقب عليها!

العرب والصهيونية، للدكتو الياس شوفاني


بواكير المقاومة العربية للحركة الصهيونية

كثر هذه الأيام، وخاصة في سياق الكلام عن الصراع العربي - الصهيوني، التعبير عن الوعي المشوه لطبيعة هذا الصراع، وبالتالي، عن مدى نجاح الإعلام الصهيوني في تحقيق "التطبيع الثقافي"، أي تزييف الوعي السياسي، لدى الفئة السائدة في النظام العربي القائم، الأمر الذي يبرز من خلال زيف الأقوال الصادرة عن أفرادها. فهذه الفئة، التي وصلت بشكل أو بآخر إلى مواقع الزعامة وصنع القرار، وتبريراً لعجزها في إدارة الصراع مع المشروع الصهيوني، تبحث عن كبش فداء تحمله تبعة التقصير في أدائها،فلم تجد صيداً أسهل من الجماهير الشعبية التي تحملت وزر اختلال أوجه نشاطها في مراحله المتعاقبة. والباحث المتتبع للمسارات السياسية الجارية، وما يواكبها من تصريحات صادرة عن أفراد تلك الفئة، أو بعضهم على الأقل،لا يمر عليه يوم لا يطالعه فيه أحدهم أو أكثر،بتصريح ينم عن جهله بطبيعة الصراع الذي من المفترض أنه يتولى إدارته، ولعل الأشد مضاضة على هذا الصعيد الأحكام الغوغائية التي يصدرها البعض على نضال الأجيال السالفة في مواجهة العمل الصهيوني. وليس أقل زيفاً ونفاقاً التباهي بالتضحيات التي قدمها البعض" فداء" لفلسطين، وفي سبيل تحريرها، بل التباكي على المنعكسات السلبية لقضيتها على واقع البلد الذي يحكمه.

وهذا الواقع لا يعدو كونه تعبيراً عن أزمة الهبوط التي تعاني منها تلك الفئة السياسية، التي تشكل العمود الفقري لأنظمة الحكم القائمة في المنطقة عموماً، والتي تجد نفسها حالياً في حرج. ولذلك فهي تبتدع المبررات الواهية للحفاظ على امتيازاتها، الأمر الذي يقودها إلى تحميل ضحايا تقصيرها المسؤولية عما حصل نتيجة لسلوكها هي. لقد تنطحت لما يسمى"قضية الأمة المركزية" – قضية فلسطين - وادّعت أنها خاضت حرب 1948 لتحرير هذا القطر العربي الأصيل من براثن الصهيونية الاستيطانية، إلا أنها في حقيقة الأمر دخلت فلسطين لتنفيذ قرار التقسيم الذي أصدرته الأمم المتحدة عام 1947. ومنذئذ، ظلت تلك الفئة في تراجع كما هو معلوم، وصولاً إلى وضعها الراهن، حيث صارت تعتبر "التسوية" مع العدو القومي ركيزة في ما يسميه البعض "الأمن القومي". ولما انضوت "الثورة الفلسطينية"، بقيادة منظمة التحرير الفلسطينية في النظام العربي القائم،صارت مهمتها تمهيد السبيل أمام القوى الانتهازية للتملص من مسؤوليتها في إدارة الصراع. وبذلك فقدت تلك المنظمة مبرر قيامها أصلاً، وأصبحت أشد حلقات ذلك النظام أزمة كونها أضعفها؛ والمهزلة أن هذا النظام أولاها المسؤولية عما يسميه زوراً "قضية الأمة المركزية".

في واقع الحال كانت الأجيال السابقة، التي واكبت بدايات النشاط الصهيوني الاستيطاني في فلسطين، ذات مصداقية عالية في تصدّيها لذلك المشروع المعادي. قد لا تكون القيادات السالفة أعمق وعياً بطبيعة المشروع الصهيوني، لكنها بالتأكيد كانت شديدة الإيمان بقضيتها، والصدق في تصرفاتها إزاء ذلك المشروع كما وعته. فما من شك في أنه نتيجة لتبلور الوعي القومي، من خلال اليقظة الفكرية والثقافية في الوطن العربي، قد تصدت " الحركة القومية العربية " سواء على صعيد القوى السياسية والنخب الثقافية، أو على المستوى الشعبي، للحركة الصهيونية فكراً وممارسةً. ومهما يكن من أمر, فإن الفئات السائدة في الحركة القومية العربية في حينه، كانت بالفعل شديدة التمسك بمنطلقات مواقفها، والالتزام بمصالح شعبها. وإذ لم تحقق الحركات السياسية الأولى أهدافها المعلنة، وأخفقت في الحؤول دون قيام المشروع الصهيوني، فإن الحركات اللاحقة، والأنظمة السياسية التابعة، لم تكن أوفر حظاً في التصدي لمسيرة ذلك المشروع الاستيطانية العدوانية.

إن هذا التراجع الواضح في الحركة السياسية العربية، خاصة على المستوى القيادي، وفي مقولات أفراده، أو بعضها على الأقل، هو الدافع الكامن وراء هذا العمل، الذي هو ترجمة أمينة لنصّ يتناول المقاومة العربية للاستيطان الصهيوني في بدايته، وكذلك المناهضة السياسية والفكرية للصهيونية، كما استوعبها أبناء الجيل. وفي الواقع، وبحدود القدرة الذاتية على القيام بما يلزم، واكبت المقاومة العربية الاستيطان الصهيوني منذ بدايته. لكن تلك المقاومة، ولأسباب ذاتية وموضوعية لم تستطع الحؤول دون تجسيد المشروع الصهيوني في فلسطين. فعلى الصعيد الموضوعي، كانت المقاومة العربية تنطلق من قاعدة إمبراطورية متهاوية - السلطنة العثمانية - بينما الصهيونية تنطلق من قاعدة إمبريالية صاعدة. ولذلك، فبينما كانت الحركة القومية العربية تركز اهتمامها على التخلص من نير الحكم العثماني، كانت الصهيونية تسعى جاهدة لنيل الدعم الأوروبي لمشروعها، وبالتالي، تأليب القوى الفاعلة للإجهاز على السلطنة العثمانية وتقسيم أراضيها، واتخاذ فلسطين قاعدة لاستيطانها. ومن سخرية القدر أن تجد الحركة القومية العربية نفسها، كما هو حال بعض الأنظمة العربية راهناً، متحالفة من أجل تحقيق أهدافها مع الدول الإمبريالية، التي شكلت "البلد الأم" الإمبريالي للحركة الصهيونية. وحال المنظمات "الثورية" الراهنة مع الأنظمة العربية كحال الحركات القومية في حينه مع النظام العثماني؛ التاريخ يكرر نفسه على شكل مهزلة.

فعلى الصعيد الذاتي، لم يستطع الموقف السياسي النظري، المعادي للصهيونية في الجانب العربي، أن يترجم نفسه في حركة سياسية منظمة وفاعلة، أسوة بالحركة الصهيونية، التي راحت بعد "مؤتمر بازل" (1897) تصوغ منظمتها بالشكل الذي يضمن لها تحقيق أهدافها. ومنذ البداية، وفي مقابل تمركز النشاط الصهيوني، وتحديد أهدافه العملية، وبالتالي، حشد مقوماته لانجاز تلك الأهداف، ظلت المقاومة العربية مبعثرة، وتعاني حالة من الانفصام بين النظرية والتطبيق. فحالة الوعي التي كانت في طور التشكل، والتي تمحورت حول القضية الضاغطة - العلاقة مع الحكم العثماني - مع أنها لم تكن غافلة عن الخطر الصهيوني، وكذلك الوضع السياسي- الاجتماعي للشعوب العربية لدى انطلاق الصهيونية كحركة سياسية، تمتلك مشروعاً استيطانياً قابلاً للتجسد، لم يكن من شأنهما تأهيل الحركة القومية العربية لبناء التنظيم السياسي، وبالشكل المطلوب، القادر على مواجهة الحركة الصهيونية ودحرها. وكان واضحاً أن الحركة القومية العربية لم تكن تمتلك برنامجاً ــ فكرياً وسياسياً وتنظيمياً، أو عملياً – موحداً في مواجهة النشاط الصهيوني، فظلت المناهضة العربية للمشروع الاستيطاني تتسم بطابع العفوية والارتجال، وبالتالي، بردات الفعل التلقائية. وهذا الوضع بشكل عام لا يزال هو واقع الحال السائد في الجانب العربي راهناً رغم مرور أكثر من قرن على الصراع، بشكل أو بآخر، مع المشروع الصهيوني.

وعلى الرغم من الرفض الرسمي العثماني للمشروع الصهيوني، فإن هذا الموقف المبدئي لم يترجم عملياًُ على الأرض، وبالتالي، فالإجراءات المتخذة لتطبيقه في الواقع لم تحل دون دخول المستوطنين الصهيونيين إلى فلسطين والإقامة فيها، بهذه الصيغة أو تلك. لقد أفاد هؤلاء المهاجرون الجدد من الثغرات في القوانين والإجراءات، كما استغلوا فساد الموظفين بالرشاوى، واستندوا إلى دعم قناصل الدول الأوروبية، للالتفاف على أوامر السلطة العثمانية المركزية بحظر تلك الهجرة وامتلاك أعضائها الأراضي للاستيطان. وفي الواقع، فإن قناصل الدول الأجنبية كثيرًا ما احتجوا على القيود المفروضة على هجرة اليهود إلى فلسطين، واعتبروها خرقاً للامتيازات التي تتمتع بها دولهم. وعبر تدخل هؤلاء القناصل، كثيرا ما رضخ الموظفون العثمانيون للضغوط أو أُغروا بالرشاوى فتغاضوا عن التجاوزات الصهيونية لتوجيهات السلطة المركزية. وكذلك، وعلى الرغم من القوانين الصادرة بمنع بيع الأراضي للمهاجرين الجدد، فقد استطاع هؤلاء، وعبر السماسرة، أو عن طريق العقود الوهمية، من ابتياع مساحات من الأراضي لإقامة المستعمرات. وبنسبة عالية جداً، كانت تلك الأراضي المباعة تخص ملاكين غائبين، ممن استولى عليها عبر الالتزام أو سجّلها باسمه لقاء دفع الضريبة المستحقة عليها، نيابة عن الفلاحين الذين لم تتوفر لديهم الأموال اللازمة لذلك، وخصوصاً بعد صدور القوانين الضريبية على الأرض، إثر مسحها وتسجيلها في عهد "التنظيمات"؛ فتركزت في أيدي هؤلاء المتمولين الغائبين مساحات واسعة من الأراضي في الريف.
وإزاء فشل الإجراءات العثمانية في إيقاف الهجرة اليهودية، وبالتالي، ازدياد النشاط الصهيوني الاستيطاني، برزت المقاومة المحلية لهذه الظاهرة. وإذ لم تكن المقاومة منسقة ومنظمة، فإنها تفجرت بصورة عفوية، وبالتواكب مع عمليات شراء الأراضي من الملاكين الغائبين وطرد الفلاحين أو المرابعين منها، وإقامة المستعمرات عليها. وكان كلما توسعت عملية الاستيطان وانتشرت في الريف، عمت المقاومة واتسع نطاقها. فشراء الأراضي عبر السماسرة، وفي صفقات مشبوهة وسرّية،جعل المواجهة حتمية بين الفلاحين المقيمين عليها والمستوطنين الذين عمدوا إلى طردهم منها،وبالتالي، قطعوا عنهم أسباب معيشتهم فجأة، ومن دون سابق إنذار. فكان طبيعيا ً أن يقاوم الفلاحون هذه الظاهرة، ويعمدوا إلى العنف في مواجهة لجوء المستوطنين، الذين تدعمهم السلطة، إلى إجلائهم بالقوة. وكانت يد السلطة ثقيلة على الفلاحين في تنفيذ العقود المشبوهة، وخفيفة على المستوطنين في تنفيذ أوامر الدولة وتعليماتها. وكما اصطدم المستوطنون مع الفلاحين، كذلك الحال مع القبائل البدوية التي حرمت من مراعي قطعانها. وقام الطرفان الفلاحون والبدو ــ ومن دون تنسيق، بعمل متكامل في مهاجمة المستعمرات وحرق المزارع، وتخريب المرافق. وتنضح يوميات المستوطنين الأوائل بأخبار هذه المقاومة، التي يسمونها أعمال نهب وتخريب. وفي النص قيد البحث الكثير من الأحداث الموثقة جيداً حول هذه المقاومة المحلية، وإن كان الكاتب يعزوها لأسباب مخالفة لحقيقتها، وذلك لأغراض ذاتية، كونه مستوطن يهودي صهيوني وإن حاول إظهار الموضوعية في طرحه للقضايا.
وفي الواقع، وبغض النظر عن الدعاية الصهيونية التي تروّج غياب الوعي الوطني لدى العرب الفلسطينيين، وتركز على انتمائهم الطائفي، وتبرز خلوّ الأرض من السكان، وصولا ً إلى مقولة الزعيم الصهيوني، يسرائيل زانغويل "أرض بلا شعب، لشعب بلا أرض" فإنه ما من مستعمرة يهودية قامت في فلسطين، ومنذ البداية من دون صراع مع جوارها من الفلاحين والبدو. والدعاية الصهيونية الموجهة، الرامية إلى تغييب سكان فلسطين الأصليين، لتبرير منح الحركة الصهيونية "البراءة الدولية"، تفضحها محاضر جلسات لجان المستعمرات ومذكرات المستوطنين الأوائل، التي أبرزت شكواهم من المقاومة العربية. وهذه الدعاية المضللة والكاذبة تفضحها بصورة صارخة الذرائع والتبريرات التي ساقها المستوطنون لإنشاء وحدات عسكرية مسلحة لحماية المستعمرات. كما يدحضها الجدل بين المستوطنين الأوائل ورجال الهجرة الثانية، بشان ضرورة استبدال الحراس العرب بمهاجرين يهود للقيام بالدفاع عن المستعمرات أمام هجمات المقاومين العرب. كما تكشف مراسلات القناصل الأجانب زيف هذه الدعاية، إذ دأب هؤلاء على الطلب من السلطنة العثمانية إبعاد الفلاحين العرب عن الأرض بالقوة، وتثبيت المستوطنين عليها، وحمايتهم. وفي النص قيد البحث الكثير من الإشارات إلى هذه المقاومة، والكاتب يستند في إيرادها إلى عدد من الأراشيف التي تضم وثائق من تلك الفترة، سواء منها اليهودية، أو التركية، أو الأجنبية، أو حتى العربية. ومن هنا أهمية ترجمة هذه المقالة، الأمر الذي كان الدافع الأساسي للقيام بالعمل لوضعه في متناول القارئ العربي.

وتشير الدلائل إلى أن حركة الاستيطان اليهودي، المدعومة من قناصل الدول الأوروبية وتواطؤ بعض الموظفين العثمانيين، عجلت في تنامي الشعور الوطني وتبلور الوعي القومي لدى قطاعات واسعة من سكان فلسطين وجوارها. وعم هذا الشعور سكان الريف والمدن على حدّ سواء، ولم تخرج عنه سوى فئة صغيرة من الملاكين، الذين كانوا بغالبيتهم غائبين عن الأرض، وقد أغرتهم الأثمان العالية التي دفعها لهم السماسرة للتنازل عن ملكية الأرض. أما التجار والحرفيون والمثقفون، فقد انحازوا إلى الموقف الوطني، ومن منطلق الحفاظ على المصالح الاقتصادية التي تتهددها الهجرة اليهودية الواسعة. وتحت ضغط الرأي العام الشعبي، تقدم أعيان القدس بالتماس إلى الباب العالي (24/6/ 1891) يطالبون فيه بوضع حدّ لهجرة اليهود إلى فلسطين، واستجابت استنبول للالتماس، وأصدرت مرسوماً يمنع بيع أراضي الدولة (الميري) لليهود من دون استثناء (1892). ولم تجد نفعاً احتجاجات اليهود العثمانيين، الذين شكلوا غطاء للصهيونية للالتفاف على القوانين، ولا اعتراضات قناصل الدول الأوربية، في زحزحة الباب العالي عن موقفه، الذي دعمه السلطان عبد الحميد، بحزم. وفي هذا النص العديد من الوثائق التي تؤكد هذه الحقائق. والكاتب الذي لم يأل جهداً في البحث والتمحيص، أورد في مقالته المطولة كمّاً وافراً من المعلومات الوثائقية المستقاة من مصادر متعددة والتي تؤكدها الوقائع، وإن حاول الكاتب أحياناً توظيفها في غير سبيلها.

وقد صدر هذا المقال في مجلد ضخم بعنوان "تاريخ الاستيطان اليهودي في فلسطين (تولدوت هيشوف بإيرتس - يسرائيل) – العصر العثماني - الجزء الأول، (الأكاديمية القومية الإسرائيلية للعلوم، مؤسسة بيالك، القدس، 1989) وفي المجلد عشرة مقالات طويلة، إضافة إلى مقدمة وملاحق وثبت مصادر، وكذلك فهرس أسماء أعلام وأمكنة (963صفحة). والمقال قيد البحث هو الفصل الرابع من الكتاب (ص 215-256)، وهو بعنوان "العرب والصهيونية:1882-1914"، والكاتب هو الباحث الأكاديمي يوسيف لمدان. وبعد الإفادة من هذا البحث في كتابات سابقة عن الصراع العربي - الإسرائيلي، طرأت فكرة ترجمته كاملاً، لوضعه في متناول القارئ العربي في صيغته الأصلية، ليكون بمثابة وثيقة في موضوعه. وليس ذلك إعجاباً بتقويمات الكاتب للواقع، ولا بتحليلاته للظواهر التي برزت في سياق المواجهة بين المستوطنين والسكان الأصليين، وإنما تقديراً لإحاطته بالوقائع، ولاستناده إلى المراجع المتعلقة بتلك الفترة، على تنوع مصادرها، العربية والعبرية والتركية والأجنبية.

ما من شك في أن الكاتب، بانحيازاته اليهودية والصهيونية، حاول إضفاء طابعٍ مصطنعٍ على المعطيات يضعها في غير نصابها، ويظهرها على غير مغزاها الحقيقي الأصلي. إلا أنه في المقابل، أورد كماً ضخماً من المعلومات، لم يستطع تجاهلها، ليس خدمة للحقيقة بقدر ما كان ذلك دعماً لأطروحاته النظرية. لقد سعى جاهداً للتركيز على الاختلاف في خلفيات النظرة إلى النشاط الصهيوني في الأوساط العربية، في محاولة مكشوفة لصرف الانتباه عن الوحدة في الموقف العربي منه كظاهرة غريبة عن الزمان والمكان. إلا أنه لم يستطع إنكار هذا الإجماع على رفض الصهيونية، بصرف النظر عن الدواعي الذاتية لذلك. لقد كان همه في المقال إبراز الخلافات الداخلية العربية، لإسقاط منعكساتها على الموقف من الاستيطان الصهيوني، فاضطر لإيراد كمٍّّ من المعلومات الموثقة جيداً، لكنها على العكس مما أراده منها، تثبت أنه بصرف النظر عن تلك الخلافات كان الموقف من الصهيونية الدخيلة واحداً عموماً. في المقابل، لا ينكر الكاتب أن العرب لم يميزوا بين التيارات الاستيطانية المختلفة، ولم يعيروا ذلك اهتماماً، فكأنما لسان حالهم يقول: "الكفر ملّة واحدة".

حاول الكاتب تصنيف ردود الفعل العربية على النشاط الاستيطاني الصهيوني الأجنبي، بناء على الانتماء الديني، أو حتى الطائفي، وبالتأكيد انطلاقاً من الأرضية القُطريّة. إلا أن الوقائع التي أوردها لإثبات نظريته، على وفرتها، تثبت عكس ما رمى إليه الكاتب من زجها في النقاش. فلا التقسيمات القطرية، أو الدينية، أو الطبقية، التي أوردها الكاتب لإسناد أطروحته، تثبت في الاختبار، حتى بإقراره ذاتياً. إلا أن هذا الحشد من المعلومات التي توفرت لديه من المصادر المختلفة، يبرز الإجماع شبه الكامل بين القوى، على اختلاف مشاربها، في معارضة الصهيونية، وإن بدرجات متفاوتة. لقد كان طبيعياً أن تتفاوت المواقف من الصهيونية بناء على التقدير الذاتي لخطورتها، بالاستناد إلى مستوى الوعي المعرفي لمنطلقات هذه الحركة وأهدافها. وفي واقع الأمر كانت المناهضة للصهيونية تتجاوز حدود القومية والطائفية والإقليمية، وتتفاوت انطلاقاً من حالة الوعي السياسي لدى أصحابها، وليس على أساس انتماءاتهم الدينية أو الإقليمية أساساً، كما يحاول الكاتب إظهار ردود الفعل العربية على المشروع الصهيوني.
وهذا المنهج في التعامل مع الصحافة والكتابات الأخرى، السياسية والأدبية، أخفق في تقديم دعم علمي وموضوعي للطروحات التي توخاها الكاتب. لقد حاول إسناد موقف الصحيفة مثلاً، وكذلك المنشور، من الصهيونية، إلى الطائفة الدينية التي ينتمي إليها المحرر، أو الكاتب، فوقع في المحظور. أراد تعميم الخاص، وأحياناً تخصيص العام، فأفسد على نفسه استخلاص النتائج السليمة من المقتطفات التي أوردها، والتي كانت بالطبع انتقائية. وكذلك الأمر في محاولته التمييز بين مواقف الفلسطينيين وإخوانهم العرب، حيث اعتورت تحليله ثغرات لا تخفى على القارئ المتمعن. ومن التفسيرات الغريبة لدى الكاتب على سبيل المثال، عزو مناهضة العرب للصهيونية إلى الولاء للعثمانية. وفي واقع الأمر وعلى سبيل الأخذ والرد، كما يقول هو أحياناً، لماذا لا يكون الولاء للعثمانية ناجماً أصلا من موقف السلطنة إزاء الصهيونية مثلا! وعلى العموم، فالملاحظات على منهج التحليل لدى الكاتب كثيرة، إلا أن الأساس الداعي لترجمة المقال هو الحشد الكبير من المعلومات عن الأحداث، ومن مصادر متنوعة، والتي في المحصلة تعطي صورة واضحة عن المقاومة العربية للاستيطان الصهيوني منذ بدايته.

لم يكن بالإمكان العودة إلى الأصول للتثبت من الصيغ الأساسية للمقتطفات، وذلك لعدم توفر المصادر المطلوبة لذلك. إلا أنه جرى الالتزام قدر المستطاع بالأمانة في الترجمة والنقل، مع إيلاء الأهمية للمضمون قبل الشكل. وكذلك جرى تحاشي ترجمة الحواشي التي تشير إلى المصادر، بسبب كثرتها من جهة، وقلة فائدتها لتعذر الوصول إليها من جهة أخرى. كما بُذل جهد في مراعاة أسلوب الكتابة الذي اعتمده المؤلف، فانعكس ذلك بطبيعة الحال في بلاغة الترجمة. وكان لافتاً في أسلوب الكاتب الصياغات اللغوية غير المألوفة، وكأنما كان يترجم إلى العبرية من لغة الأم الأصلية، التي حكمت تفكيره. ومهما يكن، فلربما كان آخر ما قد يخطر ببال هذا الكاتب أن يأتي من يترجم مقاله إلى العربية. وكذلك الأمر بالنسبة إلى المترجم نفسه، الذي لولا اعتباره المقال بمثابة وثيقة تسند كتاباته عن تلك الفترة، لما أقدم على هذا العمل.
الواضح من المقال وكما هو معلوم من مصادر أخرى متعددة، فانه بعد انقلاب "تركيا الفتاة" (1908)، وبروز تعاطف قياداتها مع الصهيونية، وانكفائها عن مواقفها السابقة، ازدادت حدة المقاومة العربية لها. وإضافة إلى الحملة في الصحف، ظهرت كتابات تاريخية وأدبية تحرض العرب على مناهضة الصهيونية. فكتب إسعاف النشاشيبي (1911) كتاب "الساحر واليهودي"، ومعروف الأرناؤوط كتاب " فتاة صهيون" ووضع محمد روحي الخالدي (1911) مخطوطة كتاب "تاريخ الصهيونية"، وأوضح فيه أن الهدف الصهيوني هو إقامة دولة يهودية في فلسطين. وميز الخالدي الصهيونية عن اليهودية، ونبه إلى مخاطر نشاط المستوطنين في فلسطين. وتناول الشيخ محمد رشيد رضا الموضوع في "المنار"، ونبه إلى مخاطر الصهيونية على العرب ومستقبلهم، كما أوضح نجيب عازوري، في مقدمة كتابه "يقظة الأمة العربية" أخطار الصهيونية على الوطن العربي، مشيراً إلى الصراع الدموي الذي سيتولد عن محاولات تجسيد المشروع الصهيوني في فلسطين. وشنّت الصحف التي تأسست في فلسطين في تلك الفترة حملة على النشاط الصهيوني، تكشف مخططاته، ودعت الناس إلى الوقوف في وجهه. وبذلك عمقت الوعي العربي بهذه المؤامرة الدولية، وبأبعادها الخطرة على حاضر الأمة العربية ومستقبلها. وطالبت الصحف الحكومة العثمانية بمنع هجرة اليهود إلى فلسطين، وتشديد الرقابة على بيع الأراضي. وقد تعرضت تلك الصحف مراراً للإغلاق بأوامر السلطة العثمانية، عقاباً لها على نشر مقالات معادية للصهيونية، وانتقاد سياسة الحكومة إزاء مخططاتها ونشاطاتها. وقد عرض كاتب المقالة مواقف هؤلاء الكتّاب بإسهاب، كما حاول تقديم تقويم موضوعي لمواقف الصحف المختلفة، إلا أنه لم يفلح في إخفاء انحيازا ته الصهيونية في تفسيراته لما ورد في المصادر المتعددة التي استند إليها في كتاباته.

فبعد ثورة "تركيا الفتاة" تأسست في فلسطين أربع صحف، جعلت التصدي للمشروع الصهيوني محور اهتمامها. وبذلك ساهمت هذه الصحف في تعزيز خصوصية الحركة الوطنية الفلسطينية ضمن إطارها القومي العربي، إذ راح البعد الصهيوني يحتل موقعاً رئيساً في مضمونها السياسي والنضالي. ففي سنة 1908،أسس حنا عبد الله العيسى صحيفة "الأصمعي"، ونجيب نصار صحيفة "الكرمل". وفي سنة 1912 أسس سعيد جار الله صحيفة "المنادي " وعيس العيسى صحيفة "فلسطين" التي تولى تحريرها يوسف العيسى. وقد تميزت صحيفة "الكرمل" التي صدرت في حيفا، بحمل لواء المقاومة العربية للصهيونية. وقدم مؤسسها نجيب نصار اللبناني الأصل (1865-1948) مساهمة نوعية في نشر الوعي عن الصهيونية والتعريف بنشاطاتها. فأكد على عنصريتها، وكشف الزيف في طروحاتها، وركز على التعريف بمؤسساتها وأساليب عملها، بالاستناد إلى "الموسوعة اليهودية". وكرس صحيفته للتصدي للمشروع الصهيوني بأبعاده كلها – الفكرية والسياسية والعملية. وطالب الحكومة بوقف الهجرة إلى فلسطين ومنع بيع الأراضي للحركة الصهيونية. وبنشاطه مع الصحف الأخرى، أجبر الحكومة على التراجع عن بيع أراضي "الجفتلك" (الأميرية) في غور بيسان وأريحا (1913). وقد تعرض للمطاردة والاعتقال من قبل السلطات العثمانية، والبريطانية لاحقاً. وكذلك فعلت جريدة "فلسطين" وقامت بدور كبير في مقاومة الصهيونية والاحتجاج على نشاطها في فلسطين، راح يتصاعد مع تصاعد وتيرة الهجرة اليهودية الثانية إليها، قبل الحرب العالمية الأولى. ونظراً إلى تأثير تلك الصحف في الرأي العام الفلسطيني والعربي، فقد نشطت الأوساط الصهيونية في العمل على توقيفها، فأغلقتها الحكومة العثمانية مراراً. وكذلك الأمر في ظل الانتداب البريطاني. وقد تعرض كاتب المقال لنشاط تلك الصحف، وإذ لم يستطع إخفاء دورها المقاوم، فإنه لم يفوًت فرصة لوصمها بـ "اللاساميّة" حسب تعريفه الخاص لهذه الظاهرة.

وقبل اندلاع الحرب العالمية الأولى زار جرجي زيدان فلسطين، وكتب عن مشاهداته هناك في مجلة "الهلال" (1914). وكذلك كتب إبراهيم سليم النجار في الأهرام (1914)، تحت عنوان "الإسرائيليون في فلسطين" كما قام محمد الشنطي، صاحب صحيفة " الإقدام " القاهرية، بجولة في فلسطين، أجرى خلالها مقابلات مع المرشحين للبرلمان العثماني، من أجل التعريف بمواقفهم من الصهيونية. وفي المقابلة مع المربّي خليل السكاكيني (29/3/1914) قال:
"إن الصهيونيين يريدون أن يمتلكوا فلسطين، قلب الأقطار العربية والحلقة الوسطى التي تربط شبه الجزيرة العربية بأفريقيا. وهكذا يبدو أنهم يريدون كسر الحلقة، وتقسيم الأمة العربية إلى جزأين للحيلولة دون توحيدها. فعلى الشعب أن يكون واعياً، إذ أنه يمتلك أرضاً ولساناً. وإذا شئت أن تقتل شعباً فاقطع لسانه واحتل أرضه. وهذا بالضبط ما يعتزم الصهيونيون أن يفعلوه".

وبتأثير حملة الصحف، نقل الزعماء السياسيون الفلسطينيون معارضة الشعب إلى البرلمان العثماني والأوساط السياسية الدولية. وفي البرلمان العثماني الجديد (1908)، برز موقف المندوبين العرب الموحد من الصهيونية، ومن موقف تركيا الفتاة المتعاطف معها. وأنكرت الحكومة تعاطفها، ولكن المعارضة هاجمتها بشدة (1911) في "مجلس المبعوثان"، مما اضطرها إلى التراجع واتخاذ مواقف أكثر حزماً تجاه نشاط المستوطنين اليهود في فلسطين. واستعرض كاتب المقال مواقف المندوبين الفلسطينيين والعرب في البرلمان العثماني، مستنداً إلى الأراشيف التركية في استنبول، كما إلى الصحف العربية من تلك الفترة ومن هنا أهميته.

وبرز في مهاجمة المشروع الصهيوني نائب دمشق، شكري العسلي، الذي شغل في السابق منصب قائمقام الناصرة. وفي أثناء خدمته في فلسطين، عر ف العسلي بموقفه الحازم ضد بيع الأراضي للمستوطنين، وبالتصدي القوي للصفقة التي عقدتها عائلة سرسسق البيروتية مع ممثلي الحركة الصهيونية لبيع مساحات واسعة في وسط مرج بني عامر، حيث أقيمت مستعمرة "مرحافيا". ولكن وساطة سرسق لدى والي بيروت، أدت إلى نقل العسلي من منصبه، وتمرير الصفقة. وكذلك كان موقف نائبي القدس: محمد روحي الخالدي وسعيد الحسيني، الذين أكدا خطورة المشروع الصهيوني، ليس على فلسطين فحسب، بل على الدولة العثمانية بأكملها، كونه يهدد كيانها. وانتقد النائبان في مداخلاتهما سياسة الحكومة المتهاونة إزاء النشاط الصهيوني، ودعوا إلى تشديد القيود عليه. وأصبح الموقف من الصهيونية مسألة أساسية في البرامج الانتخابية للمرشحين إلى البرلمان، تجاوباً مع الرأي العام للسكان، من جهة، وتحت تأثير الصحافة،من جهة أخرى. وفي انتخابات سنة 1914، تعهد سعيد الحسيني بمواصلة محاربة الصهيونية، وانتقد سياسة الحكومة المتغاضية عن النشاط الاستيطاني في فلسطين. وكذلك فعل راغب النشاشيبي، الذي دعا إلى وضع تشريع خاص يرمي إلى منع بيع الأراضي للمستوطنين. كما هاجم الامتيازات الممنوحة للدول الأجنبية، والتي تغطي التفاف الحركة الصهيونية على القوانين السائدة في البلاد. ويولي الكاتب موقف العسلي أهمية خاصة، ويسهب في إيراد التفاصيل، محاولا وصم موقف هذه الشخصية باللاسامية. كما يسعى جاهداً إلى دحض المعلومات التي أوردها العسلي في كتاباته ومرافعاته ضد النشاط الصهيوني، في محاولة واضحة لضرب مصداقيته، وبالتالي، الانتقاص من موقفه العربي.

إلا أنه على الرغم من مقاومة الفلاحين والبدو العنيفة، وكذلك حملات الصحف التحريضية ونشاط القوى السياسية، فقد استمر الاستيطان الصهيوني، بل وتعزز عبر "الهجرة الثانية" (1904-1914). ولم تحل القيود على الهجرة، وقوانين منع بيع الأراضي للمستوطنين، دون استمرار تلك الهجرة وشراء الأراضي. وقد تضافرت عدة عوامل لجعل ذلك ممكناً: فساد جهاز الدولة العثماني وتواطؤ العثمانيين الجدد مع الأهداف الصهيونية، ونشاط قناصل الدول الأجنبية لمصلحتها وغيرها. ويبقى من أهم عوامل استمرار الاستيطان، تَمَكّن الحركة الصهيونية من شراء الأراضي. وقد أدت طبيعة ملكية الأرض في البلاد دوراً رئيسياً في ذلك. وبينما كانت الدولة تمتلك الجزء الأكبر من "الأراضي الميري"، فقد تركزت مساحات واسعة منها في أيدي ملاّكين غائبين، وضعوا أيديهم عليها عبر الالتزام، أو الشراء بالمزاد العلني من الدولة التي صادرتها لعجز الفلاحين عن دفع الضرائب المستحقة عليها. وتفيد المصادر أن ما باعه الفلاحون في الفترة 1901-1914 لايتجاوز4،3% من مجموع ما اشترته الحركة الصهيونية؛ وتمّ شراء الباقي من الدولة، أومن الملاكين الكبار الغائبين. وبالعودة إلى الوثائق، والتي لا يوردها الكاتب في مقالته، مع أنه يمر على ذكرها مرورا، يتضح أن غالبية أولئك الملاكين كانوا من مقرضي الأموال والتجار في المدن؛ والعدد الأكبر منهم يعيش خارج فلسطين. وبالنسبة إلى هؤلاء كانت الأرض بمثابة سلعة، ولما أحسوا أن أراضي السلطنة معرضة للتقسيم، وبالتالي، ربما انفصالهم عن أملاكهم، سارعوا إلى بيعها للتخلص منها. وكانت الصهيونية بالمرصاد، فاشترت منهم تلك الممتلكات التي حصلوا عليها بأساليب بعيدة عن الأعراف التي كانت سارية في المنطقة، خاصة في فلسطين.

وعلى الرغم من بروز المسألة الصهيونية ،وبالتالي، "القضية الفلسطينية"؛ في "الحركة القومية العربية"، وخصوصاً "الوطنية الفلسطينية"، قبل الحرب العالمية الأولى، فإن الأولوية في النشاط السياسي العربي كانت للعلاقة مع الدولة العثمانية، من جهة، ومع الدول الأوروبية ودورها في دعم الاستقلال العربي، من جهة أخرى. في المقابل، ففي الفترة إياها، حسم الأمر داخل الحركة الصهيونية على اعتماد فلسطين قاعدة للمشروع الاستيطاني الصهيوني، ورفض الأمكنة البديلة. وبناء عليه، شكلت هذه المرحلة، وعلى هذا الأساس، بداية تمايز مضمون "الحركة الوطنية الفلسطينية" عن "الحركة الأم" (القومية العربية)، لما تميّز به ذلك المضمون من تركيز على الصهيونية. وقد وجهت صحيفتا "الكرمل" و "فلسطين" نقداً شديداً للمؤتمر العربي الأول (1913) في باريس، لأنه ركز مداولاته على مسألة الاستقلال الذاتي، ولم يول اهتماماً كافياً للمسألة الصهيونية. هذا، على الرغم من وحدة الموقف لدى القوى السياسية الفلسطينية من الصهيونية، وتعاطف القوى القومية العربية معها. ولكن القضية الملحّة في المؤتمر كانت تتمحور حول مصير العلاقة بين الأمة العربية والدولة العثمانية، الأمر الذي حسمته الحرب العالمية الأولى. وعلى أية حال، فقد بلغت مساحة الأراضي التي اشتراها "الصندوق القومي اليهودي" عشية الحرب العالمية الأولى نحو420،700 دونم، أقيم عليها 47 مستوطنة في مناطق متعددة من فلسطين. وفي الواقع، فإن جميع المحاولات للتوصل إلى "اتفاق " بين الحركة الصهيونية، من جهة، والتيارات المحلية المختلفة – العثمانية، اللامركزية، القومية العربية، والوطنية الفلسطينية – عموماً، قد باءت بالفشل، كما يؤكد كاتب المقال.

ومنذ أن تسربت المعلومات عن "وعد بلفور"، بدأ الفلسطينيون يعبرون عن رفضهم له، وعن مخاوفهم من نتائجه بصور متعددة. وتشكلت في البلاد لجان إسلاميةــ مسيحية، انطلاقاً من الوعي الذي ساد في حينه، من أن المشروع الصهيوني ينطلق من أرضية يهودية. ومن هنا، رأى رجال هذه اللجان في بريطانياً طرفاً ثالثاً، تجري مناشدته للتخلي عن دعم هذا المشروع، من أجل الحفاظ على الصداقة مع العرب. وكانت هذه اللجان خطوة أولى نحو التنظيم السياسي، من جهة، وتعميق الوعي بطبيعة المشروع الصهيوني، من جهة أخرى، الأمر الذي أدّى إلى وقوع صدامات عنيفة مع المستوطنين، على الرغم من وجود الحكم العسكري البريطاني. وقد تشكلت تلك اللجان من الوجهاء والأعيان والملاكين ورجال الدين والمثقفين ورجال الأعمال. وإذ ظلت ترفع شعار الاستقلال والوحدة العربية، فإنها لم تدع إلى مقاومة الاحتلال البريطاني، وإنما ناشدته الوقوف في وجه الأهداف الصهيونية، ودعت حكومة لندن للوفاء بتعهداتها للعرب، عشية اندلاع الحرب وفي أثنائها. وفي ظل الاحتلال، وبينما راحت الحركة الصهيونية تبني "الوطن القومي اليهودي"، والحركة القومية العربية، في دمشق، تركز اهتمامها على الاحتلال الجديد، بهدف تحقيق الاستقلال، راحت الحركة الوطنية الفلسطينية مع الوقت تركز اهتمامها على درء الأخطار الصهيونية، التي تهدد مستقبل البلد وسكانه. ومع ذلك ظلت العلاقات بين الحركة الوطنية الفلسطينية، والحركة الأم – القومية العربية قائمة، وإن لم تكن على تواصل يومي كما كانت الحال قبل الحرب العالمية الأولى.

ورداً على "مؤتمر يافا" الصهيوني، الذي دعت إليه "لجنة المندوبين الصهيونيين" (1918)، وخرج بقرارات بعيدة الأثر بالنسبة إلى "تهويد فلسطين" الفوري، عقد "المؤتمر العربي الفلسطيني الأول" في القدس (27/1-1/2/1919). وقد تنادى المؤتمرون للنظر في المطالب الفلسطينية من "مؤتمر باريس للسلام"، على قاعدة تقرير المصير، وتحديد الموقف من المشروع الصهيوني، بعد أن راحت عناصره وغاياته تتكشف بوتيرة متسارعة، نتيجة للنشاط الذي تمارسه لجنة المندوبين برئاسة حاييم وايزمن. وفي هذه الفترة، كانت بلاد الشام كلها تحت الحكم العسكري البريطاني. وكانت قد تشكلت في دمشق حكومة عربية بقيادة الأمير فيصل (30/9/1919) وكانت الحركة الوطنية الفلسطينية على صلة وثيقة بالحركة القومية العربية في دمشق. إلا أنه إزاء النشاط الصهيوني المتزايد في فلسطين وانكشاف "وعد بلفور"، وما نجم عنه، راح الهمّ الفلسطيني يتركز حول المشروع الصهيوني. في المقابل، ومع تكشّف عملية الخداع التي مارسها الحلفاء على الحركة القومية العربية، وافتضاح مؤامراتهم على تقسيم الوطن العربي إلى مناطق نفوذ لهم، تمحور الهمّ العربي ( الدمشقي) على الاستقلال. ومع اشتداد الهجمة الامبريالية - الصهيونية، وتقسيم البلاد العربية، أصبحت الحركة العربية بمجملها في موقع الدفاع عن النفس، وتركزت أولوية كل جانب فيها على مشكلاته المباشرة. وراحت الاتصالات بين الأجزاء تضعف، وبالتالي، يأخذ النشاط طابعاً إقليمياً، شكلاً ومضموناً. وإذ تمحور النشاط الفلسطيني حول الخطر الصهيوني، فإن همّ دمشق تركز على الاستقلال في مواجهة الخطر الفرنسي الداهم.

وفي الواقع، فإنه إزاء الوضع الذي تشكل بعد الحرب العالمية الأولى، وعلى أرضية المشاريع المطروحة بالنسبة إلى الوطن العربي، لم يعد الاستقلال على رأس هموم الحركة الوطنية الفلسطينية بقدر ما أصبح همّها إنقاذ البلد من براثن الصهيونية. ولاغرو أن هذه الحركة كانت معنية بتوثيق الارتباط بالحركة الأم، لكن الواقع فرض نفسه بقوة. وإزاء التطورات المتسارعة، اجتمع في "النادي العربي" بدمشق حشد من الشخصيات الفلسطينية، وقرر تشكيل "الجمعية العربية الفلسطينية" (31/5/1920). وانتخبت للجمعية لجنة إدارية من: الحاج أمين الحسيني،عارف العارف، رفيق التميمي، عزة دروزة، معين الماضي،إبراهيم عبد الهادي وسليم عبد الرحمن. ودعت اللجنة إلى توحيد الجمعيات الفلسطينية في إطار للعمل المشترك. واحتجت بشدة على قرار "مؤتمر سان ريمو"، القاضي بانتداب بريطانيا على فلسطين. كما قامت الجمعية بإذاعة بيان عام إلى مسلمي الهند والعالم أجمع، لفتت فيه أنظارهم إلى الخطر الصهيوني. وشهدت سنة1920 انعطافاً في الحركة العربية بصورة عامة، والحركة الوطنية الفلسطينية بصورة خاصة، وكان العامل الخارجي هو الأكثر تأثيراً في فرض المسارات اللاحقة.

وبعد إقرار ميثاق "عصبة الأمم " (28/4/1919)، الذي تضمن نظام الانتداب، وتوقيع "معاهدة فرساي" (28/6/1919)، حملت سنة1920 سلسلة أحداث كان لها أثر مباشر على التطورات في فلسطين. فقد بادر "المؤتمر السوري العام" (8/3/1920)، وبعد افتضاح مخططات بريطانيا وفرنسا إزاء المنطقة، إلى إعلان استقلال سوريا بحدودها الطبيعية، لتشمل فلسطين، وبالتالي، رفض المشروع الصهيوني؛ ونودي بفيصل ملكاً عليها. وسارت تظاهرات في فلسطين تأييداً للإعلان. ولذلك، سارعت الدول الأوروبية إلى توقيع "معاهدة سيفر" (20/4/1920)، وبعدها معاهدة "سان ريمو" (25/4/1920)، اللتين فرضتا الانتداب على بلاد الشام. وتحركت فرنسا لاحتلال سوريا، وبعد "معركة ميسلون" (24/7/1920)، التي قتل فيها وزير الدفاع، يوسف العظمة، سقطت الحكومة العربية في دمشق؛ وغادرها فيصل. في المقابل، أوفدت بريطانيا هربرت سامويل مندوباً سامياً على فلسطين ليحلّ محل الإدارة العسكرية هناك (تموز/يوليو1920). ونتيجة لهذه المستجدات –انهيار الحكومة العربية في دمشق، وترسيم الحدود بين الانتدابين ــ الفرنسي والبريطاني ــ في بلاد الشام، عزلت الحركة الوطنية الفلسطينية عملياً عن الحركة القومية الأم في سوريا. فبدأت مرحلة جديدة من العمل الوطني الفلسطيني، سِمته العامة قُطرية، حيث تمحور حول الانتداب البريطاني والمشروع الصهيوني. وبذلك، حققت الصهيونية، ومنذ البداية، أحد أهم أهداف مشروعها: تفتيت حركة التحرر العربية، وتحديد مساراتها السياسية.

وفي أجواء من الاحتقان الشعبي، تحول موكب الاحتفال بموسم النبي موسى في القدس، والذي تواكب مع عيد الفصح لدى المسيحيين واليهود (4/4/1920)، إلى تظاهرة وطنية للإعراب عن السخط والاحتجاج ضد الصهيونية والإدارة البريطانية. وخطب في الحشد الكبير رئيس بلدية القدس موسى كاظم الحسيني، وكذلك الحاج أمين الحسيني وعارف العارف، محرّضين على السياسة البريطانية الرامية إلى تهويد فلسطين. وتوترت الأوضاع بعد تحرّش العصابات الصهيونية التي نظمها زئيف جابوتنسكي بالمتظاهرين، واندلع الاشتباك بعد أن أطلق أفراد تلك العصابات النار عليهم. وتدخلت القوات البريطانية لقمع الاشتباكات، فاصطدمت بمقاومة عنيفة، استمرت بشكل متفرق عدة أيام، أسفرت عن مقتل 5 يهود و4عرب وجرح 211 يهودياً و23 عربياً، و7 جنود بريطانيين. وتشكلت لجنة تحقيق (لجنة بالين)، فأكدت في تقريرها أن الاضطرابات كانت نتيجة حالة التوتر التي تسود الجماهير العربية، جراء سياسة تهويد فلسطين التي تتبعها سلطات الاحتلال البريطاني. وكان ذلك مقدمة لأحداث شبيهة، أشد عنفاً، لاحقاً.

وبعد انسحاب القوات البريطانية من سوريا الشمالية، وقبل انتشار القوات الفرنسية في جميع أنحائها (1919)، قامت مجموعات عربية مسلحة بمهاجمة المستعمرات اليهودية في منطقتي طبريا والجليل الأعلى. وتصاعدت هذه الهجمات على المستعمرات الأربع التي أقيمت في الطرف الشمالي من سهل الحولة ( أصبع الجليل)،وهي: المطلّة (متولا)، كفارغلعادي، تل حاي، وحمّارة (المحمرّة). وتولى قيادة الدفاع عنها المستوطن الروسي الأصل، جوزيف ترومبلدور. ولكن هذا الدفاع لم يصمد أمام الهجمات العربية المتوالية، فراحت المستعمرات تسقط الواحدة تلو الأخرى. وبداية أجليت حمّارة (1/1/1920)، وأحرقت. ثم تبعتها المطلّة (منتصف كانون الثاني/يناير1920) فعاد إليها أصحابها السابقين من السكان المحليين. ووقعت معركة تل حاي الحاسمة في ( آذار/ مارس/ 1920 )، إذ قتل فيها ترومبلدور، وهرب بقية المدافعين عن كفار غلعادي (3/3/1920)، ولجأ هؤلاء إلى "الطيبة" (جنوب لبنان)، حيث جمعهم الإقطاعي كامل بك الأسعد، ونقلهم إلى صيدا، ومنها إلى حيفا. وبذلك، ولفترة وجيزة، جرت تصفية الاستيطان في شمالي سهل الحولة، لأنه وقع خارج منطقة الحماية البريطانية الفعلية.

لكن هذه المقاومة لم تزحزح بريطانيا عن موقفها من وعد بلفور. وعندما حذّرت الإدارة العسكرية في فلسطين من مغبة الإيغال في دعم المشروع الصهيوني، لما قد يجره ذلك من عنف دموي، عمدت حكومة لندن إلى استبدالها بأخرى مدنية، برئاسة هربرت صامويل، كمندوب سام ٍ، وهو المعروف بصهيونيته، حتى عندما كان عضواً في الحكومة سنة1916. وفي كتاب التعيين، جعلت تلك الحكومة وعد بلفور عنصراً أساسياً في مهمات الإدارة الجديدة. وصدرت أحكام بحق موسى كاظم الحسيني، فنُحّي عن رئاسة بلدية القدس، وحل محله راغب النشاشيبي، الذي فتح بذلك ثغرة في الصف الفلسطيني. وكذلك حكم بالسجن على كل من الحاج أمين الحسيني وعارف العارف، ففرا إلى شرق الأردن، حيث كان مشايخ القبائل يدعمون النضال الفلسطيني. وحكم بالسجن على زئيف جابوتنسكي. وعلى الرغم من أصوات الاعتراض في بريطانيا، وحتى اليهودية منها، كما في الولايات المتحدة الأميركية، ضد تعيين صامويل مندوباً سامياً ،أصرت حكـومة لندن على ذلك. فكان هذا التعيين بداية مرحلة جديدة في الصراع العربي – الصهيوني تحت الانتداب البريطاني، قادت إلى " الثورة العربية الكبرى" في فلسطين (1936-1939).


الياس شوفاني

قبل الدخول في موضوع هذا البحث، يجدر بنا تقديم ملاحظة مدخل واحدة. فمن ناحية ردّة الفعل العربية المتوقعة إزاء حضورهم ونشاطاتهم ،عانى المستوطنون الجدد، ومنذ خطواتهم الأولى، من نقيصة مزدوجة ــ كونهم أوروبيون ويهود في آن معاً. حيث، لو قلنا ذلك بشكل عام، وبلغة التقليل، فإن موقف العرب في القرن التاسع عشر تجاه الأوروبيين واليهود لم يكن متعاطفاً. لم يحبّوا الأوروبيين ولم يثقوا بهم لكونهم غرباء. والكثيرون منهم كانوا مواطني دول كبرى لها أطماع إقليمية في أجزاء كبيرة من السلطنة العثمانية المتهالكة. والأشد خطورة ــ "الامتيازات" التي منحتهم أفضليات على السكان المحليين في مجالات واسعة من الحياة اليومية، مثل التجارة، الضرائب، الحماية، والمحاكم القنصلية. وبالنسبة إلى اليهود، الذين نظر العرب إليهم باحتقار، وحتى مادون ذلك، فإنه سواء الدين الإسلامي أو المسيحية الشرقية علّما أتباعهما وعوّداهم سلوك سبيل كهذا – الإسلام بسبب الموقع المتدني الذي حدده لليهود والنصارى على حدّ سواء، بينما المسيحية الشرقية لأسباب تتعلق بالأفكار القديمة المتجذرة تجاه اليهود، والتي عبرت عن نفسها من حين لآخر بظواهر متطرفة، مثل فريات الدم(1) ولاشك في أن هذه المقاربات السلبية أثرت على ردود الفعل العربية تجاه الصهيونية في فلسطين قبل 1914.

ردود فعل مبكرة، 1882- 1908


عرف عرب فلسطين "حركة أحباء صهيون"(2) منذ بدايتها. وفوق ذلك، عرفوا منذ البداية أيضاً معارضة الحكومة العثمانية للمستوطنين اليهود المرتقبين، حيث في ذات اليوم الذي أبحر أعضاء "حركة بيلو"(3) من استنبول إلى يافا، أرسل "الباب العالي" برقية إلى حاكم القدس، يحظر فيها نزول اليهود الروس، والرومانيين، والبلغار، على شواطئ يافا وحيفا. وكان العرب يعملون في جميع مراتب الإدارة في سنجق القدس، وعليه، فمن المفترض أن يكونوا على علم بهذه التعليمات. وكذلك الأمر بالنسبة إلى موظفي الميناء ورجال الشرطة المحليين، والذين كانوا أيضاً من العرب الذين وقعت على عاتقهم مسؤولية تنفيذ هذه التعليمات.
وفوق ذلك، وفي أعقاب التقسيم الإداري لفلسطين، والذي بحسبه ضمّ شمال البلد إلى ولاية بيروت، وشرق الأردن إلى ولاية دمشق، فإنه سريعاً ما سمع العرب خارج فلسطين أيضاً عن "أحباء صهيون". فالتعليمات التي أرسلت إلى حاكم القدس، والمراسلات المتشعبة التي حصلت في أعقابها، والتي تضمنت في نهاية المطاف (1884) تحْديدَ إقامة اليهود الأجانب لمدة شهر واحد من أجل "الحج", وصلت كاملة أيضا إلى السلطات في بيروت ودمشق. ولم يكن العرب في المناصب الحكومية في تلك المدن وحدهم من علموا بالأمر، خاصة وأن التيار المكثف من اليهود والأغراب، ممن مرّوا بميناء بيروت في طريقهم إلى فلسطين، لم يغب عن عيون العرب الآخرين. وبالفعل، فإن قارئاً لمجلة "المقتطف" (نشرة هامة كانت تصدر في بيروت) لم يجد ضيراً في السؤال: "هل أُسمِْيَ اليهود في أيام المسيح وقبله سوريين"؟ وكان جواب المحرّر المسيحي: "نعم، لقد أسماهم هيرودوتس كذلك".
وبالطبع، كان هناك فرق واضح في ردّات الفعل الصادرة من الأمكنة المختلفة، ويجب التنويه به. ففي بيروت مرّ اليهود مروراً فحسب، أما في فلسطين فقد استوطنوا بشكل دائم، على الرغم من القيود والحظر من جانب الحكم العثماني. وعلى الرغم من أن غالبيتهم جاءت للإقامة في القدس ويافا، فإن ردّة فعل الفلاحين في محيط المستوطنات اليهودية الجديدة – هي التي استُشْعرِت أولاً.

ومن نواح معينة، لم يكن في المستوطنين اليهود ما يثير المقاومة في قلوب جيرانهم من القرويين العرب ــ ففي لباسهم ولسانهم وسلوكهم، كان أولئك المستوطنون يختلفون جداً عن أي يهودي قد يكون الفلاحون عرفوه أبداً. وَذُكِر أن مواظبتهم على العمل أثارت الدهشة، وآلات عملهم الجديدة والحديثة لفتت الاهتمام؛ وأساليبهم الغريبة (أو،أحياناً انعدام خبرتهم) كان من شأنها أن تشكل مادة للتسلية ــ كما، على سبيل المثال ــ عندما حاول المستوطنون في ريشون لتسيون استعمال الجمال لجرّ العربات كالأحصنة.

إلا أنه كانت هناك جوانب أخرى من سلوك اليهود الجدد أثارت الفلاحين، وتسببت بالاحتكاك. لقد مالوا إلى أعمال من شأنها المس بالكرامة، وهي ناجمة عن جهلهم باللغة العربية وسبل حياة العرب، وأحياناً لم يحافظوا على عادات المكان ولم يحترموها. فقد كان العرف مثلاً، أن لكل واحد نصيب من المرعى الطبيعي، الأمر الذي يراه الفلاحون "هبة الله". واليهود الذين لم يعرفوا هذا النهج القديم ولم يكن لديهم علم به، والذين خشوا على محصولهم الأول واليسير، رأوا بدخول الرعاة العرب مع قطعانهم اعتداءً على حدود أراضيهم، واستخدموا القوة لطردهم. وكان مجرد قيام المستوطنات إغراء للقرويين بالسرقة، وهنا أيضاً كان المستوطنون جاهزين لكبح هؤلاء بالقوة.

ولأن مشاجرات من هذا النوع كانت شائعة في البلد (حتى في أوساط السكان المحليين)، فقد كانت لها كما يبدو آثار ضئيلة على المدى الزمني. ومع أنه وقعت أيضاً أحداث أكثر خطورة، ودارت في العادة على مشاكل الأرض، التي كانت معقدة في فلسطين تحت الحكم العثماني. وقد وقع الاشتباك الكبير الأول من هذا النمط في 29 آذار/ مارس1886، عندما هاجم 50ــ60 فلاحاً من قرية "اليهودية " مستعمرة "بيتح تكفا" (4) ( بعد أن كانت غالبية الرجال من المستوطنين خرجت إلى يافا بسبب الأمطار التي حالت دون العمل في الحقول). وتسبّب الفلاحون بأضرار كبيرة، وأصابوا خمسة يهود ( بينهم امرأة، ماتت لاحقاً جراء جراحها). وساقوا كل البقر والبغال من المستوطنة إلى المحكمة في يافا، بدعوى وجودها على أرضهم، وطالبوا بتعويضات.
مصادر يهودية أوضحت أن السبب الظاهر الذي أدى إلى هذه الحادثة كان في سلسلة من الخلافات المتعلقة بمسألة حقوق العرب بالرعي من جهة، وفي شأن حق اليهود بالمرور إلى أراضي بيتح تكفا البعيدة من جهة أخرى.
لكن الأسباب الخفيّة، الأكثر عمقاً، كانت تتعلق بملكية أراضي المستوطنة، والتي كان الكثير منها في السابق يخصّ قرية اليهودية، وقد أخذت منها في ظروف مؤلمة ومثيرة للغضب ــ بعضها على أيدي مقرضين عرب من يافا بالفائدة، والبعض الآخر على يد السلطات بسبب عدم دفع الضرائب. وربما كان استملاك هذه الأراضي من قبل المستوطنين عملاً غير موزون تماماً، إذ لو كانت تجربتهم أغنى لعرفوا أنه في حالات كهذه وقعت احتكاكات بشكل دائم تقريباً، إن لم يكن أكثر من ذلك، مع المالكين السابقين.
وفي بيتح تكفا لم تثر الخلافات فوراً مع بداية الاستيطان في الأرض، خاصة وأنه كانت لدى المستوطنين في البداية مساحات كبيرة من الأراضي، أكثر مما يستطيعون فلاحتها، فضمّنوا بعضها لفلاحي اليهودية. إلا أنه في عام1884، بدأ المستوطنون يفلحون مساحات أكثر اتساعاً، وعندها وقعت الصدامات الأولى. وراح الوضع يستفحل خلال عام ونصف، لأسباب منها غياب مدير في المستوطنة؛ والتوتر مع اليهودية تصاعد إلى أن أدى للصدام في آذار/مارس1886.

تكاد لم تقم مستوطنة يهودية دون مشاكل مع جيرانها العرب بسبب مسألة الأرض. وعلى سبيل المثال، اشترى رؤوبين ليرر، حتى وهو في روسيا، ألفي دونم الأولى لمستوطنة "نيس تسيونا" (تأسست في 1883)، وحال وصوله إلى البلاد خسر ربع المساحة في محاكمة قضائية مع القرويين. وعلى مدى سنين، أزعج فلاحو "قطرة" المستوطنة المجاورة "غديرا" ( تأسست في 1884)، على أمل استعادة قطعة أرض فقدوها لصالح مقرض عربي بالفائدة. وفي عام 1892، غزا حوالي 100قروي من "زرنوقة" مستوطنة "رحوفوت" (تأسست في 1890)، في ظروف شبيهة بالهجوم على بيتح تكفا عام 1886. وحتى عام 1902 لم تكن "الخضيرة" استطاعت حلّ مسألة حدودها ( تأسست في1891).

وعلى أي حال، فإنه عندما اقتنع الفلاحون بعدم إمكان إزاحة المستوطنة اليهودية من مكانها، وتغلبوا على الحقد الذي عشش في قلوبهم منذ بداية الاستيطان، تم التوصل إلى تسوية ما من التعايش. والعلاقات اليومية كانت على العموم وثيقة وجيدة، خاصة لأن غالبية المستوطنات القديمة اشترت منتجات عربية، وشغّلت عرباً بمعدل خمسة إلى عشرة أضعاف اليهود، كما استأجرت حراساً عرباً.

وفي عام 1899، زار ممثل "بيكا" ( الجمعية اليهودية للاستعمار في فلسطين، التي أسسها البارون هيرش) المستوطنات المدعومة منذ 1883 على يد البارون إدموند روتشيلد من باريس. ومن تقريره وتقارير موظفي " بيكا " من بعده، والذين تولوا المسؤولية عن تلك المستوطنات، يتضح بدون أدنى شك أن الفلاحين المجاورين استكانوا لوجود المستوطنات القديمة، خاصة وأنه – بمدى ما يمكن إصدار الحكم – لم يكن هناك فرق أساسي، أو أن الفرق كان ضئيلاً، من زاوية نظر الفلاح، بين المستوطنات التي أقامتها "الهجرة الثانية"(5) وتلك القديمة. وإذا حاولنا تلخيص كل تلك الفترة حتى سنة1908(التي وقعت فيها ثورة "تركيا الفتاة"، والتي كانت بالنسبة إلى موضوعنا بمثابة خط مفرق الماء) فيما يتعلق بسلوك القرويين إزاء المستوطنات، يمكن ملاحظة وجود ما يشبه نمط تطور حقد بدائي، وبعده عداء مكبوت أو مكشوف، وبمرور الزمن – التسليم بوجود المستوطنات كحقيقة قائمة، وأخيراً علاقات ودية بشكل عام. وهذا المسار واضح في شمال البلد، حيث مالت التوترات الأولية لأن تكون عنيفة بسبب هشاشة الأمن العام، نظراً لوجود سكان عرب من طبيعة مختلطة أكثر، وبسبب نقص الأراضي الصالحة للزراعة.

وفي المدن كان الوضع مختلفاً حيث مرت سنوات قبل أن يجرى التعبير عن المشاعر بشكل واضح. وخلال العقد 1881-1891 ازداد عدد السكان اليهود بسرعة في القدس، كما في يافا. وحتى لو كان بالإمكان الاعتماد على المعلومات الإحصائية من تلك الفترة، فإن التنامي في القدس قدّر بـ40% وحتى 100% وفي بداية التسعينات وصل عدد اليهود في المدينة إلى 25000 نسمة.

والتزايد النسبي في يافا كمدينة ميناء كان أعلى أكثر، حيث كان عدد اليهود هناك في بداية ذلك العقد منخفضاً جداً، وفي سنة 1893 وصل إلى حوالي 2500، ولا يمكن لتنام سريع كهذا ألآ يترك أثراً. وفي عام 1891 أشار أحاد (6) هعام الى أن عدداً من العرب أخذوا يقلقون جراء بروز اليهود واستعدادهم لاستملاك الأراضي بأي ثمن تقريباً، إلا أن التأثير الرئيسي لهذا التدفق السكاني كان على التجار المحليين. وفي العام نفسه، 1891، عندما وصل إلى القدس الخبر بأنه يتوقع وصول موجة ثانية من الهجرة الأولى، أشير إلى الاحتجاج الرسمي العربي الأول ضد استيطان اليهود الحديث في برقية من القدس إلى استنبول، وفيها مطالبة الصدر الأعظم بمنع دخول اليهود الروس إلى فلسطين وامتلاكهم الأراضي فيها.

مراقبون معاصرون لا يتفقون في تقاريرهم بالنسبة إلى الموقّعين على البرقية. القنصل البريطاني في القدس كتب في تقريره أن المرسلين "زعماء مسلمون". وكذلك نائب القنصل الألماني في يافا ( الذي كان عربياً محلياً) أشار إلى أن مسلمين محليين قلقوا بسبب العدد المتزايد لليهود. في المقابل، كتبت صحيفة " هأور" ( النور) في القدس أن مسلمين ومسيحيين معاً أرسلوا البرقية لكنها أشارت إلى أن بعض الأعيان المسلمين رفضوا التوقيع عليها، لأنهم كانوا يعلمون الفائدة التي جلبها اليهود إلى البلد. إلا أنه لا خلاف حول سبب البرقية: تجار وحرفيون محليون خافوا من المنافسة الاقتصادية، والتي كانت في نظرهم ستحصل إذا استمرت الهجرة اليهودية.

ثلاث نقاط مثيرة للاهتمام تبرز من الاحتجاج العربي الأول ضد الاستيطان اليهودي في فلسطين: أ) كان المسلمون على صلة به، وربما كانوا المبادرين إليه حتى؛ ب) كانت مخاوف الموقعين على خلفية اقتصادية؛ ج) وهم طرحوا مطلبين أساسيين، لم يتخلّ العرب عنهما لاحقاً – منع هجرة اليهود إلى فلسطين، ووقف استملاك الأراضي من قبلهم.

وقد وصلت إلى العثمانيين أيضاً المعلومة التي بحسبها توجه عدد كبير جدّاً من اليهود الروس للحصول على تصاريح دخول إلى السلطنة، و"الباب العالي"، الذي عارض بشدة الاستيطان اليهودي في فلسطين، استجاب فعلاً للمطالب التي وردت في البرقية المقدسية. وفي تموز /يوليو 1891، جرت المصادقة مجدداً على القيود القائمة بالنسبة لليهود الأجانب الراغبين في الدخول إلى فلسطين. وكما ورد ذكره، طبقت القيود للمرة الأولى لمدة عشر سنوات قبل ذلك، بهدف منع هجرة اليهود، وعملياً بقيت نافذة مع التعديلات التي أدخلت عليها في عام 1882، و1884، و1887. وفي خريف 1891 حاول " الباب العالي " دون نجاح، إغلاق السلطنة كلها في وجه الأجانب . وعلاوة على ذلك، ففي تشرين الثاني/نوفمبر1892، منع بيع "أراضي الميري" (أراضي الدولة التي كانت صلاحية نقلها للغير في يد الدولة فقط) لجميع اليهود، سواء كانوا أجانب أم عثمانيين، في سنجق القدس.

وتحت ضغط الدول الكبرى، التي عملت على تنفيذ الحقوق الخارجة عن حكم الدولة المحلية بالنسبة إلى رعاياها واحترامها، خففت الحكومة العثمانية بالتدريج من صرامة تلك القيود، إلا أنها جددتها في عام 1897و1898، في أعقاب ظهور الحركة الصهيونية والحماس الذي أثارته في أوساط الاستيطان الجديد ويهود أوروبا الشرقية. واستمر فرض القيود في إثارة الاهتمام، ليس فقط في أوساط الموظفين العرب في فلسطين وخارجها، وإنما أيضاً في أوساط الأعيان العرب المشاركين في اللجان المحلية التي أقيمت في عام 1897، بهدف تنفيذ القيود. واللجنة المسؤولة عن مراقبة قيود الدخول قدمت في أيلول /سبتمبر 1899 تقريراً، وفيه توصية للسلطات بتوظيف المال والطاقة البشرية لجعلها أكثر نجاعة، أو في المقابل يسمح لليهود الأجانب بالإقامة في البلد، شريطة أن يصيروا رعايا عثمانيين.

وعندما جرى بحث هذا التقرير في مجلس السنجق الإداري، اقترح مفتي القدس (طاهر بك الحسيني، والد الحاج أمين الحسيني) الذي كان رئيس لجنة أخرى تراقب نشاط بيع الأراضي لليهود في السنجق، اتخاذ إجراءات ترهيب ضد المهاجرين الجدد قبل طرد اليهود الأجانب الذين استوطنوا في السنجق منذ 1891 فما بعد. واعترض الحاكم على هذا الاقتراح المتطرف، ودعم اقتراح السماح لليهود بالاستيطان في القضاء شرط أن يصبحوا عثمانيين. وغالبية الأعيان المحليين الذين كانوا أعضاء المجلس الإداري قبلوا، على ما يبدو، تقرير اللجنة بالكامل، حيث أن خلاصة التقرير أرسلت بدون ملاحظات إلى استنبول في نيسان / ابريل 1900.

بموازاة ذلك، جرت مراسلة بين السلطات المحلية في القدس وبيروت، وبين الحكم المركزي بشأن تناقضات وثغرات معينة في القيود. وفي أعقاب تلك الضغوط وغيرها، والتي مورست في استنبول بالذات، جرى تجميع تلك الأنظمة والقيود في أواخر سنة 1900، بالطريقة التي نظمت مكانة اليهود الأجانب الذين أقاموا في البلد بصورة غير شرعية، والتي سمحت بشراء الأراضي والبناء عليها أسوة بكل رعية عثمانية. ويمكن ل "الحجاج اليهود" أي: المهاجرين الجدد، الحصول على إذن دخول لثلاثة أشهر، بعد إيداع جواز سفرهم لدى وصولهم، واستلام ما أسمي " البطاقة الحمراء" بدلاً منه.

ويبدو أن الموظفين العرب في القدس وبيروت لم يكونوا راضين عن تلك الأنظمة الجديدة، حيث رأوا بها انجازاً لليهود . لذلك، وفي بداية سنة1901، راح موظفو القدس إياهم يجمعون التواقيع للاحتجاج أمام "الباب العالي"، بينما أخّروا في بيروت نشر تفاصيل الأنظمة، ربما على أمل أن يجري تغييرها.
وعلامات عدم الرضا لم تظهر فقط في أوساط شاغلي المناصب الحكومية. فألبرت عنتابي، ممثل "بيكا" في القدس والذي كانت لديه معلومات أكيدة، لاحظ في عام 1899 أن الصيغة التي جرى تبنيها في المؤتمر الصهيوني "أثرت بسرعة على العلاقات بين العرب والمهاجرين الجدد في المدن الفلسطينية" وبعد مرور بضعة أشهر كتب عنتابي ( الذي تحفّظ ذاتياً من الصهيونية)، أن الصهيونيين حوّلوا المسلمين إلى معادين لإنجازات اليهود في فلسطين.

وفي سنة 1901 سأله قرويون عرب، ممن لم يعرفوا حسب قوله القراءة والكتابة: "هل حقيقة أن اليهود يريدون انتزاع هذا البلد لأنفسهم؟" وبعد عامين قال شاب مسلم (وبحسب المصدر – ليس متطرفاً بوجه خاص ) ليهود القدس: "سنسفك قطرة دمنا الأخيرة على ألاّ نرى مسجد قبة الصخرة يسقط في أيدي غير المسلمين".
ربما كانت الأهمية الأكبر لردود فعل ممثلي ثلاث مجموعات عربية هامة – رجل النخبة السياسية في القدس، ممثل المثقفين العرب المسيحيين، والمفكر الإسلامي الأعلى مرتبة.

ففي عام 1899، وهو ابن 70 سنة، اضطر " واجبُ الضمير المقدس " يوسف ضياء باشا الخالدي إرسال كتاب بالفرنسية منمق بدقة إلى تسادوك كاهان، الحاخام الأول في فرنسا وصديق هيرتسل. ويوسف الخالدي، أحد البارزين في عائلته، عمل لسنوات عديدة في الخدمة العامة. وكتابه للحاخام كاهان وثيقة فريدة من نوعها، وإلى حدّ ما, نبوئية. ونظرياً، كتب يوسف الخالدي، أن الفكرة الصهيونية "طبيعية، لائقة، وصادقة تماماً" "من يستطيع أن يطعن في حق اليهود بفلسطين؟ فو الله إن هذا بلدكم في المفهوم التاريخي" إلا أنه لابد من الأخذ في الاعتبار "القوة الصادمة" للواقع: فلسطين هي جزء لا يتجزأ من السلطنة العثمانية، وهي مأهولة بغير اليهود. وسأل الخالدي: ما هي " القدرات المادية" المتوفرة لدى اليهود لامتلاك الأماكن المقدسة الغالية على 390 مليون مسيحي، و300 مليون مسلم؟". وعبر عن خشيته أنه على الرغم من الموارد المالية اليهودية، لن تكون الأمكنة المقدسة لهم بدون استخدام المدافع والبوارج الحربية. وبعد: ففي فلسطين هناك "غلاة" مسيحيون، خاصة في أوساط العرب من أبناء الطوائف الكاثوليكية والأرثوذوكسية، المعادية للتقدم اليهودي الحالي، "وهم لا يضيعون فرصة لإثارة الكراهية الإسلامية لليهود". وتنبأ بيقظة حركة شعبية ضد اليهود، لا تستطيع الحكومة العثمانية قمعها، رغم إرادتها الحسنة جداً. وحتى لو استطاع هيرتسل الحصول على موافقة السلطان لمشروعه، فمن السخف الاعتقاد بأنه سيأتي يوم ويكون الصهيونيون سادة فلسطين.

" من الضروري إذن، ومن أجل راحة اليهود في تركيا أن تتوقف الحركة الصهيونية بالمعنى الجغرافي _ فو الله إن العالم واسع بما فيه الكفاية، وهناك بلاد لا تزال غير مستوطنة حيث ربما يستطيعون أن يكونوا سعداء أكثر هناك، ويصبحون ذات يوم أمة. وهذا لعله يكون الحل الأفضل، الأكثر وعياً لمسألة اليهود. ولكن بالله عليكم دعوا فلسطين تعيش بهدوء".

بعد ستة أشهر على المؤتمر الصهيوني الأول، سأل قارئ في فرانكفورت المحررين النصارى لصحيفة " المقتطف" ( التي انتقلت عام 1884 من بيروت إلى القاهرة) عما تقوله الصحافة العربية عن الصهيونية، وما رأي المحررين فيها؟ فأجابوا، أن الصحافة العربية جاءت على ذكر المؤتمر الصهيوني في إطار تغطيتها لبقية تفاصيل الأخبار، دون إيلاء هذا الموضوع اهتماماً خاصاً. وادّعوا أيضاً، خطأً، أن اليهود الذين استوطنوا في فلسطين انتزعوا لأيديهم الجزء الأكبر من الحِرف والتجارة، وإذا زاد عددهم بعد، فستتركز جميع الأعمال في أيديهم. وعلى الرغم من وجود مجال حيوي في فلسطين لعدد أكبر بمرات عدة من السكان الحاليين، فلن يكون من السهل استقدام جموع غفيرة من اليهود الفقراء إلى البلد لاستملاك الأراضي. والسلطنة العثمانية، ومن أجل مصلحتها هي، لن تسمح للدول الكبرى بالتدخل ومنح حماية للمهاجرين اليهود في إطار الامتيازات، وهذه عقبة كبيرة في طريق الصهيونية. "ولذلك، فنحن نعتقد أن نجاح الصهيونية بعيد المنال".

هذا المقال عدا أهميته الخاصة بحد ذاته، أثار ردّاً قوياً من قبل المفكر الإسلامي البارز، رشيد رضا، ناشر "المنار"، الصحيفة الإسلامية الهامة في القاهرة. ورضا، الذي مسقط رأسه في ولاية بيروت، كان منغمساً جداً في شؤون السلطنة العثمانية. وفي فترة لاحقة لعام 1908 تعاون مع "تركيا الفتاة"، إلا أنه منذ 1912 فما بعد، كان من الممسكين بخيوط "اللامركزية" ( حزب اللامركزية)، الذي شكلته جماعة قومية عربية، وتأسس في القاهرة، وسيأتي ذكره لاحقا ً.
وبعد مضي أسبوعين على ما كتبه محررو"المقتطف" عن الصهيونية، أعاد رضا طباعة مقالهم في المنار مرة ثانية كما ورد في الأصل، وعلق عليه. ومع أنه غضب من الانبعاث القومي لدى اليهود إلا أنه تحمس منه وصب جام غضبه على عدم مبالاة أبناء وطنه (رجال بلادنا).
"انظروا من فضلكم ماذا تفعل الشعوب والقوميات... هل أنتم راضون عما يرد في صحف كل البلاد، من أن فقراء أضعف الشعوب ( أي اليهود)، الذين تطردهم جميع الحكومات من بلادها، هم أصحاب معرفة كبيرة إلى هذا الحد، وفَهْمٍ عظيم إلى هذه الدرجة للثقافة وسبلها التي تمكنهم من الاستيلاء على بلدكم واستيطانه، وقلب أسيادها إلى عمال مأجورين وأغنيائها إلى فقراء".

وآراء رضا وبراعم القومية العربية في أفكاره، جرى تطويرها بصورة أكثر شموليةًً في مقالة طويلة كتبها عن الصهيونية، ونشرها في "المنار" في كانون الثاني /يناير1902، خلال فترة قصيرة بعد المؤتمر الصهيوني الخامس في بازل، تحت عنوان "حياة أمة بعد موتها". وحسب ادعائه، من واجب المسلمين تطوير معرفتهم السياسية والتعلم من اليهود، الذين حافظوا على الرغم من تبعثرهم، على لغتهم وعلى وحدتهم الدينية. وقد تكيف اليهود حتى مع التقنيات الحديثة وراكموا الأموال، والآن يتطلعون، أيضاً إلى "الملك" عبر منظمات قومية كبيرة. وفي مقالاته، شجع رضا قارئيه المسلمين أن يكونوا نقديين إزاء قادتهم، وأن يمتلكوا المال والمهارات الفنية، كي يستطيعوا أن يصبحوا أمة حقيقية "، قائمة على القانون والشريعة الإسلامية.

إن ردود الفعل هذه سواء كانت شعبية أم نخبوية فكرية، والتي من شأنها أن تلقي الضوء على مشكلتنا بصورة انطباعية، معزولة بحيث لا يمكن التعميم بناء عليها، ومع ذلك، هناك أمر واحد واضح ــ المناهضة العربية للصهيونية بحد ذاتها، إن كانت قائمة أبداً، لم يجر التعبير عنها في العقد الأول على تأسيس الحركة الصهيونية. وفيما كان هناك علم بوجود الحركة الصهيونية، وحتى، كما هو الحال لدى رشيد رضا، حيث برز وعي بأهدافها، يبدو أن التعبير عن هذه المسألة في فلسطين بعدم الرضا المتصاعد في أوساط السكان المحليين كان جراء الهجرة اليهودية. وإزاء التعبيرات اللاحقة، يمكن التقدير بأن المنظور العام لدى الزعامة العربية في البلد كان شبيهاً بذلك الذي عكسه التقرير المذكور أعلاه، والذي قدمه أعيان محليون في القدس في 1899ــ أي: تطبيق القيود بفاعلية على هجرة اليهود، أو السماح لهم كأجانب بالاستيطان في سنجق القدس شريطة أن يصبحوا رعايا عثمانيين.

ومع أن مناهضة الصهيونية بحد ذاتها لم تكن تبلورت بعد، فقد كانت هناك إشارات متكررة لتفاقم العلاقات بين العرب واليهود. وفي عام 1902، أشار ألبرت عنتابي أن العداء لليهود يتصاعد، وقد أحسن الإلمام بالظروف المحلية إلى حد لا يمكن إغفال ما أضاف بصريح العبارة: "إن تذمر السكان المحليين نشأ مع ولادة الصهيونية". وفي عام 1905، وقعت في يافا حادثة كانت قليلة الأهمية، لكنها تنطوي على ما يلقي الضوء على الوضع. دافيد لفونتين، مدير فرع "شركة أنجلو ــ فلسطين"(7) في المدينة، أهان بالخطأ أحد أبناء عائلة الحسيني، الذي اعتبر الأمر مساً بكرامته إلى حدّ دفعه إلى تقديم شكوى، باللغة الانكليزية ـ إلى رئيس البنك في لندن. وفي رسالته وصف نفسه، ضمن أمور أخرى، كأحد القلة الذين حاولوا تهدئة المشاعر ضد اليهود في البلدــ حسب تعبيره .

لم تكن المشاعر المناهضة لليهود فقط، نتيجة للوجود اليهودي المتزايد في فلسطين. فاللاسامية الأوروبية تسللت إلى المجتمع العربي، وفي أعقابها زادت المواقف السلبية التقليدية حدة في أوساط المسلمين والمسيحيين. وكانت في فلسطين ومحيطها عدة قنوات، تسربت عبرها الأحكام الأوروبية القديمة ضد اليهود. وفي المقدمة كان هناك المبشرون والكهنة الأجانب، الذين عملوا في أوساط العرب المسيحيين. وقد ألقى كل من سيلفيا حاييم وموشيه بيرلمان اللوم الأشد على الكهنة المعادين لدرايفوس، والذين كان لهم تمثيل قوي جداً بين المبشرين. ولكن الحقيقة هي أن البروتستانت أيضاً نشروا اللاسامية. وعلى سبيل المثال الدكتور كورنيليوس فان دايك، مبشر معروف ومربّ مؤثر في الكلية البروتستانتية" في بيروت، ترجم الى العربية رواية إنجيلية، اسمها " بن حور" اتهمت اليهود بقتل يسوع." الجمعية الفلسطينية الأورثوذكسية" التابعة للقيصرية الروسية، دعمت حوالي 100 مؤسسة أورثوذكسية – يونانية (غالبيتها مدارس) في فلسطين وسوريا؛ وموقف تلك المؤسسات من اليهود كان بمثابة انعكاس لموقف حكم القيصر في روسيا منهم. وعيادات الجمعية الروسية هذه كانت مفتوحة لجميع قطاعات السكان، ماعدا اليهود. عدا ذلك، كانت بنوك وشركات تجارة أجنبية في فلسطين، مثل "كريديه ليونيه" و"البنك الألماني الفلسطيني" لا تتقبل بالرضا دخول اليهود الى تخومها. وحسب رأي القنصل البريطاني في القدس، أسهمت تلك المؤسسات في خلق الصعوبات التي واجهت " الجمعية الأنجلوــ فلسطينية"، عندما افتتحت مكاتبها في يافا 1903. وكذلك، فإن "الهيكليين" (المستوطنين البروتستانت الألمان) الذين كان عددهم حوالي 1000 شخص، لم يتحمسوا لقدوم اليهود. وفي عام 1900 أشار عنتابي إلى إنه "أصبح للقدس منتداها اللاسامي الخاص بها". وهناك كذلك أدلة إلى أن بعض أعضاء السلك القنصلي في القدس ويافا لم يكونوا أنقياء من نقل الأحكام القديمة ضد اليهود إلى العرب المحليين.

ليس متاحاً قياس درجة تأثير كل واحد من تلك العوامل الأجنبية بدقة، أولاً على العرب المسيحيين في المدن، ومن ثم على القطاعات الأخرى من السكان المحليين. ولكن مرة أخرى وفي نظرة إلى الوراء، يمكن الإحساس بأن تأثيرها المتراكم كان واقعياً وانتشر أيضاً إلى أبعد من الطائفة المسيحية. وعلى سبيل المثال، يمكن ذكر إسعاف النشاشيبي ــ الشاب المسلم المقدسي، الذي كان في بداية مسيرته الأدبية، والذي وضع كتاباً أبطاله هم ساحر قدّيس ويهودي وغد. وقدم للقصة بالشكر للكاتب الفرنسي اللاسامي إدوارد دريمون وأتباعه، الذين أسماهم "الفرنسيين الكبار" وهم أساتذته وسادته.

شذرة من المؤثرات المبشرة بالمزاج القومي العربي جرى تلمسها في تلك الفترة. فحالة نجيب عازوري يمكن أن تكون لذلك ذات أهمية خاصة، حيث التقت فيها القومية العربية والمناهضة للصهيونية، من جهة، ولا سامية أوروبية، من جهة أخرى .
وكان عازوري مارونياً سورياً، تعلم في باريس واستنبول، وفي عام 1898 جاء للعمل في الحكم المحلي في القدس. وفي 1904 ترك وظيفته بعد أن كان منخرطاً في مكائد ضد الحاكم وموظفين كبار آخرين، وانتقل إلى باريس، وأسس فيها حزب "جامعة الوطن العربي" وفي عام 1905 نشر كتاباً بعنوان " يقظة الأمة العربية" الذي يشكل معلماً في الأدب القومي العربي.

ودعا عازوري في كتابه إلى انفصال الأقاليم العربية المطلق عن السلطنة العثمانية. وفي الفصل الأول استعرض "الجغرافيا السياسية" لفلسطين، والتي مثلت في رأيه "صورة كاملة مصغرة للسلطنة العربية التي ستقوم في المستقبل". وهذا الأمر جرّه إلى البحث في نشاط اليهود في فلسطين، ومن خلاله حاول بناءً على التوراة إثبات أن العبريين لم يحتلوا فلسطين كلها أبداً، وهذا هو السبب أن ملكهم كان هشاً وخرب، بينما يحاول الصهيونيون في المقابل تحاشي تلك الغلطة، ويسعون لاحتلال الحدود الطبيعية للبلد – جبل الشيخ ( حرمون)، قناة السويس والصحراء العربية. ولدى عازوري مؤشرات واضحة إلى اللاسامية. وكما علق ألبرت حوراني، يدوي في اسم "الجامعة" التي أسسها عازوري اسم "جامعة الوطن الفرنسي" المناهضة لدرايفوس . وليس ذلك فقط: ففي مقدمة كتابه "اليقظة" أعلن أن مؤلفه يرمي إلى استكمال عمل شامل، سيظهر قريباً واسمه "الخطر اليهودي العالمي، رؤى ودراسات سياسية" حيث أن كل من عمل إلى حينه في مشكلة اليهود، لم يأخذ في الاعتبار طبيعتها العالمية الشاملة. وهكذا، ففي كتاب عازوري، عدا أهميته كمؤلف قومي عربي، هناك أيضاً تجديد بالمقارنة مع المؤلفات العربية الأخرى في حينه: "يقظة الأمة العربية" المشبعة باللاسامية الأوروبية. وفوق ذلك، فتجربة عازوري كموظف عثماني في فلسطين مكنته، للمرة الأولى في المنشورات العربية من التنبؤ بأنه من المؤكد تقريباً أن الأهداف القومية الصهيونية والعربية ستصل إلى اشتباك خطير.

" إن ظاهرتين هامتين، متشابهتين في طبيعتهما بيد أنهما متعارضتان، لم تجذبا انتباه أحد حتى الآن، تتضحان في هذه الآونة في تركيا الأسيوية، أعني: يقظة الأمة العربية وجهد اليهود الخفي لإعادة تكوين مملكة إسرائيل القديمة على نطاق واسع. ومصير هاتين الحركتين أن تتعاركا باستمرار حتى تنتصر إحداهما على الأخرى. وبالنتيجة النهائية لهذا الصراع بين هذين الشعبين اللذين يمثلان مبدأين متضاربين يتعلق مصير العالم بأجمعه. "

الفترة الانتقالية 1908 - 1909


في فلسطين قوبلت المعلومات عن ثورة "تركيا الفتاة"(8) بداية بالشكوك. إلا أنه لم يمرّ زمن طويل حتى عمّ الفرح أوساط طبقات واسعة من الجمهور. ففي القدس أقام مسلمون ومسيحيون ويهود معاً منتدىً أدبياً وسياسياً، دعي "الجمعية الوطنية المقدسية"، وشجع أعيان محليون الفلاحين في المنطقة على إقامة جمعية تهتم بمصالحهم، وانضم إليها أيضاً مستوطنون يهود. كما أشار دافيد يلين، الى أن الفلاحين كانوا "راضين جداً " عندما سنحت لهم الفرصة للإفادة من تجربة اليهود. وأكد يلين أيضاً: أن تغييراً كبيراً حصل في الأجواء لكن (للأسف على السطح)، حيث " للمرة الأولى نرى تلك الجمعيات تضم مسلمين (وأيضاً من الطبقة العليا)، يشاركون مع اليهود والنصارى".

لكن لم يكن كل شيْ سلساً. ففي يافا غضب العرب من سلوك بعض رجال الهجرة الثانية، الذين ساروا في الأعياد تكريماً للثورة، وهم يحملون علماً صهيونياً، وأعلنوا أن على اليهود أن ينتخبوا ممثلين صهيونيين إلى البرلمان العثماني، لدفع مطالبتهم بملكية البلد. وفي القدس دعي أربعة يهود للانضمام إلى الفرع الجديد من "جمعية الاتحاد والترقي " الخاصة بـ "تركيا الفتاة"، شريطة ألا يدفعوا، "الشيكل"، ( أي أنهم ليسوا أعضاء في الحركة الصهيونية). وبحسب كلام ديفيد لفونتين من " الشركة الأنجلو - فلسطينية"، كان هؤلاء العرب من "تركيا الفتاة" يرون بالصهيونية حركة سياسية فحسب، هدفها إيصال فلسطين إلى حكم ذاتي يهودي حصراً.

هذه التعبيرات التي تصك الأسماع راحت تتصاعد تدريجياً إلى أن أصبحت أكثر علواً. ومع ذلك، وإلى أن أخمدت الثورة المضادة لشهر نيسان/ ابريل1909 في استنبول، يمكن رؤية الأشهر اللاحقة بمثابة مرحلة انتقالية بالنسبة إلى موضوعنا هنا. وتستحق الفترة الانتقالية هذه التوكيد نظراً لتأسيس صحافة عربية في فلسطين، وبسبب عقد البرلمان العثماني الذي كان فيه كل مندوب خامس عربياً، وكذلك نظراً للهجمات على إحدى المستوطنات بمبادرة المعارضين العرب للاستيطان اليهودي في البلد .

فقبل 1908 لم تكن في فلسطين صحافة عربية، ماعدا الجريدة الرسمية - التي بصعوبة يمكن تعريفها بأنها صحيفة - والتي صدرت في القدس بالعربية والتركية. وفوراً بعد الثورة بدأت تظهر صحيفتان صغيرتان: "القدس" في القدس، و"الأصمعي" في يافا . وبعد فترة قصيرة من ذلك تأسست صحيفة "الكرمل" في حيفا. وكان "للأصمعي" منذ البداية موقفاً نقدياً من المهاجرين اليهود كما يبدو من المقتطف التالي:
" لإلحاقهم الضرر بأبناء البلد والإساءة إليهم، باستنادهم إلى الامتيازات الخاصة بالدول الأجنبية في تركيا، وإفسادهم قيم الحكام المحليين وحملهم على الخيانة؛ إضافة إلى ذلك أنهم معفون من غالبية الضرائب والخراجات التي تتكدس على سكان الدولة، ومنافستهم لأبناء البلد في العمل، وتضييقهم عليهم بأسباب معاشهم؛ ولم يستطع السكان الصمود في وجه منافستهم".

واقترحت " الأصمعي " خطوطاً مختلفة للعمل من أجل محاربة هذه المنافسة: وجوب شراء بضائع محلية وتفضيلها على البضائع " الأجنبية" (أي اليهودية)؛ وعلى أغنياء العرب تطوير التجارة والصناعة المحليتين؛ وعلى الشباب تعلم أساليب الزراعة لدى اليهود، من أجل مساعدة الفلاحين.

وفي خريف 1908 جرت انتخابات عامة؛ وفي سنجق القدس كان سيجري انتخاب ثلاثة مندوبين. ودعا عدد من المرشحين إلى إصلاحات اقتصادية وإدارية؛ وتكلم آخرون عن مساعدات للفلاحين . إلا أن تلك الأفكار كانت غريبة عن الناخبين الذين شاركوا للمرة الأولى في حياتهم بانتخابات حديثة. ولأن ولاءاتهم الأولية كانت لعائلاتهم وطوائفهم الدينية، فقد ضمنت الغالبية المسلمة الكاسحة في السنجق انتخاب ثلاثة مسلمين، كلهم من العائلات البارزة: روحي بك الخالدي، وسعيد بك الحسيني - وحافظ بك السعيد.

كان روحي بك في السابق قنصلاً عثمانياً في بوردو بفرنسا، وكان مقدسياً ذا ميول أدبية، ليبرالياً كما يقال، وعضواً في "جمعية الاتحاد والترقي". وسعيد بك الحسيني كان معارضاً صريحاً للاستيطان اليهودي في السنجق، وبوصفه رئيس المجلس البلدي للقدس حاول في 1905 منع اليهود من امتلاك الأراضي في "موتسا". وأما حافظ بك فقد جاء من يافا، وكان سابقاً مفتي غزة؛ ولأنه اعتبر من أصحاب النوايا الحسنة فقد أيد اليهود ترشحه .

في شمال فلسطين انتخب كل من الشيخ أحمد الخماش من نابلس، والشيخ أسعد الشقيري من عكا، كمندوبين للبرلمان . وكان الأول مسلماً محافظاً جداً، والثاني عالماً مسلماً، شغل أثناء الحرب العالمية الأولى منصب مفتي الجيش التركي الرابع، بقيادة جمال باشا، وهو والد أحمد الشقيري .

وإحدى نتائج النشوة في أعقاب الثورة كانت في انهيار النظام العام في أجزاء مختلفة من السلطنة. وفي الخريف، هاجم فلاحون عرب ملاكي أراض ٍ عرب في شمال فلسطين. وفي مسار الأحداث اعتدوا في تشرين الثاني /نوفمبر أيضاً على بضع مستوطنات يهودية، وفي كانون الأول /ديسمبر، حاول فلاحون من "كفركنّا" احتلال أراضٍ بملكية "بيكا" في جوار طبريا.

وفي ربيع 1909 انتشرت في أرجاء السلطنة موجة من الصحوة من الثورة، ومن "جمعية الاتحاد والترقي"؛ وفي أعقاب ذلك ظهرت علامات الاضطراب والهيجان، خاصة في الأناضول، حيث اغتيل في الهيجان آلاف الأرمن. وعدم الاستقرار هذا كان الخلفية لسلسلة حوادث وقعت حول المستوطنة ومزرعة التدريب التابعة لـ"بيكا" في "السجرة".

بدايةً، وفي شهر شباط /فبراير، طالب فلاحو قرية "السجرة" المجاورة بجزء صغير من أراضي المستوطنة، وكما يبدو بتشجيع من عناصر خارجية: وحسب أقوال إلياهو كراوزة، مدير مزرعة التدريب، لم يكن هؤلاء سوى أعضاء مستائين من فرع طبريا من "جمعية الاتحاد والترقي ". وفي آذار/مارس رد المستوطنون برفض تشغيل قرويين من الشجرة وشراء منتوجاتهم. وفي نيسان /ابريل ألغى الفلاحون مطالبهم بأراضي السجرة، لأنهم لم يستطيعوا تحمل نفقات المحاكمات، إلا أنهم استمروا في مضايقة اليهود وإلحاق الضرر بهم، كما سرقوا المستوطنة.

وفي ذروة تلك التوترات المحلية، قتل عربي من "كفركنّا" على يد يهودي اسمه حاييم دوفنر . يعمل مصوّراً،وكان في طريقه إلى مؤتمر "عمال صهيون" الذي أوشك على الانعقاد في عيد الفصح في السجرة. وفي طريقه هوجم من قبل أربعة من العرب، سلبوا أجهزته لدى خروجه من تخوم كفركنّا. وأطلق دوفنر النار وجرح واحداً من مهاجميه، الذي قبل موته، تمكن من الادعاء بأن يهوديين من السجرة أطلقا عليه النار . وفي 7 نيسان /ابريل هاجم فلاحون من كفركنّا السجرة مطالبين بـ "الديّة". إلا أن موظفي المستوطنة من قبل " بيكا" رفضوا الاستجابة لهذه المطالبة. وفي 9 نيسان/ابريل نهبت مجموعة كبيرة من القرويين محصول السجرة وبعد يومين جرحوا بشكل بليغ يهوديين كانا عائدين إلى السجرة من طبريا. وفي الغد اغتيل يهوديان، أحدهما على يد فلاحين من كفر كنّا، والآخر بأيدي فلاحين من الشجرة .

أسهمت الأمطار التي هطلت في هذه الساعة المباركة في تبريد الأجواء. وأوقفت سلطات في الناصرة عددا من الفلاحين، وأعادت أجهزة التصوير لدوفنر، وثبتت التهمة بأهالي كفركنّا. وطلب الكهنة الذين مثّلوا القرويين عقد صلحة، ولكنهم لم يتوافقوا على شروطها، ووصل الأمر إلى المحكمة في عكا، وهناك استمرت المحاكمة لأكثر من سنتين.

من شبه المؤكد أنه كان بالإمكان رؤية هذه الأحداث، كما ورد أعلاه، على خلفية أعمال الشغب في شمال البلد، والتي وقعت في خريف 1908 وكذلك على خلفية خيبة الأمل التي انتشرت في ربيع 1909 من الحكم الجديد. ولكن مع ذلك، هناك أساس للشك بأن بعض الذين وقفوا خلف تلك الخطوات ضد السجرة أرادوا بالفعل الاحتجاج بصورة هزيلة وغير مبلورة على الاستيطان اليهودي في منطقة طبريا، حيث كانت سبع مستوطنات . والأساس لهذا الشك هو في أن كراوزة ذكر بشكل خاص نجيب نصار كأحد المحرضين الرئيسيين الذين جاؤوا من الخارج أثناء أحداث السجرة. ونجيب نصّار كان محرر الصحيفة الحيفاوية " الكرمل"، ومنذ 1909 فما بعد برز بوصفه الصحفي الأشد مناهضة للصهيونية بين عرب فلسطين. ونصّار ولد في طبريا، وقبل تأسيس " الكرمل" تعرف على كراوزة في إطار مهمته كوكيل أراضي "بيكا". وكما سنرى لاحقاً، فإنه منذ 1909 كانت مقاومة الاستيطان اليهودي في فلسطين ملموسة بحيث لا يمكن تجاهلها.

المناهضة العربية للصهيونية


ظهرت بصورة لا لبس فيها في السنوات الخمس الفاصلة بين انتزاع السلطة العلني من قبل "جمعية الاتحاد والترقي" بعد الثورة المضادة في نيسان/ابريل 1909، وبين انفجار الحرب العالمية الأولى في عام 1914. ويمكن تمييز ثلاثة اتجاهات رئيسية في هذه المناهضة للصهيونية: أ) مقاومة الصهيونية بسبب الولاء للعثمانيين؛ ب) مقاومة نابعة من الوطنية المحلية؛ ج) مقاومة منطلقة من القومية العربية. والاتجاه الثاني فقط كان مميزاً لفلسطين. وفيما عدا تلك الاتجاهات كانت هناك نزعات فرعية: مقاومة للصهيونية لأسباب اقتصادية، أو أخرى دينية، أو لا سامية .

ويجب التوكيد على أن هذا التقسيم لاتجاهات رئيسية ونزعات فرعية مناسب أساساً لضرورة تحليل نظري لظاهرة مناهضة الصهيونية في أوساط العرب. وفي الواقع، لم يعمل أي من هذه الاتجاهات بمعزل عن الآخر، وبانفصال عنه، وعمليا كملت تلك الاتجاهات بعضها بعضاً، وكانت متداخلة فيما بينها.

أ ) الولاء للعثمانيين :
كانت غالبية الأعيان العرب الذين انتموا إلى النخب موالية أساساً للسلطنة العثمانية. فكمسلمين كانوا على صلة وثيقة بالمجتمع الذي على رأسه، على الأقل نظرياً، السلطان الخليفة،كانوا رجال دين من طبقات السلطة والحكم المحليين، فكانت لهم مصلحة مشروطة باستمرار النظام القائم والممأسس. ولم تكن براعم القومية العربية قد لامستهم بعد، مالوا لرؤية الصهيونية بنفس الطريقة التي نظرت إليها الحكومة العثمانية منذ سنوات 1880، كحركة قومية "انفصالية"، والتي إضافة إلى ذلك، كانت ربما متأثرة بروسيا العدوّة الكبيرة للسلطنة العثمانية، والبلد الأصلي لغالبية اليهود الذين قدموا الى فلسطين. والحركة الصهيونية، إن لم تكبح، فمن شأنها حسب رأيهم أن تسبب فقدان مساحة من السلطنة، شبيهة بخسارة المساحات في البلقان خلال القرن التاسع عشر. ولذا ففي نظر الزعامة العربية والتركية على حدّ سواء لم تكن الصهيونية سوى خطر محتمل لوحدة السلطنـة وسلامة أراضيها.

وهذا الموقف يسمع من مطالبة العرب، المرة تلو الأخرى، طوال الفترة، بأنه إذا سمح لليهود الأجانب بالإقامة في فلسطين، فمن واجبهم أن يكونوا رعايا عثمانيين . وقد جرى التعبير عن هذا الموقف بوضوح. فحافظ بك السعيد، ممثل يافا في البرلمان العثماني، على سبيل المثال، طرح استجواباً في أيار/ مايو 1909 عن أبعاد الصهيونية. وهل تنسجم حركة اليهود القومية مع مصالح السلطنة؟

وكتعبير واضح عن آرائه، طلب حافظ بك إغلاق ميناء يافا أمام المهاجرين اليهود. وكذلك الأمر في 1910، عندما بدأ ممثلون صهيونيون محادثات لامتلاك الأراضي التي أقيمت عليها لاحقاً مستوطنة "مرحافيا"(9)، فأرسلت برقية من قبل أعيان حيفا، وفيها احتجاج على البيع المقترح. وادّعى الموقعون (الذين لم تعرف أسماؤهم) بأن صحافة العالم تشهد على جهود الصهيونيين منذ سريان مفعول الدستور( أي،1908)، لاستملاك أراض واسعة في سوريا وفلسطين، وأنه دخل البلد مؤخراً مائة ألف مهاجر يهودي، أخلّوا بالهدوء، وبذلك عرضوا السلطنة لأخطار سياسية.

ويبدو أن التعبير الأشد عن هذا الموقف صدر في بداية صيف 1911، عندما اكتشف وجود الجمعية الأولى لمناهضة الصهيونية التي أسسها العرب. وفي شباط/ فبراير وأيار/ مايو من ذلك العام جرى بحث مطولٌ لمسألة الصهيونية في البرلمان العثماني. والمداولة الأولى كانت جزءاً من هجوم سياسي أكثر اتساعاً على "جمعية الاتحاد والترقي"، ولم يشارك فيه ممثلون عرب. والمداولة الثانية كانت بمبادرة المندوبين العرب، وفي نهايتها اشتكى احد المندوبين (حافظ ابراهيم أفندي ـ من ألبانيا) من أن وقت البرلمان يهدر في البحث حول "أشباح الموتى": فللسلطنة جيش من مليون رجل، وليس لديها ما تخشاه من مائة ألف يهودي في فلسطين . وبرقيات "وكالة الأنباء العثمانية" التي أوردت هذه الملاحظة، لم تفهم كما يجب في يافا، فُهِمت على أنها تنسب إلى حافظ بك السعيد ممثل المدينة، الذي بالفعل لم يشارك أبداً في النقاش . واحتجاجاً أُرْسِل إلى" فلسطين" (الصحيفة التي تأسست مؤخراً في يافا ) كتابٌ مفتوح، يتضمن مدائح للممثلين الذين تكلموا ضد الصهيونية، وكذلك نقد لحافظ بك، الذي كأنما قال: بأن "الخطر الصهيوني" خيالي. وعلى العكس: فبحسب دعوى المبادرين إلى الاحتجاج، "الصهيونية خطر يحيق بوطن حافظ بك، وموجة هائلة ومفزعة تضرب شواطئ البلد. هذا وبعد: فالصهيونية هي إشارة مبشرة للهجرة المعدّة مستقبلاً للسكان المحليين من وطنهم، ومغادرة بيوتهم وممتلكاتهم". وهذه الرسالة المفتوحة تميزت بأنها كانت موقعة من قبل " الحزب الوطني العثماني"(10).

المقاومة للصهيونية جراء الولاء للعثمانيين كانت، كما يبدو، الاتجاه الرئيسي للمناهضة العربية للصهيونية قبل الحرب العالمية الأولى. والمرشحان المقدسيان الاثنان، اللذان فازا في انتخابات البرلمان في نيسان /ابريل 1914، عبّرا بوضوح بمصطلحات الولاء للعثمانيين، عندما أجرى معهما محرر صحيفة "الإقدام " ( القاهرية) مقابلة في آذار/مارس من تلك السنة. وأعلن سعيد بك الحسيني أن الصهيونية هي خطر على السلطنة، سواء من ناحية سياسية أو اقتصادية. ". . . وأنا أستغرب جدا كيف تسكت الحكومة على هذه الحركة، لأن الصهيونيين يبقون في حماية الرعاية الأجنبية. ولذلك، فعلى الحكومة أن، تستيقظ وتفيق من غفلتها وتعلم ما الذي يواجهها ".

وفي تفاصيل الأمر،آمن سعيد بك أن مشاكل الأراضي تستوجب المعالجة، ومن حق الفلاح تلقي المساعدة، من أجل "ألا تنتقل البقية الباقية من الأراضي التي في أيدينا إلى الصهيونية".

من جهته قال راغب بك النشاشيبي: أنه ليس ضد اليهود العثمانيين، وإنما هو ضد اليهود الأجانب فقط.
" وإذا كان اليهودي الأجنبي راغباً في استمالة قلبنا إليه، فعليه أن يرضى بأن يكون من الرعية العثمانية، ويتعلم لغة الدولة من أجل أن يفهمنا ونفهمه، وكلانا يعمل لصالح الوطن. ولكن إذا كان المواطن الأجنبي آتياً لمحاربتنا بسلاح مواطنته، ومعاداة أبنائنا وإخواننا والخروج على قوانيننا وأحكامنا، فمن واجبنا ألا نسكت عن ذلك. وإذا انتخبت نائباً فإنني سأكرس كل طاقاتي، ليل نهار، لإبعاد الضرر والخطر المتوقعين لنا من الصهيونية، دون المساس، كما ذكرت، بصلاحيات إخواننا العثمانيين ( اليهود)".

وقد أوصى أيضاً أن تتبنى الحكومة في موقفها من الصهيونيين "أسلوب حكومة رومانيا" أي: تسلك إزاءهم كما تفعل مع الأجانب وتحجب عنهم حقوقاً سياسية ومدنية في مجالات محددة.

ب) الوطنية المحلية

يبدو أنه منذ 1910 وما بعد، بدأ يتطور الإحساس بالهوية المحلية في أوساط عرب فلسطين؛ والدليل على ذلك يمكن أن نجده، على سبيل المثال، في الصحيفة المسماة، وليس عرضا "فلسطين"، والتي بدأت بالصدور في ربيع سنة 1911 في يافا، والتي اعتادت التوجه إلى قرائها كـ"فلسطينيين". وفي هذه الأجواء المتبدلة، ربما كان بالإمكان التكهن بأن بعض العرب المحليين سيبدأون النظر إلى أهداف الصهيونيين ونشاطاتهم في فلسطين على أنها تهديد مباشر للسكان المحليين . ويمكن أن يكون موقفهم قد انطلق بداية من مسار فكري، شكلت بحسبه الصهيونية خطراً على السلطنة بشكل عام، وعلى فلسطين بصورة خاصة. ومن هنا كانت خطوة صغيرة فقط كافية لاستيعاب الصهيونية كخطر خاص على فلسطين، دون علاقة بآثارها على السلطنة بكليتها . وفي أيار/مايو1910، عندما أرسلت من حيفا البرقية المذكورة أعلاه، وفيها احتجاج على مشروع بيع الأراضي لإقامة مستوطنة "مرحافيا"، أرسلت أيضاً برقية موازية إلى استنبول من قبل رؤساء كل الطوائف الدينية في الناصرة. ورأى هؤلاء بالاستيطان اليهودي في منطقتهم تهديداً مباشراً لهم دون علاقة بالخطر على السلطنة بكليتها. " قدوم مهاجرين يهود بعدد كبير من الخارج إلى هذه المنطقة يتسبب بأضرار سياسية واقتصادية كبيرة. في الماضي، منعوا من الإقامة هنا، والصحافة كلها تتفق في العالم بأن الصهيونيين يُنمّون في قلوبهم النية لمصادرة أملاكنا. هذه النوايا هي بالنسبة لنا مسألة حياة أو موت. . . ".

وفي أواخر 1910 ظهر تطور مثير للاهتمام في الصحافة العربية المحلية، ينطوي على إظهار كيفية إسهام نشاط الصهيونيين أيضاً في تنمية الإحساس بهذه الهوية في أرجاء البلد. ففي تشرين ثاني/ نوفمبر نشر أحد أعيان حيفا العرب رسالة مفتوحة في "الكرمل". وفيها دعوة محرر " النجاح" (منشور صغير وقصير العمر في القدس)، للتأمل في المحيط ورؤية ما يحدث. وبعد شهر شكر محرر "النجاح" " الكرمل" على تلك الدعوة: " لا مفرّ لنا إلا قبول كلامك والمشاركة بصوت دعوتك والاعتراف بيقظتك والقول للوطنيين في القدس : استيقظوا أيها النيام، استيقظوا !"

الوطنية المحلية التي كانت نقوم على أساس أكثر اتساعاً تحولت إلى ركيزة معروفة ومفهومة في المقاومة للصهيونية. وقد جرى التعبير عن الأمر بشكل واضح في 1913، عندما أوصى رجل نابلسي في جريدة "فلسطين" بإقامة شركة، يساهم فيها أعيان من جميع المدن الرئيسية في فلسطين: القدس، يافا، حيفا، غزة، ونابلس. وعلى الشركة شراء الأراضي الحكومية والأراضي المزروعة لإنقاذها من أيدي الصهيونيين. واقترح الكاتب أن تسمى الشركة باسم جدير بالإشارة: "شركة وطنية فلسطينية" بخلاف صارخ عن " الحزب الوطني العثماني" الذي تأسس في يافا قبل عامين.

هذا الاتجاه المحلي و"الفلسطيني" تعزز في 1914. ففي2 نيسان/ ابريل أُوقف صدور صحيفة " فلسطين " بأمر من السلطات، وكما يبدو في أعقاب نشر مقال قبل ذلك بأسبوعين، يتضمن هجوماً عنيفاً على الحكومة في مسألة الصهيونية . وكان جواب صحيفة "فلسطين" نشر رسالة دورية إلى قرائها في نهاية شهر نيسان/ ابريل، تعبر, حسب شهادة نائب القنصل البريطاني في يافا، والقنصل البريطاني في القدس , " بصدق عن العداء المتصاعد في أوساط العرب للصهيونية".

وبمرور شهرين، وزعت في القدس "دعوة عامة للفلسطينيين، موقعة من قبل "فلسطين"، وفيها نداء لعمل حازم ضد الصهيونية.

في عام 1914 بدأ أعيان عرب مقدسيون، ممن كانوا قبل بضع سنوات أولياء الموالين للعثمانيين، يعارضون الصهيونية على أساس تبريرات وطنية محلية. وقد ظهر ذلك في سلسلة مقابلات أجرتها صحيفتا "فلسطين" و"الإقدام" قبل انتخابات نيسان /ابريل 1914 وبعدها. وجاء المرشحون من الزعامة المسلمة حصراً، وجميعهم أولوا اهتماماً خاصاً بمستقبل فلسطين.
حسين الحسيني، رئيس المجلس البلدي في القدس، كان في نظر الاستيطان الجديد متعاطفاً معه. وكان إلى حد ما الأكثر اعتدالاً بين الذين أجريت معهم المقابلات، كونه قال بأنه لا يرى خطراً في الحركة الصهيونية، لأنها ليست حركة سياسية، وإنما هي حركة تعمل في الاستيطان. ومع ذلك، كانت لديه تحفظات خاصة، نابعة أيضاً من هموم محلية:
" لست أرى أي خطر من الحركة الصهيونية، لأن هذه الحركة ليست سياسية، وإنما استيطانية. وأنا متأكد أنه ما من صهيوني واحد، عاقل وذي علم، تخطر في باله فكرة تأسيس حكومة يهودية في فلسطين، كما يقولون عنهم. جاء الصهيونيون إلى هذه الدولة من أجل العيش فيها. وهم أناس متعلمون وذوو ثقافة، ولا مطامح لديهم، وهم موحدون فيما بينهم . ليس من العدل والإنسانية أن نكره ونعادي هذا الشعب. . . . إلا أنه مع ذلك علينا مراقبتهم بعيون مفتوحة، وإذا استمرينا في طريقنا وهم في طريقهم فستنتقل كل أراضينا لملكيتهم، وفلاحنا فقير ومعدم، والفقير قد يتنازل عن أملاكه من أجل عيشه. ولذا فعلى الحكومة أن تصدر قانوناً جديداً في فلسطين فيما يتعلق ببيع الأراضي، وتضع شروطاً معروفة له وتقيده تبعاً لموقعنا في البلد".

أما حافظ بك السعيد /من يافا/ الذي طالب في 1909 في البرلمان بإغلاق يافا في وجه هجرة اليهود، فقد أعلن:
"لولا أن الخطر الصهيوني كبير، لكنت أول من يعلن أننا بحاجة إلى الصهيونية في هذا البلد. ولكن الوضع مختلف، وإذا استمر الحال دون تقييد، وإذا كان مسموحاً للمهاجر شراء الأراضي في أي مكان يريد... وإذا لم تقم الحكومة بأي عمل ضد خطر هجرة الصهيونيين، فإنه من الممكن قطعاً أن ينتزع المستوطنون الجدد لأيديهم نصيب الأسد من التجارة والأراضي (في فلسطين)، وأن يفوقوا بعددهم السكان المحليين، الذين تسعة أعشارهم لا يعرفون ما هو العلم والتعليم. . . وأنا أصلي إلى الله، أن يتخذ الأشخاص القائمون على دفة الحكم الوسائل التي تفيد سكان البلد".

وأخيراً أحمد العارف ( والد عارف العارف) الذي فاز في انتخابات 1912، إلا أنه هزم في 1914، قال لمحرر" الإقدام":
" موضوع أحاديث سكان فلسطين الوحيد حالياً. .. هو مسألة الصهيونية. الجميع يخشاها ويخافها ــ والمسألة الصهيونية، وإن كانت في الظاهر اقتصادية، إلا أنها، في الحقيقة سياسية هامة . ولو طالعنا تاريخ الشعوب القديمة والأراضي التي فقدتها / فإننا نتأكد من أن جميع الأحداث السياسية قامت على أسس اقتصادية. والحكومة تنظر إلى الصهيونية على أنها مسألة اقتصادية. إلا أنه ما من شك في أنها عاجلا أم آجلا، ستتأكد أن المسألة سياسية هامة. وستجري، لامحالة تغيرات وتبدلات في جغرافية فلسطين – إذا استمر الأمر على هذا النحو في المستقبل. ونشاط الصهيونيين للحفاظ على لغتهم، عاداتهم ومواطنيتهم – يؤكد استنتاجي هذا".

ج) القومية العربية :

مع أن قلة، من الناحية العددية، كانت من القوميين العرب الذين أسسوا "اللامركزية"(11) في القاهرة عام1912، ولجنة الإصلاح"(12) البيروتية في بداية 1913، إلا أن أهميتهم، سواء من ناحية فكرية، أو بالنظر إلى المستقبل، كانت كبيرة جداً. فمواقفهم إزاء الصهيونية واتصالاتهم بالقادة الصهيونيين ستبحث بتفصيل معين لاحقاً. ونكتفي إذن هنا بالقول أنه في 1913 بدا وكأن غالبيتهم مالت لتأييد تسوية مع الصهيونيين، بينما في 1914 حصل تغيّر في التوجه، وظهر اتجاه واضح من المقاومة المبدئية للصهيونية، ليس فقط بسبب الدعوى بأنهم عقدوا حلفاً مع "جمعية الاتحاد والترقي"13) وإنما أيضاً بسبب الإدعاء بأن هجرة يهودية مستمرة إلى فلسطين قد تقطع التواصل الإقليمي العربي. وهذه النقطة الأخيرة قدمت بصورة مفصلة من قبل خليل السكاكيني ،وهو شاب راديكالي مقدسي، إذ كتب في يومياته في 23 شباط/ فبراير 1914:

" احتلال فلسطين من قبل اليهود يعني احتلال قلب الأمة العربية، إذ أن فلسطين هي الحلقة الواصلة بين شبه الجزيرة العربية ومصر وإفريقيا. وإذا احتل اليهود فلسطين، فإنهم سيحولون دون توحيد الأمة العربية؛ وفي الحقيقة، فإنهم سيقسمونها إلى جزأين، ليس بينهما صلة. وهذا الأمر يضعف الشأن العربي، ويحول دون تضامن الأمة ووحدتها" .

د ) اتجاهات فرعية :

إلى جانب الاتجاهات الرئيسية الثلاثة في ظاهرة المقاومة للصهيونية في أوساط العرب، يمكن تمييز ثلاث اتجاهات فرعية أيضاً، هامشية بالنسبة إلى الاتجاهات الرئيسية: مقاومة للصهيونية بسبب التنافس في المجال الاقتصادي، بسبب اللاسامية، أو لأسباب ودوافع إسلامية.

(1) ومع أن تحفظات لأسباب اقتصادية كمنت في أساس برقية الاحتجاج في 1891، ومع أنها أثيرت في الصحافة من حين لآخر، فإنه فقط في 1911 جرى التعبير المنظم عنها. ففي تلك السنة، التي شهدت تشكيل " الحزب الوطني العثماني" في يافا، شكلت أيضاً مجموعة أسميت " الشركة الاقتصادية التجارية".
وبناء على شهادة شمعون مويال، الطبيب في يافا، الذي كتب في صحيفة " حيروت " ( القدس)، حظر على اليهود الانضمام إلى تلك الجمعية، التي كان هدفها مقاومة الصهيونية. وطرحت الجمعية، حسب مويال، إثارة كراهية اليهود في قلب السكان المحليين، وهكذا يجبر اليهود على ترك البلد. وذكر أيضاً أنه بموازاة ذلك حاول نجيب نصّار تنظيم مقاطعة اقتصادية لليهود في حيفا, وطرح نصار ألا يؤجر العرب المحليون بنايات لليهود ولا يتاجروا معهم. ومع أن هذا الطرح لم ينجح كثيراً، حيث كما أشار إلى ذلك "العامل الشاب" (هفوعيل هتسعير): "حتى الأشد تعصباً بين المسيحيين" سرّ لتأجير بيته ليهودي دفع كما يجب تماماً، عاماً بعد عام.
مسألة التنافس الاقتصادي مع الاستيطان اليهودي الجديد، بقيت في أساسها موضوعاً للصحافة العربية حتى منتصف 1914، عندما ذكرت صحيفة "فلسطين" تشكيل لجنتين جديدتين في القدس. الأولى أسميت "الشركة الوطنية الاقتصادية". ويجوز أن الصفة "وطنية" تشير إلى أن الشركة مالت للولاء العثماني، وهو ما يمكّن أيضاً تفسير تشكيل اللجنة الأخرى، التي أسميت "شركة الاقتصاد الفلسطيني العربي".
(2) اللاسامية الأوروبية: التي جرى التعبير عنها في المناهضة العربية للصهيونية، الأمر الذي تمكن ملاحظته في الرسوم الكاريكاتورية، التي نشرت في النشرة الساخرة "الحمارة" البيروتية، خلال فترة قصيرة بعد بيع أراضي الفوله لإقامة مستوطنة مرحافيا في ربيع 1911: صلاح الدين البطل المسلم الذي طرد الصليبيين من الأرض المقدسة، يوصف في الرسم الكاريكاتوري وكأنه يهدد صورة يهودي، رسمت بخطوط لاسامية فجّة، وهو يدحرج ذهباً كثيراً إلى يد ممدودة، تخص موظفاً عثمانياً، أو مالك أرض عربياً. وبالفعل، فإن لهجة اللاسامية التي استشعرت في جزء من النقد العربي كانت شديدة، إلى حد أن روحي بك الخالدي، لدى افتتاحه المداولة حول الصهيونية في البرلمان، في 16 أيار/مايو 1911، أحس أنه مضطر للإعلان بداية، وبارتباك معين، أنه ليس لاسامياً وإنما مناهض للصهيونية.

ونكتفي هنا بنموذج آخر من تلك الاتجاهات الفرعية، ففي 8 تشرين الثاني / نوفمبر 1913، نشر الشيخ سليمان التاجي الفاروقي في صحيفة " فلسطين" قصيدة سياسية، تعبر عن ذاتها: "الخطر الصهيوني". كان المؤلف شيخاً ضريراً من الرملة، صاحب أملاك في محيط يافا، ورد ذكره في 1911 كعضو هام، سواء في "الحزب الوطني العثماني" أو في "الجمعية الاقتصادية التجارية" في يافا. وكان مطلع القصيدة في صحيفة "فلسطين": "أبناء الذهب الرنان، توقفوا عن خداعنا" وفي استكمال القصيدة طور الفاروقي في لهجة لاسامية عتيقة، بحسبها يملك اليهود أموالاً طائلة، وبواسطتها يستطيعون فرض إرادتهم على شعوب ساذجة وغير واعية.

(3) وأخيراً، ربما كجزء من التمرد الإسلامي بعد حرب البلقان، بدأت المقاومة العربية الضئيلة للاستيطان الجديد، تتنوع بأفكار إسلامية خاصة. سليمان التاجي على سبيل المثال – الذي كان بعد الحرب العالمية الأولى محرّر "الجمعية الإسلامية" (نشرة إسلامية ذات ميول مناهضة للصهيونية) توجه بقصيدته "الخطر الصهيوني" إلى الخليفة مع أن الخلافة كانت في حينه لا وجود لها كمؤسسة إسلامية:

" وأنت" أيها الخليفة حامـــي المؤمنين ارحمنا
يا صاحب التاج، هـــل يحلو بـــعينيك أن تـــرى
كيف تشرى أرضنا منّا، وكيف تنزع من أيادينا"
الدعوة العامة للفلسطينيين، التي ورد ذكرها أعلاه، والتي وزعت في القدس، في حزيران/يونيو1914، كانت إسلامية في لهجتها إلى حد كبير. وهذه الدعوة نشرت باسم عمر بن الخطاب (فاتح فلسطين للإسلام)؛ والدعوة أوردت قول النبي محمد ، كأنما "مغادرة الوطن هي جريمة"، وحذرت من أن المتنازلين عن ميراثهم ليسوا مسلمين. "الله، ورسوله، وملائكته، وجميع الناس، سيكونون ملزمين بعقابكم... هل تريدون أن تُسْتَعبدوا للصهيونيين، الذين جاؤوا إليكم لإخراجكم من وطنكم، بقولهم أن هذا البلد هو لهم؟ اسمعوا إني أدعوا الله ورسوله أن يشهدا ضد أقوالهم، إنهم كذابون..."

هـ) مواقف مركبة وتأثيرات خارجية:

كما ذكر أعلاه، هذا التقسيم للاتجاهات يرمي أساساً لتلبية ضرورة التحليل النظري لظاهرة مناهضة الصهيونية في أوساط العرب. إلا أنه في الواقع استكمل عدد من هذه الاتجاهات بعضه بعضاً، فتداخلت معاً. والعرب الذين عارضوا زيادة الاستيطان، قاموا بذلك عموماً لعدد من الأسباب. كان الموقف الأكثر انتشاراً في فلسطين يقوم على الولاء للعثمانيين، وانضم إلى الوطنية المحلية. وعلاوة على ذلك، يمكن تمييز أسس أخرى أيضاً ( مثل اللاسامية، المخاوف الاقتصادية، وما شابه)، والتي تختلف وتتبدل من شخص لآخر حسب ديانته، مهنته، وما شابه.

فنجيب نصّار، محرر "الكرمل"، كان البارز بين الناشرين العرب في فلسطين، والذين عبروا عن هذا الموقف المركب، وحتى الممثل، في مناهضة الصهيونية. في الجدل الأول حول الصهيونية في البرلمان العثماني في شباط/ فبراير1911، تكلم الصدر الأعظم عن الصهيونيين باستخفاف وكأنهم "حمقى تماماً". وضد هذا الادعاء خرج نصّار حالاً بملف نشره في حيفا: " الصهيونية، تاريخها، هدفها، وأهميتها"، وفيه أراد إثبات أن خطر الصهيونية ليس خيالياً، وأن القادة الصهيونيون ليسوا حمقى. والجزء الأكبر والأول من هذا الملف كان في الأساس ترجمة محرّفة لمادة الصهيونية في "الموسوعة اليهودية" التي كتبها الأستاذ ريتشارد غوتهايل. وفي الجزء الثاني، الأكثر أهمية، سأل نصّار "ماذا نستطيع أن نتعلم من هذا الُمؤلًف عن الصهيونية؟ وكذلك "ماذا نحتاج"؟ وكعثماني مخلص، اجتهد نصّار في إظهار أن الحركة الصهيونية تنطوي على تهديد لوحدة السلطنة وسلامة أراضيها. ومع أنه ادعى علاوة على ذلك، بوصفه وطني محليّ، أن من واجب السكان المحليين في فلسطين أن يولوا مصالحهم الاهتمام, خاصة إزاء ما حدده كتجاهل الحكومة العثمانية لمسؤولياتها. والتوجه الوارد هنا يجسد تركيب موقف نصّار:
" فليقم رجالنا ويبدؤوا بتشكيل اتحادات للحرب من أجل العثمانية، ولتعلّم الاقتصاد وزرع المبادئ، بألا يسمح لأموال العثمانيين أن تجري إلى جيوب المستوطنين الذين يحاربوننا على الوجود، ولن يردّوا (أموالنا إلينا)". . . . "لماذا لا نكون نحن الذين تحملوا لمئات السنين المآسي والعذابات، رجالاً ونسلك سبيل الحرية، ونحيا من أجل وطننا، ومن أجل أنفسنا، كي لانجرّ على أنفسنا وعلى أبنائنا لعنة آبائنا بسبب ضياع البلاد التي امتلكوها بدمائهم!"

وإلى هذه الاتجاهات المتشابكة يجب أيضاً إضافة التأثيرات الخارجية، للأحداث السياسية في ذلك الزمان. وبالفعل، نبعت ردّة فعل العرب على الصهيونية في الأساس من ازدياد الاستيطان الجديد المستمر في فلسطين. ومع أنه منذ 1909 تأثر العرب كذلك من نواح معينة بالنضال السياسي في السلطنة العثمانية، وحتى بأنشطة مجموعات يهودية غير صهيونية، سعت على سبيل المثال، للحصول على إذن للاستيطان اليهودي في أجزاء أخرى من السلطنة، مثل العراق.

والثورة المضادة في نيسان /ابريل1909 نجمت ضمن أسباب أخرى جراء المعارضة للمفاهيم العلمانية لدى أعضاء "جمعية الاتحاد والترقي"، وجراء القلق من أن "الجمعية" تعرض للخطر موقع "الشريعة" والطابع الإسلامي للسلطنة. وبعد قمع الثورة المضادة، ارتدى هذا القلق صوراً أخرى،ومنها إلقاء التهمة على "الجمعية" بأنها واقعة تحت سلطة اليهود والماسونية .

وفي موقع آخر، وصفت إثارة تلك الاتهامات بتوسع في الصحافة، وحتى في مداولات البرلمان، وكذلك الضرر الذي لحق بالشأن الصهيوني في أعقاب ارتداع "الجمعية" عن إظهار الموقف الايجابي إزاءه، وهو حكم قد يفسّر بأنه تأكيد الاتهامات.
والكذب في تلك الاتهامات، حتى ولو كان واهياً جداً، فإنه امتلك أرجلا سريعة، ومنذ أيار /مايو 1909 قدمت للقارئ العربي النظرية بشأن سلطة اليهود والماسونيين في "جمعية الاتحاد والترقي". وقد وردت في "نهضة العرب"، نشرة " اللجنة المركزية السورية" – تنظيم عربي لا أهمية له (يبدو أنه كان صغيراً) في باريس:
"وهكذا، فهم (اليهود) يقولون: المسلمون، الأتراك، والعرب،لا يستطيعون بأي حال العيش بسلام واستقرار والتمتع بالحرية والمساواة في دولة قائمة على نهج خليفة مسلم. وماذا سيحدث عندها؟ سيتمردون على الأحرار (الماسون). وستنفجر الصراعات بينهم، وعندها تتدخل الدول الكبرى وتحمي شؤون اليهود. وهذا الأمر سيتسبب بنزاعات وعداوات بين العناصر المختلفة من المملكة ويختل النظام ويغيب الحكام ويحصل اليهود أخيراً على أطماعهم".

وبعد ادعائه بأن اليهود مسئوولون عن عودة "جمعية الاتحاد والترقي" إلى الحكم بعد الثورة المضادة في نيسان/ ابريل 1909، وأن كل أعضاء "الجمعية" دخلاء على عمانوئيل كراسو، (يهودي ماسوني في سالونيكي)، توجه الكاتب وسأل: "ألا ترون أنهم (اليهود) أخذوا الآن زمام الحكومة في أيديهم، وبعد قليل سيرفعون العلم اليهودي؟ "ولذلك: " مَن ِمن الحكام لا يتوجب عليه التفكير بالخطر الذي سيحيق به من اليهود؟" .

في البداية لم تجد هذه النظرية مساراً لها في أوساط العرب، وإنما استخدمها أساساً اليونان والأتراك من أعداء "جمعية الاتحاد والترقي" فقط، بهدف إرباكها. بيد أنه بعد النقاش حول الصهيونية، الذي جرى في شباط / فبراير 1911 في البرلمان العثماني في "استنبول" بدأت الاتهامات بشأن تسلط اليهود على "الجمعية" تستوعب في أوساط العرب، خاصة في أوساط الصحفيين العرب المعارضين لـ"الجمعية"، وطبعاً في أوساط العرب المناهضين للصهيونية .

وكما ورد أعلاه، نشر نجيب نصّار بعد تلك المداولة في البرلمان ملفّه "الصهيونية"، وتبنّى تلك الاتهامات. وفي حينه أشار رشيد رضا، الذي انضم في 1911 إلى معارضي "الجمعية" في أمور كتبها في "المنار" الى أنه لدى إقامته في استنبول قبل ذلك بسنة، انتبه إلى أن تأثير اليهود في "جمعية الاتحاد والترقي" قد تزايد . ولأسباب مفهومة، أقلقت تلك المعلومة الكاذبة بالذات العرب المناهضين للصهيونية، وبشكل خاص القوميين العرب.

وثمة تأثير خارجي آخر أسهم في معارضة العرب للصهيونية، كان متعلقاً بأنشطة جماعات يهودية غير صهيونية، سعت للحصول على إذن لاستيطان يهودي في السلطنة. لأنه، فيما عارضت "جمعية الاتحاد والترقي" الصهيونية فعلاً، فإنها لم تعارض من حيث المبدأ هجرة يهود إلى السلطنة العثمانية بمجملها، وحتى صرح عدد من أعضاء "الجمعية" بدعم استيطان كهذا. أمور بهذا المعنى صدرت عن الدكتور ناظم، أمين سر "الجمعية" في نهاية 1908، وبمرور عدد من الأشهر.، كررها أحمد رضا بك، من قادة " اللجنة" على مسامع الحاخام باشي (الحاخام الرئيسي) في استنبول. وكانت هناك جهات يهودية تمسكت بأقوالهما: "بيكا" حصلت على إذن بمسح أراض في مناطق معينة من العراق وآسيا الصغرى، وفي عام 1909و1910 قدم من برلين إلى استنبول الدكتور ألفرد نوسيغ، وتحدث مع قادة عثمانيين حول "التنظيم اليهودي العام للهجرة"، الذي أنشأه هو وتطلع لتوطين يهود مطاردين في العراق.

لم ينتج شيء من كل هؤلاء، ماعدا الإرباك الذي حصل لدى شخصيات عثمانية عديدة بدأت تتسأل ما إذا كانت "بيكا " والمنظمات اليهودية الأخرى ليست سوى هيئات صهيونية خفيّة. وكان الأشد خطورة أنه في أذهان العديدين ارتبطت مشاريع الصهيونيين بمشاريع الاستيطان في العراق والأمكنة الأخرى، وانضوت في مشروع شامل، وكما ادعى مقال في منشور تركي، "روملي" صدر في سالونيكي في نيسان/ ابريل1911: "من وراء تلك المشاريع يتخفى حلم تأسيس مملكة يهودية ومركزها القدس، والتي تشمل بلاد بابل ونينوى القديمة".

سارع العرب المناهضون للصهيونية للتشبث بتلك الدعوى. وفي ملف "الصهيونية" جهد نصّار، ومن خلال مقاطع من التوراة، لإثبات أن رؤية "عودة صهيون لليهود تشمل لبنان والعراق أيضاً. ولذلك، "يضم (الصهيونيون) "سوريا" إلى فلسطين، وأحياناً "المناطق الآسيوية والشرقية من تركيا". وفي النقاش الثاني حول الصهيونية في البرلمان في استنبول، أيار/ مايو 1911، أعلن المتكلمون العرب الثلاثة كلهم هذا الادعاء.

الصحـــافة العــــربــية:

أدت الصحافة العربية دوراً مركزياً في تطور مقاومة الصهيونية في أوساط العرب. وكانت وسيلة التعبير الرئيسية لإثارة دعاوى العرب المقيمين بعيداً عن فلسطين ضد الصهيونية، والذين لولا الصحافة لكان من المشكوك فيه إن كانت هذه المعلومات ستصل إليهم. وفي منظور تاريخي، توفر لنا الصحافة العربية مقياساً هاماً جداً لتفحص موقف الجماعات العربية المختلفة من الصهيونية. وقد ذكرنا المنشورات العربية في المراكز خارج حدود فلسطين، مثل بيروت والقاهرة وباريس. وعلى مسافة أبعد، ومنذ 1910، بدأت "مرآة العرب" صحيفة المهاجرين العرب السوريين في نيويورك، بنشر مقالات ضد الصهيونية.

وفي أواخر 1910 تركزت غالبية الدعاوى العربية الأولى ضد الصهيونية، ونشرت على يد شكري العسلي في رسالة مفتوحة، بقلمه، ظهرت في صحيفة "المقتبس" بدمشق، وكذلك في صحف أخرى مثل "الكرمل" في حيفا .
في ذلك الوقت، خدم العسلي، سليل عائلة حسيبة من دمشق، حاكماً لقضاء الناصرة، وأدار بالاشتراك مع عرب آخرين نضالاً ضد بيع أراضي الفولة (مرحافيا المستقبلية). ولكونه موظفاً في الدولة، فضل التوقيع على رسالته المفتوحة،باسم مستعار، يذكر بفخار الماضي، من أيام هزيمة الصليبيين على يد "صلاح الدين". وباقتطاف من سفر يرمياهو(32، 54)، ادعى العسلي أن الحركة الصهيونية ــ بالاشتراك مع "بيكا"، "الأليانس" و"العمال" وغيرهم – تحاول تجسيد نبوءة عودة صهيون من خلال شراء الأراضي في فلسطين. ونظام السلطان عبد الحميد قد كبح، حسب قوله، استيطان اليهود، إلا أنه، في النظام الجديد لـ "جمعية الاتحاد والترقي" مكـّن موظفون فاسدون وأصحاب أراض عرب خونة، اليهود من التسلط على مساحات أراض واسعة. وقد وصفت تلك المساحات بأنها "ثلاثة أرباع قضاء طبريا، نصف قضاء صفد، وأكثر من نصف القدس وقضاء يافا، وكذلك الجزء الأهم من حيفا ذاتها، وعدد من القرى في محيطها". وفوق ذلك:
"فاليهود لايختلطون أبداً مع العثمانيين، وكذلك لايشترون شيئاً منهم – فلليهود بنك خاص "بنك أنجلو- فلسطين" الذي يقرضهم المال بفائدة 1%سنوياً".
"ففي كل قرية ومستوطنة أسسوا لأنفسهم مجلساً مركزياً، ومدرسة، وعلى رأس كل مدينة ومدينة، مستوطنة ومستوطنة، يقوم مدير وزعيم"
"ولليهود أيضاً علم بلون أزرق، وفي وسطه "نجمة داوود"، وتحتها كلمة عبرية، معناها "صهيون" على اسم "أورشليم" المكتوب في التوراة، على اسم "بنت صهيون". وهم يرفعون هذا العلم مكان العلم العثماني في أعيادهم واجتماعاتهم، وينشدون النشيد الصهيوني!"
"وعندما يأتي اليهود إلى دوائر الحكومة يقولون بأنهم: مسجلون في قيد النفوس (كرعايا). . . ولكن ذلك كذب ونفاق! هم ليسوا عثمانيين أبداً، وإنما يحتمون في ظل حكومات أجنبية... وعندما يقعون في محكمة عثمانية، فقط عندها ينكشف خداعهم، ويتوجهون فوراً إلى وكلائهم الأجانب للدفاع عنهم، وتبرئتهم من ذنبهم، وإنهاء كل أمورهم وأشغالهم، دون علم الحكومة أبداً".
"اليهود يعلمون أبناءهم الرياضة الجسدية والحرب الخاطفة وقرع التروس. وإذا ذهبت إلى بيوتهم وجدتها مليئة بأدوات القتال والسلاح، والكثير من بنادق "المرتين"، وكذلك بريد خاص وغيره... وكل ذلك ليظهروا لك أن لديهم أيضاً علاجات على أساس مشاريعهم السياسية وتأليف حكومتهم الكاذبة والخيالية".
وفي نهاية الرسالة المفتوحة يحذر العسلي من أنه إذا لم تضع الحكومة العثمانية نهاية لهذا التيار الجارف من المستوطنين اليهود، لن يمر وقت طويل قبل أن تتحول فلسطين إلى ملك المنظمة الصهيونية وشركائها، وحتى في أيدي الأمة اليهودية".
ومن الجدير تلخيص ادعاءات العسلي كما طرحها: يدّعي اليهود بالحق الإلهي على فلسطين؛ الصهيونيون سوية مع جماعات يهودية غير صهيونية أخرى، يعملون بجدّ لتجسيد هذا الحق؛ وهم ليسوا موالين للسلطنة العثمانية؛ ويحملون جوازات سفر أجنبية، ويستغلون حقوقهم المفضلة بحسب "الامتيازات"؛ وامتلكوا مساحات واسعة من الأراضي. ويحاولون شراء أكثر بكثير؛ لا يختلطون بالسكان المحليين؛ ولديهم أهداف سياسية خاصة؛ ولديهم رموز قومية؛ وهم يعملون بجد على صياغة مؤسسات حكم ذاتي ودفاع ذاتي؛ والحكم الجديد في السلطنة لا يوقف الاستيطان اليهودي في فلسطين؛ والموظفون فاسدون، وأصحاب الأراضي العرب خونة – البلاد ضائعة إلا إذا اتخذت إجراءات.

من الواضح أن الكثير مما كتبه العسلي منحاز، والقليل حتى غير صحيح، وعلى سبيل المثال مبالغته الزائدة في مسألة ملكية اليهود لأراض واسعة في فلسطين في 1911. ولكن هذا ليس الجوهري في الأمر هنا، حيث بالفعل كانت هذه هي الادعاءات، وهذه كانت الصيغة التي عرضت فيها منذئذ، مرة تلو الأخرى، من قبل العرب،صحفيين وغيرهم، ممن يكتبون ضد الصهيونية.

وتجدر الإشارة هنا إلى تزايد مسار تدخل الصحافة العربية في مسألة الصهيونية. ففي 1909 شغلت المسألة بالأساس الصحف الصغيرة في القدس، يافا، وحيفا، والأهم فيها كانت "الكرمل" لنجيب نصّار. وفي أعقاب شكاوى من قبل اليهود على مقالات نشرت في هذه الصحيفة، أُوقف إصدارها مؤقتاً في بداية صيف 1909، وأعيد إيقافها ثانية في شتاء تلك السنة. وقدمت شكوى قضائية ضد نصّار بسبب مقال نشره في شباط/فبراير1910، ولكن في 30 أيار/ مايو برّئ بحجة أنه قلق لخيرة مصالح السلطنة. وأحد العاملين في المحكمة برر الحكم بأن نصّار يهاجم الصهيونية فقط، و"بصدق" بينما "بقية الأمور غير هامة في مقالاته ولا قيمة لها".

وهكذا استمر نصّار في حربه على الصهيونية. ويبدو أنه كان ذا مزاج نشط، وقد حزم أمره لتوصيل قضيته إلى جمهور أوسع . وسنحت له الفرصة في أواسط سنة1910، عندما بدأ نجيب الأصفر (صاحب أملاك بيروتي)، مفاوضات مع الحكومة لشراء أراضي الدولة (الجفتلك) في ولاية الشام (سوريا) وفلسطين . وباستغلال الإشاعة بأن الأصفر يعمل نيابة عن اليهود، أقنع نصّار محرري ثلاث صحف بيروتية: ("المفيد" "الحقيقة"، "الرأي العام")، وصحيفة واحدة في دمشق" المقتبس"، بالانضمام إلى معركته مع الصهيونيين.
ومن زاوية إضافة الوزن لحملته، كان انضمام تلك الصحف بمثابة تعزيز ملموس. كانت "الكرمل" نشرة صغيرة، تصدر كل أسبوعين، ويحررها مسيحي، حلقة قرائه المحدودة بالتأكيد لم تتجاوز حدود حيفا وشمال فلسطين. في المقابل كانت الصحف الأربع المذكورة هنا كبيرة نسبياً، وكل محرروها مسلمون،. "المقتبس" في دمشق كانت الأهم بينها لأن محررها محمد كرد علي، الذي كان شخصية هامة في الأدب العربي. إضافة إلى ذلك، كانت جميع تلك الصحف يومية، ماعدا "الحقيقة" التي كانت أسبوعية.
دائرة الصحف التي كتبت عن الصهيونية خارج حدود فلسطين اتسعت أكثر في النصف الأول من 1911، في أعقاب نقاشين بهذا الأمر في البرلمان . ففي الصيف جددت بعض الصحف العربية هجماتها على نجيب الأصفر ومشروعه. وفي آب/أغسطس أفاد القنصل البريطاني في دمشق بأن الأصفر أرسل وكيلا، دكتور حيدر من بعلبك، ومهمته كانت إسكات تلك الصحف من خلال عرضه أسهماً من مشروعه على محرريها. وفي أعقاب ذلك توقفت الهجمات على الأصفر – ولكن ليس الهجمات على الصهيونيين.
في تشرين الثاني/نوفمبر 1911، تأسس حزب سياسي جديد، "الوحدة الليبرالية"؛ ضم في داخله غالبية معارضي "جمعية الاتحاد والترقي" في البرلمان، وأربك الحكومة. وقد انضمت إليه غالبية المندوبين العرب، ودعمه العديد من الصحف العربية. وبعد هزيمة خطيرة في الانتخابات الفرعية في استنبول، وفي أعقاب الإدلاء بنقد علني من جانب رجال سلطة عبد الحميد السابقة، حلت "الجمعية" البرلمان واستعدت لانتخابات عامة جديدة. وكانت حملة الانتخابات مريرة. وفي مسارها استغلت صحف عربية عديدة، من معارضي "الجمعية" الاتهامات بأنها تساعد الصهيونيين في فلسطين، وفي أعقاب ذلك لم تستطع أية صحيفة عربية في ربيع سنة1912، سواء في فلسطين أو محيطها، اتخاذ موقف سياسي، متجاهلة موضوع الصهيونية.
وفي نهاية 1911 بدأ المكتب الصهيوني في يافا يتعقب بشكل منهجي الصحافة العربية، وفي النصف الأول من 1912 جرى تشريح دقيق للمنشورات الصادرة بانتظام في بيروت، دمشق والقاهرة، ومن هذا التحليل برزت استنتاجات معينة في مسألة موقفها إزاء الصهيونية.
وللإطلال على تلك الاستنتاجات بمنظور صحيح، يجب البدء بصحف فلسطين. ففي 1912كانت في البلد صحيفتان عربيتان هامتان "الكرمل" في حيفا و"فلسطين" في يافا. وقد قيل الكثير عن "الكرمل" ويكفي أن نقدم كمثال في هذا السياق الحادث البسيط، ولكن المنير للعيون. ففي نيسان/ ابريل1912، اتهم نجيب نصّار حاكم عكا بمساعدة اليهود في صفقات أراض مختلفة، فقاضاه الحاكم. إلا أن الحاكم خسر في المحكمة. وكما حدث في 1910 برّئ نصّار بحجة أنه كتب ما كتب كما يليق بعثماني "موال ٍوصادق".
بدأت صحيفة "فلسطين" بالظهور في يافا في كانون الثاني/ يناير1911. وكانت تصدر مرتين في الأسبوع، وصاحباها ومحرراها هما الأخوان: عيسى داوود العيسى، ويوسف العيسى . وكانا من أبناء الطائفة الأرثوذوكسية، وهما شابان لم يخفيا آراءهما، واختلفا مراراً مع القيادة الروحية لطائفتهما. ومنذ بداية ظهورها، دعمت صحيفتهما "جمعية الاتحاد والترقي". وفيما يتعلق بموضوع الصهيونية، يبدو أنه لم يكن للصحيفة في البداية موقف مبلور. وفي السنة الأولى نشرت مقالات مناهضة للصهيونية، إلا أنه ظهرت فيها أيضاً مقالات بإيحاء اليهود، وحتى مقالات كتبها يهود.
وعند الانتخابات العامة في ربيع 1912، مالت الصحيفة إلى تجاهل مسألة الصهيونية، الخط الذي انسجم مع سياسة الصحف الأخرى الداعمة لـ"الجمعية" خارج فلسطين. إلاً أنه منذ بداية صيف 1912 بدأت الصحيفة تنشر مقالات توضح أن المحررين قررا اتخاذ موقف حازم من هجرة اليهود والنشاط الصهيوني في فلسطين. ومنذئذ تعاظمت مقاومة الصحيفة للصهيونية، وفي ربيع 1914، اعتبرها مراقبون يهود معادية أكثر من "الكرمل".
كان موقف "فلسطين" مختلفاً عن موقف "الكرمل" من ناحية واحدة هامة. نجيب نصّار قاوم الصهيونية من دافع مزدوج من الولاء للعثمانيين ووطنية محلية ( على الأقل حتى نهاية سنة 1913، عندما تبدل الولاء للعثمانيين بالقومية العربية)، فيما المقاومة من جانب "فلسطين" نبعت كلها من الوطنية المحلية. ويشار أيضاً إلى أنه حتى نهاية 1913 قدمت "الكرمل" دعمها لـ"جمعية الاتحاد والترقي"، فيما بقيت "فلسطين" موالية لــ"الجمعية " حتى صيف 1914. وهكذا يمكن التلخيص وتحديد أنه في غالبية الفترة قيد البحث كانت الصحيفتان العربيتان الرئيسيتان في فلسطين (وكلاهما بتحرير مسيحي) متعاطفتين مع "جمعية الاتحاد والترقي" ومقاومتين للصهيونية وإن من زوايا مختلفة.
في بيروت ودمشق كان الاتجاه مختلفا. وتفحص الصحف في هاتين المدينتين، والذي جرى في المكتب الصهيوني في يافا، أفاد بأن الصحف التي حررها مسيحيون كانت في الغالب متعاطفة مع "جمعية الاتحاد والترقي"، بينما هي في المسألة الصهيونية كانت محايدة، وحتى– بشكل غير مباشر– متعاطفة مع الصهيونية . ومن جهة أخرى الصحف التي حررها مسلمون ( الغالبية بين 24 منشورا جرى استعراضها) كانت دون استثناء تقريبا ضد "جمعية الاتحاد والترقي" وضد الصهيونية .
وفي أساسه نبع هذا الوضع من أنه بالنسبة إلى غالبية تلك الصحف، لم تكن الصهيونية بمثابة مسألة مبدئية كما كانت بالنسبة إلى "الكرمل" و"فلسطين" في فلسطين، وإنما مسألة سياسية حزبية. هذا وبعد: بما أن منتقدي "الجمعية" هاجموها على دعمها – المفترض - لليهود في فلسطين، فإن المتعاطفين مع"الجمعية" في الصحافة حاولوا دحض تلك التهمة. ولكن الأمر لم يستنفذ بذلك أيضاً. ففي استعراض المكتب الصهيوني وردت الإشارة إلى أن الصحف المسلمة في بيروت ودمشق مالت للعداء تجاه المسيحيين والأوروبيين أيضا. بعبارة أخرى: تحفظوا على كل شيْ ليس مسلما وليس عربيا، والمحررون المسيحيون، الذين قلقوا من هذا المزاج في أوساط المسلمين، بحثوا عن ملجأ في دعم الحكومة. وطبيعي أن يعتقدوا أن "أعداء أعدائي هم أصدقائي"، وبذلك كانوا مستعدين حتى للتعبير لصالح الصهيونيين . وقد عبر عن هذا الموقف بوضوح تقريبا قوميون عرب مسيحيون، أوضحوا لممثلين صهيونيين في 1913 أنهم يرحبون بتواجد أكبر لليهود في فلسطين كوزن مقابل للمسلمين. وبالاختصار، تأثر موقف الصحيفة في بيروت ودمشق إزاء الصهيونية بديانة المحرر إلى حدّ لا يقل عن ميوله السياسية؛ وعلى أية حال، كانت بين الدين والموقف السياسي على العموم علاقة وثيقة.

في القاهرة كان الأمر مختلفا. غالبية الصحف المصرية كانت ذات توجه محلي، وتعرضت لذكر الصهيونية في أحيان متباعدة فقط. وخرجت عن هذه القاعدة ثلاث يوميات كبيرة في القاهرة – "المحروسة" و"المقطم" و"الأهرام". وثلاثتها حررها عرب مسيحيون من إقليمي بيروت والشام (سوريا)، وكانت مهتمة بالسياسة في الأقاليم العربية من السلطة العثمانية، حيث كانت لتلك الصحف حلقات قراء واسعة. ولكونها خارج متناول يد الرقيب العثماني، عبرت تلك الصحف في مقالاتها عن المرارة العربية من "جمعية الاتحاد والترقي"، وحوالي1912 تعاطفت على درجة ما مع القومية العربية المتكونة.

"المحروسة "جاءت مرارا على ذكر الصهيونيين، ومن دون دعمهم كانت مستعدة للاعتراف بالفائدة التي جلبوها إلى فلسطين . "المقـــــطم" كانت محايدة في هذا الشأن. وعلى أية حال، كانت الصحيفتان مستعدتين لنشر مقالات "أثنت على الصهيونية، كتبها يهود مصريون، ونسيم ملول، الفلسطيني الذي كان مراسلا للمقطم في يافا". وهكذا كانت هاتان الصحيفتان المسيحيتان ضد "جمعية الاتحاد والترقي" وفي قضايا الصهيونية محايدتين، أو حتى متعاطفتين بشكل غير مباشر، وبذلك تمايزتا عن الصحف المسيحية في فلسطين (التي كانت متعاطفة مع "الجمعية" ومعارضة للصهيونية، وحتى عن صحف بيروت ودمشق (التي كانت متعاطفة مع "الجمعية" ،ولكنها كانت محايدة أو متعاطفة بشكل غير مباشر مع المسألة الصهيونية).

في المقابل، كانت "الأهـــرام" ضد الصهيونية بالمطلق. ولكونها تميل إلى القومية العربية أكثر من الصحيفتين الأُخريين، فقد كشفت عن موقفها السلبي من الصهيونية، حتى قبل "ثورة تركيا الفتاة". وفي عام1909 ادعت الصحيفة أن لليهود هدفاً خفياً وسرّياً وهو إقامة مملكة مستقلة في فلسطين، وكان رأي الصحيفة بأنه يجب الضغط على حكم "جمعية الاتحاد والترقي" كي توقف نشاط الصهيونيين، وإلا ستكون النتائج مؤسفة. وهكذا جرى أن كانت "الأهرام" على الرغم من أن محررها كان مسيحيا، معارضة لـ "جمعية الاتحاد والترقي" وأيضا للصهيونية على عكس "المحروسة " و"المقطم"، فكانت من هذه الناحية مشابهة للصحف المسلمة في بيروت ودمشق.

نحـــــو اتــــــفاق :


حزب "اللامركزية" الذي تأسس في القاهرة عام 1912 و"جمعية الإصلاح" البيروتية التي تأسست في بداية 1913. كانا من الجمعيات القومية العربية الصغيرة التي تشكلت في السنوات السابقة للحرب العالمية الأولى. وكانت مطالبهما معتدلة أساسا.، وعبرت عما يرمز إليه اسميهما: لامركزية الحكم وإصلاح الإدارة في إطار السلطنة العثمانية. وفي شتاء 1912-1913توجهت تلك الجمعيات إلى الممثلين البريطانيين والفرنسيين في القاهرة وبيروت طالبة الدعم في "الصراع مع الأتراك." وكما يبدو، فإنها في هذا السياق آمنت أيضا بإمكان إفادة ما من الاتصال بالصهيونيين.
وعلى ما يبدو، كانت هناك ثلاثة عوامل حركتها باتجاه هذا المنظور.
أولا، قـلة فقط، وربما لا أحد من أعضاء"اللامركزية" في القاهرة، و"جمعية الإصلاح" في بيروت كان من أصول فلسطينية، وبمدى ما يمكن استيضاحه - لم يكن لهم تواصل مباشر مع المهاجرين اليهود هناك. تكلموا عن أنفسهم في اتصالاتهم مع الصهيونيين على أنهم "سوريون"، وطوروا منظوراً واسعاً، ليس فلسطينيا، بالنسبة إلى مسألة الصهيونية . ثانياً، يبدو أنهم كونوا انطباعا عن انجازات الاستيطان الجديد، ينطوي على معرفة تقنية حديثة. ثالثاً، كان الأساس الإيديولوجي للتواصل مع الصهيونيين قد أعد في 1911 على يد رشيد رضا ،الذي انتمى إلى حاملي لواء اللامركزية . ففي مقال طويل في "المنار" حول التحسين المادي لسوريا، أوضح رشيد رضا بأنه على السوريين أن يعملوا إلى جانب الأوروبيين، كي يتعلموا منهم، إضافة إلى أن عليهم الحصول على مساعدة مالية من الأوروبيين، خاصة من اليهود، شريطة الحؤول دون "الخطر الصهيوني"، (بمعنى – وقوع البلد في أيدي مقرضي المال اليهود ). وبناء على شهادته الذاتية وصل رضا في ربيع 1913 إلى نتيجة، بأن على العرب أن يعقدوا اتفاقاً مع الصهيونيين.
الاتصالات لتحقيق " اتفاق " بين الزعماء العرب وبين المنظمة الصهيونية وصفت بتوسع في مكان آخر. ونكتفي هنا بوصف قصير جدا لتلك الاتصالات وإلقاء الضوء عليها من الجانب العربي.
جرت الاتصالات في جولتين، الأولى في شباط/ فبرايرــ حزيران/ يونيو1913، والثانية في نيسان/ابريل – تموز/ يوليو1914. وافتتحت الجولتان بمبادرة عربية، واستجاب القادة الصهيونيون إليها فورا . وافتتحت الجولة الأولى، كما ذكر، عندما بدت لقادة "اللامركزية "ضرورة وجود حلفاء لهم في نضالهم ضد الحكومة العثمانية. وبالمحادثات في القاهرة وبيروت، وافق أولئك القادة العرب في "اتفاق شفوي" على العمل لوقف الدعاية ضد الصهيونية، مقابل دعم من قبل الصهيونية في استنبول، عبر صحيفة تتمتع بدعم الصهيونيين، "جان ترك"، طالما ظلت المطالب العربية لا تلحق ضررا بوحدة السلطنة العثمانية. وكذلك مقابل جهد من جانبها للتأثير على صحف في أوربا للسلوك بصورة مشابهة. وفي الربيع وبداية الصيف، اتخذت خطوات لتجسيد هذا التفاهم في صحيفة "جان ترك"، كما في الصحافة العربية.
في المؤتمر العربي الأول، الذي عقد في حزيران / يونيو في باريس، حضر مراقب صهيوني من وراء الكواليس، إلا أنه، بعد اختتام المؤتمر، توصل رؤساؤه إلى اتفاق مع ممثلي "جمعية الاتحاد والترقي" بشأن تلبية مطالبهم – وهكذا فقد القوميون العرب الاهتمام بالحصول على "توافق" مع الصهيونيين، إلا أن هذا الأمر لم ينطفئ تماما.
الجولة الثانية: بدأت في نيسان/ابريل1914، عندما اتضح للعرب أن "جمعية الاتحاد والترقي" لا تفي بالاتفاق الذي تم التوصل إليه في باريس. وقد ميز هذه الجولة أمران: الأول، الاستعداد من جانب حلقة أكثر اتساعا من العرب للنظر في إمكانية التوصل إلى اتفاق مع الصهيونيين؛ الثاني، اعتراف العرب أن موقف عرب فلسطين قد يكون مختلفا عن موقف العرب في أماكن أخرى، وأن عليهم أخذ الموقف الخاص لعرب فلسطين في الاعتبار
في المحادثات الأولية اتُّفق على عقد لقاء صهيوني - عربي في تموز/ يوليو في "برمانا"، ليس بعيدا عن بيروت. إلا أنه سرعان ما برزت الصعاب:
(أ) أبدى حاكم بيروت معارضة لعقد اللقاء بالذات
(ب) كان جدول الأعمال الذي اقترحه العرب وصفة للفشل، لأنهم اقترحـوا أن يوضح الصهيـونيون أهدافـهم وسبل عملهم، بالاستعانة القصوى بالوثائق، وفقط بعد ذلك يبلور العرب مطالبهم. وموافقة الصهيونيين على القبول بتلك المطالب هي التي تحدد ما إذا كان العرب يرون بالصهيونية حركة ضارة أم لا.
(ج) التركيب المقترح للتمثيل العربي في المحادثات لم يضمن نجاحا، لأن بين الممثلين المقترحين كان ثلاثة معارضين لدودين للصهيونية، فيما لم يكن هناك أي ممثل معروف من عرب فلسطين.
وكان واضحا للقادة الصهيونيين أن لا فائدة ترجى من اللقاء، ومن الأفضل ألا يعقد. لذلك، اتخذ القرار بإرسال بعثة صغيرة للعمل على تأجيل اللقاء. وجاء انفجار الحرب العالمية ليضع حدّا للاتصالات التي لم يعد لها معنى.
وإلى هذا العرض المختصر من الاتصالات للتوصل إلى "اتفاق" بين قادة عرب وصهيونيين، تجدر إضافة تفاصيل تلقي الضوء على الجانب العربي.
في المحادثات الإعدادية في القاهرة وبيروت في ربيع1913، التقى سامي هوخبرغ، محرر صحيفة "جان ترك" ومبعوث المكتب الصهيوني المركزي، مع عشرين زعيماً عربياً، وميز في داخلهم أربعة مواقف أساسية . لدهشته اتضح له أن الموقف الأكثر إيجابية بالنسبة إلى الاستيطان الجديد في فلسطين كان لدى المسيحيين اللبنانيين . وقد أوضحوا له أنهم كأقلية تقيم في سوريا،يرون بإيجابية: هجرة يهود إلى فلسطين، وحكم ذاتي يهودي فيها، كونهم سيشكلون وزنا مضادا للغالبية المسلمة، وسيتكّون بهم حاجز داخل الكتلة الإسلامية المتواصلة الممتدة على المساحات الواسعة التي تضم العراق، سوريا، مصر، الحجاز واليمن.
المواقف الثلاثة الأخرى كانت قومية عربية – مسلمة . كان عدد منهم مستعداً للموافقة بلا تحفظ، على هجرة اليهود إلى فلسطين. آخرون وافقوا بشروط معينة، مثل تحديد سقوف سنوية للهجرة وامتلاك الأراضي. زعيمان مسلمان فقط أعلنا معارضتهما المبدئية لاستيطان اليهود في فلسطين، خشية تفتيت الكتلة العربية المتواصلة، التي تستمد قوتها من وحدة اللغة وأسلوب الحياة. والانطباع العام الذي شكله هوخبرغ كان أن غالبية أعضاء حزب "اللامركزية" في القاهرة، و"جمعية الإصلاح" في بيروت، يرغبون في تحقيق "اتفاق" مع الصهيونيين.
كان هوخبرغ قد حضر كمراقب المؤتمر العربي في باريس في صيف 1913. وبعد يومين من اختتام المؤتمر، اقترح عليه عبد الحميد زهراوي، رئيس المؤتمر وأحد القادة العرب في استنبول، عبد الكريم الخليل، اقترحا عليه البحث في اقتراح سري باتجاه التوصل إلى اتفاق رسمي . وفيما كان ينتظر تعليمات من المكتب الصهيوني المركزي في برلين، استلم هوخبرغ تصريحا من الزهراوي، على صورة مقابلة مع " جان ترك" ورد فيها:
"خلال المؤتمر عرضت صيغة جديدة، وقد حظيت بدرجة ملحوظة من النجاح، لأنها انسجمت جيدا. مع عقلية المندوبين وروحهم" . وهي كالتالي:
"اليهود في كل العالم ليسوا سوى مهاجرين سوريين، مثلهم مثل المهاجرين السوريين المسيحيين في أميركا، في باريس وأمكنة أخرى، وهم ( اليهود) يتوقون مثلهم إلى أرض وطنهم. ونحن متأكدون أن أخوتنا اليهود في العالم بأسره سيساعدوننا لتحقيق النصر لشأننا المشترك وإعادة بناء بلدنا المشترك، سواء من الناحية المادية أم المعنوية"
هذا التصريح الذي نشر في "جان ترك" في 16/ تموز/ يوليو1913، يعكس أكثر من سواه المقاربة "السورية" الواسعة التي اتخذتها غالبية القوميين العرب إزاء الصهيونية في تلك الفترة.
ثمة ظاهرة لافتة للاهتمام تختلف في القوس الواسع من الشخصيات العربية، في استنبول، في القاهرة، في بيروت ودمشق وفلسطين، ممن شاركوا في الجولة الثانية من الاتصالات في 1914. وكانت لديهم مفاهيم مختلفة في مسألة نوعية "الاتفاق" المرغوب بين العرب والصهيونيين، وفي عدد من الحالات لم تكن الدوافع واضحة بما فيه الكفاية.

رفيق بك العظم، رئيس حزب "اللامركزية" أوضح في رسالة في 30 تموز/يوليو 1914: أنه ينظر إلى الصهيونية على مستويين: أولاً، للنتائج التي قد تتمخض عنها بالنسبة إلى السكان المحليين في فلسطين؛ وثانيا، للنتائج بالنسبة إلى "القضية العربية" العامة، وحزب "اللامركزية" أراد أن يأتي الصهيونيون إلى القاهرة للبحث في الجانب الفلسطيني من المشكلة، وقام بترتيبات لقدوم شخصيات "ذات شأن حقيقي" من فلسطين للمحادثات في القاهرة، لأن من المهم جدا رضا تلك الشخصيات. " وإذا خلطنا منذ البداية المنظورين في قضية واحدة، وإذا أعلن السكان المحليون (من فلسطين) أنهم ليسوا راضين، ستذهب كل الجهود هباء – على ( الصهيونيين) أن يفهموا ذلك . وبلغة أخرى: سعى رفيق بك إلى "اتفاق" مع الصهيونيين من أجل نهضة سوريا، بشرط واضح هو الحصول على موافقة عرب فلسطين أولاً.
ومفهوم آخر كان لدى المفكر الإسلامي في القاهرة، رشيد رضا، الذي أوضح لنسيم ملول في 1 حزيران /يونيو1914، أنه يدعم "الاتفاق"، ليس فقط للعمل من أجل تحرير العرب من الحكم العثماني، وإنما أيضاً لإحباط دسائس بعض العرب المسيحيين الذين شُكّ بأنهم يريدون تسلط دول أوروبا الكبرى على الأقاليم العربية من السلطنة العثمانية.

من الأكثر صعوبة تفسير حقيقة أن ثلاثة من مناهضي الصهيونية الألداء في فلسطين - عبد الله مخلص ( أحد أصحاب "الكرمل")، يوسف العيسى, (محرر"فلسطين")، وجمال الحسيني (شاب مقدسي، أصبح لاحقاً نشيطاً سياسياً في فترة الانتداب) - كانوا مستعدين للموافقة على المشاركة في اللقاء المبرمج في برمانا، صيف سنة 1914. وقد يكون مفتاح فهم هذه المسألة هو ماورد في جدول الأعمال المقترح، والذي يفهم منه بناء على صيغته، بأن هؤلاء المشاركين لم يرغبوا أبداً في "الاتفاق" العربي – الصهيوني. وإنما سعوا، كما يبدو لكشف أهداف الصهيونية. فلأي قصد آخر، مثلاً، كان من شأن هؤلاء مطالبة الصهيونيين تقديم أدلة مكتوبة حول طبيعة أهدافهم ؟.
ومنذ أن نشر نجيب نصّار في 1911 ملفه "الصهيونية" (المستقى، كما ذكر أعلاه في جزئه الأكبر من مقالة ريتشارد غوتهايل) تابعت الصحافة العربية عن قرب بيانات ومنشورات صهيونية، وصار من السهل تبيان أن الأهداف الحقيقية للحركة الصهيونية على عكس سياستها المعلنة، كانت إقامة دولة يهودية مستقلة في فلسطين. وبالفعل، ألم يكن الصدام واقعاً لا محالة تقريباً، لو كان موقف العرب إزاء الصهيونية، بناء على جدول الأعمال، يتوقف على قبول المطالب العربية من الصهيونيين - وتلك المطالب لا تصاغ إلا بعد أن يفصل الصهيونيون أهدافهم. وإذا كان هذا الشك مبرراً، فعندها نرى أن المناهضين البارزين للصهيونية الثلاثة في البعثة العربية، لم ينضموا للبحث في التوصل إلى "تفاهم"؛ لقد انضموا لوضع الصهيونيين في الاختبار .

المندوبون السبعة الآخرون، الذين كان من المتوقع قدومهم إلى اللقاء هم: نظيف بك الخالدي (مقدسي، كان في 1914 المهندس الرئيسي لبلدية بيروت)، أحمد بيهم بك ورزق الله أرقش (كلاهما كانا سابقاً عضوين في "جمعية الإصلاح " البيروتية)، حسن عصير ( من مؤيدي جمعية الاتحاد والترقي في بيروت)، محمد كرد علي وعبد الرحمن الشهبندر ( كلاهما من دمشق، الأول مناهض معلن للصهيونية)، وأحمد حبش ( الذي هو أيضاً من دمشق، وقيل عنه أنه "إصلاحي"). وكانت لغالبيتهم كما يبدو نظرات إيجابية أكثر بالنسبة إلى الاتفاق. ولم تكن مواقفهم معروفة، ولكن لضرورات التسجيل التاريخي يمكن استخلاص فائدة من ملاحظة ناحوم سوكولوف(14) حول هذا الموضوع. فقد أجرى سوكولوف اتصالاً مسبقا مع عرب في بيروت ودمشق . وفي حزيران/ يونيو1914 أبدى ملاحظة بأن مطالبهم الأساسية مطابقة لمطالب العرب في استنبول، ومطالب العرب في استنبول معروفة . وبالفعل، وبعد محادثات في نيسان/ابريل وأيار/ مايو، كان بإمكان فكتور يعكوبسون مدير "بنك أنكلو - فلسطين" في استنبول، الذي كان في الواقع ممثل الصهيونية الرئيسي في العاصمة، أن يلخصها كما يلي:
أ ) أن يصبح يهود فلسطين عثمانيين .
ب) عدم تحديد هجرة اليهود وتوطينهم في فلسطين فقط .
جـ) إدارة حياة مجتمعية مشتركة.
د) تأمين أفضليات معينة لتطور القومية (العربية) .
وقد أبدى هؤلاء العرب في استنبول تفهماً لادعاء يعكوبسون، الذي كان يرى أن فلسطين هي جزء صغير فقط من المساحات العربية، وإذا كان العرب يتطلعون إلى الحكم الذاتي في المستقبل فليس من الحكمة من جانبهم أن يكوموا العقبات في طريق مهاجرين يهود ويحرموا بذلك العالم العربي كله، خارج حدود فلسطين، من المزايا التي قد يحصل عليه من دخول هؤلاء اليهود. وعلى أية حال، فقد آمن هؤلاء، مثل رفيق بك العظم في القاهرة، أن التعاون من جانب عرب فلسطين حيوي بلا شك. وهكذا كان غياب تمثيل مناسب لأولئك العرب – عرب فلسطين ــ من قائمة الممثلين للقاء في برمانا واضح بما فيه الكفاية.

نحــــو الصدام:

بقيت أسئلة كثيرة بلا أجوبة . لكن أحدها الأكثر إثارة للاهتمام هو هذا: نسأل من أجل الأخذ والرد، لو كان عقد في صيف 1914، سواء في برمانا أو القاهرة، أحد اللقاءات المقترحة بين العرب والصهيونيين، هل كان الطرفان سيتوصلان إلى "تفاهم" عربي - صهيوني حقيقي؟ الجواب، كما يبدو، يجب أن يكون سلبياً.
وبحسب المعلومات المتوفرة لا يمكن استيضاح لماذا لم تكن أية شخصية عربية بارزة من فلسطين ( مثل مندوب برلمان، أو ممثل زعامة محلية) مستعدة للقدوم إلى برمانا؟ ومن الممكن أن الوجوه الأكثر أهمية أحسوا أنه: من الأنسب لهم الانتظار ورؤية ما يجري في برمانا، وبعد ذلك يأتون إلى اللقاءات القادمة. ومن الممكن أنهم تعهدوا، بناء على طلب رفيق بك العظم، بالقدوم إلى القاهرة، وكانوا يتوقعون دعوة من جماعة "اللامركزية". غير أن ما يمكن قوله بالتأكيد أنهم كمجموعة كانوا قد أصبحوا معارضين للصهيونيين، سواء بسبب الولاء للعثمانيين أو بسبب الوطنية المحلية، أو كليهما معاً. ومن هنا لم يكن بمقدور الصهيونيين أن يسكنوا روعهم، أو حملهم على توقيع اتفاق قابل للتنفيذ.
وثانياً، وقبل ربيع أو صيف 1914 بدأ في داخل "اللامركزية" اتجاه لمعارضة اتفاق كهذا، على الرغم من جهود رفيق بك العظم لعقد لقاء في القاهرة. إبراهيم النجار الذي أيد اتفاقاً ما في 1913، وكتب إلى هوخبرغ في شأن اتفاق كهذا، نشر في 11 نيسان/ ابريل 1914 مقالا مطولا في"الأهرام" ضد الاتفاق، بدعوى أن اليهود عقدوا حلفاً مع الحكومة العثمانية. وفي نفس الوقت، كتب محمد المحمصاني في بيروت، وهو أحد الطلاب المنظمين للمؤتمر العربي الأول في باريس، وعضو "اللامركزية"، كتب سلسلة مقالات في "فتاة العرب" (بيروت)، ادعى فيها أن " التفاهم" مع الصهيونيين غير ممكن.
عضو آخر في"اللامركزية" محمد الشنطي، محرر "الإقدام" في القاهرة، كان عدوّاً معلناً للصهيونية، وهاجمها بلا هوادة في شهري حزيران /يونيو- وتموز/ يوليو، عندما وافقت صحف أخرى في القاهرة على التوقف عن مهاجمتها إلى أن يتم اللقاء العربي – الصهيوني. وكان الأمر الأكثر أهمية في بداية الصيف ابتعاد حقي بك العظم، سكرتير " اللامركزية" عن دعم الاتفاق مع الصهيونيين. وفي نهاية الصيف فعل رشيد رضا مثله. وكلاهما اتهما الصهيونيين بالتطلع إلى إقامة دولة يهودية من فلسطين إلى العراق (حتى الفرات، كما صاغ ذلك رضا). وذهب حقي بك العظم إلى أبعد من ذلك إذ، طالب باستخدام القوة ضد الصهيونيين.
وفي كتاب إلى رفيق في" اللامركزية" ببيروت بتاريخ 20 حزيران/ يونيو، كشف حقي بك أنه لم يشارك رفيق بك الرأي بشأن اللقاء العربي – الصهيوني. وإذا كان لم يعترض على الاقتراح بصراحة، فيعود ذلك إلى أن لقاء كهذا لا يضر بشيء، ولكن لن يحقق شيئاً أيضاً.

"اعلم أيها الأخ العزيز، أن (الصهيونيين) يسيرون نحو هدفهم بوتيرة سريعة نظراً لمساعدة الحكومة ولامبالاة السكان المحليين. وأنا متأكد أننا إذا لم نفعل شيئاً من المطلوب في الظرف الراهن، فإنهم سيحصلون على هدفهم خلال بضع سنوات في فلسطين، التي سيقيمون فيها (دولة يهودية). وعندها يتحركون باتجاه سوريا. وبعدها باتجاه العراق، وهكذا يجسدون مشروعهم السياسي. إلا أنه من خلال استخدام وسائل التهديد والمطاردة - وهذه الوسيلة الأخيرة هي التي من واجبنا استخدامها - من خلال دفع السكان العرب لتدمير مزارعهم وإحراق مستوطناتهم، ومن خلال تشكيل عصابات لتحقيق هذه المشاريع، فإنه ربما يهاجر الصهيونيون من فلسطين إنقاذاً لحياتهم".

بعد شهرين انضم رشيد رضا علناً إلى"اللامركزيين" في مقاومة الصهيونيين. وفي الصيف ترجمت "فلسطين" مؤلف مناحم أوسشكين(15) "برنامجنا"، وفي نهاية آب/ أغسطس نشر في "المنار" ملخص الأجزاء الثمانية الأولى من المؤلف. ولاحظ رضا أن في هذا الملف ما يكفي لإظهار أنه إذا حصل الصهيونيون على ما يريدون، فلن يستطيع أي مسلم أو مسيحي البقاء في "أرض الميعاد" الممتدة حسب التراث اليهودي – إلى نهر الفرات. وفي سفر التثنية أمر الله اليهود بإبادة جميع سكان أرض الميعاد؛ وهاهم الآن مستعدون للقيام بذلك ثانية. ليس بالنار ولا بالسيف، وإنما بالمال والخديعة، حتى يعيش اليهود وحدهم في "مملكتهم الجديدة".

ولمحاربة "الخطر الصهيوني" هناك دلالة في كلام رضا؛ بتحكيم العقل والحزم ومنعة الجمهور... والإسراع في تنظيم وسائل الدفاع... بالأعمال والنشاطات، وليس بالأقوال والكلمات التي لا طائل تحتها.
وفوق ذلك بدأ عدد من الشباب العرب في فلسطين الانخراط في الحركات القومية. وكان من عدادهم: عارف العارف ( مقدسي، في حينه تلميذ في استنبول)، وعوني عبد الهادي (نابلسي، أحد الطلاب الذين نظموا المؤتمر العربي الأول في باريس) وجميل الخالدي (مقدسي، كان في السابق عضواً في "المنتدى الأدبي": (جمعية ذات ميول قومية في استنبول)، وأحد الممثلين الذين كان المفترض أن يشاركوا في اللقاء المقترح في برمانا)، وسيف الدين الخطيب (من حيفا)، وعلي النشاشيبي ( من القدس)، وكلاهما شنقا في 1915 بأمر جمال باشا عقاباً على النشاط القومي.

ومنذ 1913 أسهم عارف العارف بكتابة مقالات ضد الصهيونية في الصحافة العربية الفلسطينية. وعلى سبيل المثال، في كانون الثاني/ يناير من تلك السنة ادعت صحيفة "فلسطين" رداَ على عدد من استملاكات الأرض الجديدة على يد اليهود، أنه " إذا استمر هذا الوضع، فسوف يسيطر الصهيونيون على بلادنا، قرية بعد قرية، ومدينة بعد مدينة؛ فغداً ستباع القدس كلها، وبعدها فلسطين كاملة".
في تشرين الثاني/ نوفمبر أعرب سيف الدين الخطيب في "الكرمل" عن دهشته من أن وطنياً عربياً أيّاً كان، يمكنه التفكير في "التفاهم" مع الصهيونيين.
مواقف القوميين الشباب الآخرين في فلسطين ليست معروفة. إلا أنه من المعقول الافتراض أنهم توافقوا مع ابن جيلهم "خليل السكاكيني" الذي كتب في يومياته بتاريخ 23شباط/ فبراير1914:
"ما يثير اشمئزازي هو هذا المبدأ الذي اعتمدته الحركة (الصهيونية) وهو استعباد (حركة قومية) لأخرى من أجل تعزيز قوتها الذاتية، وكذلك تعمدها إبادة أمة كاملة من أجل أن تحيي ذاتها، وكأنما هي بذلك تحاول سرقة استقلالها من الأخرى، وانتزاعه بالخداع من يد القدر... وهذا الاستقلال المشترى بالمال ومن خلال انتهاز الفرصة التي تستدعيها الغفلة، والعجز وبلادة الحواس لدى الأمة الأخرى، هو استقلال هشّ، أساسه بالمرض. ماذا سيفعل اليهود، إذا استيقظ الشعور القومي للأمة العربية، كيف يستطيعون الصمود( في مواجهة العرب)"؟

وبعد عدة أيام ادّعى: "حق ( اليهود) في فلسطين عفى عليه الزمن؛ وحقنا حيّ ولا يمكن الطعن به"
وعدا ذلك التيار من المقاومة الفكرية في فلسطين، اقتربت الاستجابة لدعوة حقي بك باستخدام العنف ضد المستوطنات اليهودية، ودعوة رشيد رضا لتجسيد ذلك عملياً. هذه الاستجابة جاءت على شكل تدهور متصاعد من يوم إلى يوم للعلاقات بين العرب والاستيطان الجديد. وفي السنوات السابقة لانفجار الحرب العالمية الأولى، راحت تتزايد هجمات الفلاحين على المستوطنين اليهود في فلسطين، وفي المدن قامت عناصر شابة بخطوات من أجل التصدي للصهيونية بصورة منظمة.

غالبية عمليات العنف ضد المستوطنات اليهودية في السنوات الأولى بعد "ثورة تركيا الفتاة" (1908 ) وقعت في شمال فلسطين. إلا أنه لم يمر وقت قصير حتى انتشر العنف إلى الجنوب. ويبدو أن المنعطف كان في النصف الأول من سنة 1911، عندما تبين ألبرت عنتابي أن التقارير حول خطابات المندوبين العرب في البرلمان بشأن الصهيونية وصلت إلى علم القرويين، وفي أعقاب تلك التقارير اتسع نطاق العداوة لليهود. وفي خريف ذلك العام وصلت معلومات متكررة بحسبها خطّط "الحزب الوطني العثماني" في يافا عملاً كبيراً ضد اليهود بعد شهر رمضان، وأخذ حاكم القدس هذه المعلومات بجدّية، ولذلك أرسل ضباط شرطة كباراً من القدس إلى يافا، وحتى استنفر الحامية العسكرية هناك.
في عام 1912 اغتيل ثلاثة يهود في سنجق القدس، وفي1913 قتل اثنان آخران، وفي الشتاء والربيع التاليين ثارت موجة من العنف ضد المستوطنين اليهود في الشمال، وفي مسارها وقعت أعمال اغتيال. وفي نيسان/ابريل تصاعدت الاحتكاكات في الجنوب. وفي أعقابها لاحظ القنصل البريطاني في القدس أن تواتر الهجمات على اليهود في المناطق البعيدة يتزايد. وعلى الرغم من تواتر تلك الهجمات المتزايد فإنها لم تكن سياسية في أساسها، بل متفرقة. ولكنها عكست أيضاً العداء المتصاعد ضد المستوطنين في أوساط الفلاحين، الذين – حسب أقوال القنصل العام البريطاني في بيروت في 1911 "يرون في التدفق الذي لا ينقطع من اليهود تهديداً لحقوقهم وامتيازاتهم"...

كان ثمة طابع سياسي أكثر وضوحاً، لنشاط تلك العناصر الشابة في المدن في سنة 1914. ففي نيسان/ ابريل، قال مسلمون: في القدس لمدير "بنك أنجلو- فلسطين" في المدينة، أن هجرة اليهود إلى فلسطين كانت موضوعاً خاصاً في المداولات " في لقاءات جمعياتهم السرية". وفي نهاية ذلك الشهر تسلم آرثر روبين(16) في يافا رسالة من مراسل في القدس، كان مقتنعاً بوجود تنظيم يضم مسيحيين ومسلمين في القدس، هدفه الصراع مع الصهيونيين في أرجاء فلسطين بجميع الوسائل. وفي مقابلة بتاريخ 27 أيار /مايو، ذكر عيسى العيسى، أحد محرري "فلسطين"، وجود" حركة هامة جداً قيد الإعداد في أوساط (شباب مسلمين) من أجل إيقاف تغلغل الصهيونيين".

في الواقع، تأسس في ذلك الوقت عدد غير قليل من الجمعيات المناهضة للصهيونية ( بعضها ورد ذكره أعلاه)، ليس فقط في القدس ويافا، وإنما في استنبول، حيفا، بيروت، والقاهرة، أيضاً. ليست هناك معلومات مفصلة عن تلك الجمعيات، ولكن يمكن تقدير أنها كانت صغيرة جداً، خاصة وأن إمكانية تنفيذ عملية منظمة امتنعت عليها بسبب انفجار الحرب العالمية الأولى. ومهما يكن، فإن تعدد تلك الجمعيات في صيف 1914 مؤشر واضح لبداية مرحلة جديدة في العلاقات بين العرب والصهيونيين. وإذا حكمنا عليها بناء على أسمائها والقليل الذي قيل عنها في الكتابات، فإنها كانت من ثلاثة أنماط:
النوع الأول كانت ثمة مجموعات هدفها الأساسي مناهضة الصهيونية. ففي نيسان/ابريل1914على سبيل المثال، ذكرت "الكرمل" أن شباباً عرباً في استنبول شكلوا جمعية مناهضة للصهيونية. وفي أيار/ مايو تسلم ألبرت عنتابي رسالة من صديق في استنبول ورد فيها أن هدف الجمعية هو إيجاد الوسائل لوقف بيع الأراضي في سورية وفلسطين للصهيونيين الأجانب. وبحسب صحيفة " الرأي العام" (بيروت) كانت غالبية أعضاء اللجنة من المسلمين، ورئيسها كان علي باشا الجزائري، ممثل دمشق من قبل "جمعية الاتحاد والترقي" في البرلمان العثماني، وأحد نائبي رئيس البرلمان. ومن موقف "الكرمل" ومن مضمون برقية الدعم من القدس، يستفاد أن الجمعية كانت ذات توجّه موالِ ٍ للعثمانيين.
في حزيران /يونيو أقيمت، كما ذكر، جمعيتان أخريان مناهضتان للصهيونية، وكلتاهما بتأثير من نجيب نصّار الذي توقف في حينه عن حمل لواء موقف العثمانية ،وانتسب إلى القومية العربية. وإحدى الجمعيتين، التي أقيمت في بيروت، ضمت حوالي 100 تلميذ نابلسي، ودعيت "الشبيبة النابلسية" وكان هدف الجمعية – "الدفاع عن حقوق العرب، والدعاية لصالح الشعب العربي وسوريا" يعطي الانطباع بأنها كانت ذات ميل قومي. وفي ذلك الصيف خططت الجمعية لعرض مسرحية كتبها نصار "فخار العرب" وموضوعها "واجب كل عربي الدفاع عن بلده ومسقط رأسه، بكل قواه".

وعلى رأس الجمعية الثانية في حيفا كان نصار ذاته ودعيت " المنتدى الأدبي" وبين أعضائها كان مسلمون ومسيحيون على السواء، وقيل عن أهدافها "أنها كانت قومية بالعلن ومناهضة للصهيونية بالسرّ".
النوع الثاني من الجمعيات المناهضة للصهيونية كانت ذات توجه اقتصادي، وتأسست اثنتان كهذه في القدس، في صيف سنة1914 وقد ورد ذكرها أعلاه " الجمعية الاقتصادية الوطنية" و"الشركة الاقتصادية العربية الفلسطينية".
النوع الثالث والأخير كان كما يبدو ذا توجه إسلامي. ففي تموز/يوليو نشرت تفاصيل عن جمعية مناهضة للصهيونية، أقيمت في "الأزهر" المؤسسة الإسلامية الشهيرة في القاهرة. وكان أعضاء تلك الجمعية طلاباً فلسطينيين، واسمها "جمعية مكافحة الصهيونية ". وكان نظامها الأساسي الرسمي:
(1) مقاومة الصهيونيين بجميع الوسائل الممكنة، من خلال إثارة الرأي العام وتوحيد المواقف في هذا الشأن ومن خلال نشر برنامج الجمعية في جميع صفوف الأمة عامة وفي سوريا وفلسطين خاصة.
(2) إقامة فروع وجمعيات في كل مدن سورية وفلسطين لهذا الهدف فقط.
(3) محاولة نشر الوحدة بين العناصر التي تشكل الأمة (العربية).
(4) مساعدة المشاريع الاقتصادية التجارية والزراعية، وتطوير مالك الأرض والمُزارع كي يستطيع إنقاذ نفسه من أيدي الصهيونيين.
(5) تقديم عرائض لجميع المعنيين بهذه المسألة، كي يوقفوا تدفق الهجرة الصهيونية.
وفي مراسلة خاصة، أشار حقي بك العظم أن هذه الجمعية دعت سراً إلى استخدام تلك الوسائل العنيفة "التهديد والمطاردة" التي أوصى هو نفسه بها.

تلخيــــص :

تلخيصاً لهذا المقال يجدر تقديم عدد من الملاحظات. من الواضح أنه نظراً لتبعية أراضي فلسطين إدارياً، كان العرب، ليس في هذا البلد فحسب، وإنما أيضاً في بيروت ودمشق، واعين لوجود الاستيطان الجديد ولإقامة الحركة الصهيونية، في بدايتهما. زد على ذلك: الجماعة الأهم من الناحية السياسية بين المغتربين السوريين الذين أقاموا في القاهرة، تعرفت على الحركة الصهيونية منذ بدايتها. ومع أنه في نصف ذلك اليوبيل تقريباً، بين بداية الهجرة الأولى، وبين "ثورة تركيا الفتاة"، لم تظهر مناهضة عربية للصهيونية، هناك مؤشرات تدل على أن النخبة السياسية العربية فضلت في تلك السنوات أن يضع الحكم العثماني نهاية بشكل فعال لهجرة اليهود إلى فلسطين. وإذا لم يكن هذا الهدف قابلاً للتحقق أن يلزم اليهود بالتحول إلى رعايا عثمانيين دون أية حقوق إضافية. هناك شهادات بأنه في العقد الأول بعد تشكيل الحركة الصهيونية، بدأ مسار من تدهور العلاقات اليومية بين العرب واليهود، جزئياً بتأثير اللاسامية الأوروبية، التي تسربت إلى قلوب السكان المحليين بعدد من القنوات، زادت حدة المواقف إزاء اليهود، والتي كانت سلبية سابقاً أيضاً بشكل تقليدي في أوساط العرب المسلمين، كما في أوساط المسيحيين.
الأشهر التسعة الفاصلة بين ثورة "تركيا الفتاة" في 1908، وبين الثورة المضادة في 1909، كانت فترة انتقالية يجدر ذكرها هنا أساساً بسبب تشكيل البرلمان العثماني، ونمو صحافة عربية حرة نسبياً – وهما منبران استطاع العرب منهما التعبير عن مواقفهم وتطويرها في شأن الصهيونية. وخلال السنوات الخمس اللاحقة - والتي كانت فيها السلطنة العثمانية تعاني من توترات سياسية ملموسة، ليس أقلها بسبب الزخم المتعاظم للحركات القومية في البلقان ومناطق أخرى– تبلورت المناهضة العربية للصهيونية، وقد جرى التعبير عن هذه المناهضة بالصور الثلاث التالية: مقاومة بسبب الولاء للعثمانيين، وطنية محلية، وقومية عربية. توجهات فرعية، انضمت أحياناً إلى الصور الرئيسية للمناهضة العربية للصهيونية، فكانت اللاسامية العربية، ومخاوف في المجال الاقتصادي، وعداء خفي في أوساط مسلمين معينين تجاه أطراف غير مسلمة، والعداء بعد الحرب العالمية الأولى في ما يمكن اعتباره عقيدة أسلامية مناهضة للصهيونية في أوساط العرب.
هناك مؤشرات إلى أنه كان لدى النخبة السياسية العربية في فلسطين وخارجها معلومات جيدة حول تقدم الاستيطان ومؤسساته، وأساساً بفضل العرض الذي قدمته الصحف العربية. ومع ذلك، ليست هناك شهادة تفيد بأن القيادة العربية اهتمت قيد أنملة في الخلافات الأيديولوجية التي شغلت إلى حد كبير قطاعات مختلفة من الاستيطان، خاصة في أوساط أعضاء الهجرة الثانية. فمن زاوية نظر تلك المجموعة الصغيرة من العائلات ذات التأثير، والتي نصّبت على عرب فلسطين قياداتهم حتى قيام دولة إسرائيل، وحتى بعده، بدت الاعتبارات المتعلقة بموقفهم تجاه اليهود واضحة بما يكفي.

وبحسب رأيهم تطلع الصهيونيون إلى إقامة دولة يهودية، مركزها في القدس، ولكن حدودها تمتد ربما بعيداً وراء فلسطين؛ والحكم العثماني عارض الصهيونية بالمبدأ، ولكن عملياً لم يستطع، كما يبدو، أن يفعل أكثر من إعاقة تقدمهم. والصهيونيون، لكونهم مواطنين أجانب، تمتعوا بحقوق إضافية خاصة، بناء على الامتيازات، كما توفرت لهم - هكذا اعتقد العرب - موارد مالية ضخمة؛ وقد فضلوا التكلم بالعبرية، وعملوا على تـأسيس أطر ومؤسسات خاصة بهم، ليس فقط في مجالات التربية والتعليم العالي، وإنما في الإدارة الذاتية أيضاً فيما إذا سمح لهم تطويرها. لقد أثار هذا كله الشكوك في قلوب أولئك الأعيان العرب الذين تعاطفوا مع الاستيطان الجديد، كما يبرز ذلك من بياناتهم في الصحف في ربيع سنة1914، ومن غيابهم الظاهر للعيان من قائمة المندوبين العرب الذين كان المفترض أن يشاركوا في اللقاء المقترح مع الصهيونيين في برمانا، في صيف تلك السنة.
القوميون العرب رأوا الصهيونيين بضوء مختلف. ففي 1913، فيما لم تكن حركتهم مبلورة بعد، رأت غالبيتهم ربما، في القاهرة وبيروت، بالصهيونية حليفاً قوياً ضد الأتراك. وفي أثر ذلك، تم التوصل إلى اتفاق غير رسمي، عندما زار سامي هوخبرغ القاهرة في نيسان /ابريل. إلا أنه عندما وافق الأتراك في ذلك الصيف على غالبية المطالب العربية، تلاشى الاهتمام بـ "التفاهم" الحقيقي مع الصهيونيين. وعلى أية حال، ففي سنة 1914، عندما امتنع الأتراك عن الوفاء بوعودهم، وعلى الرغم من اتخاذ خطوات متعددة للتوصل إلى محادثات مع مندوبين صهيونيين، ظهر في أوساط القوميين العرب اتجاهان متكافئان ومتضادان: اتجاه يدعم الرأي القائل بأن التطلعات العربية في فلسطين يجب أن تستوفى قبل إمكان الاتفاق مع الصهيونية، والاتجاه الثاني، الأشد راديكالية، رأى وجود تناقض مصالح جذري، ولا يمكن التجسير عليه، بين الحركة القومية العربية والحركة القومية اليهودية.
الحرب العالمية الأولى خلفت في الشرق الأوسط وضعاً جديداً تماماً، والأحداث التي وقعت في أعقابها، بما فيها اختفاء السلطنة العثمانية، ومع الوقت استقلال عدد من الدول العربية، غطت على المرحلة السابقة. ومع أنه يجب تذكر أن الحرب طالت أربع سنوات فقط، وأن الزعماء العرب الجدد الذين برزوا بعدها جاؤوا من تلك العائلات التي تحكمت بالوضع قبلها، وأن أولئك القادة أنفسهم نشؤوا ونضجوا قبل الحرب، في الوقت الذي تشكلت المناهضة العربية المبكرة للصهيونية، وحتى الجمعيات الأولى المناهضة للصهيونية.
بعد 1917 غابت مناهضة الصهيونية التي قامت على أساس الولاء للعثمانيين، بينما مناهضة الصهيونية التي كانت تقوم على أساس الوطنية المحلية أو القومية العربية ظلت فاعلة كما في السابق. ومنذ العشرينات الأولى فما بعد، جرى التعبير عن تلك الاتجاهات في الجدل القوي الذي دار بين أولئك العرب الفلسطينيين الذين كانوا وطنيين فلسطينيين محليين، وبين أولئك الذين كانوا قوميين عرب من نوع آخر. إلا أنه على أية حال لم تظهر إمكانية للتصالح مع الصهيونية من جانب الطرفين المنخرطين في هذا الجدل كليهما، والإشارات إلى ذلك صدرت قبل الحرب.

الحـــــواشي

1-"فـــــرية الدم", التهمة التي راجت في القرون الوسطى، من أن اليهود يقتلون صبيّاً مسيحياً في عيد فصحهم لاستخدام دمه في فطير العيد غير المخمّر(المتسا).
2- "أحباء صهيون" جمعيات صهيونية سبقت تشكيل "المنظمة الصهيونية العالمية" ودعت إلى الهجرة والاستيطان في فلسطين منذ العام1882. ومن أهم منظريها ليوبنسكر، الذي سبق هيرتسل في الدعوة إلى الصهيونية.
3- "حركة بيلو" أولى موجات هجرة أحباء صهيون إلى فلسطين. وقد اشتق اسمها من الأحرف الأولى للجملة التوراتية"بيت يعقوب لخو فنلخا" (هيا يابيت يعقوب فلنذهب معاً).
4- "بيتح تكفا "(بوابة الأمل) أول قرية زراعية يهودية في فلسطين،أسسها يهود من سكان القدس(1878)، ثم هجروها في سنة 1881. وعاد المهاجرون من أحباء صهيون لإعمارها في عام 1883. وهي تقع إلى الشرق من يافا.
5- "الهجرة الثانية" الموجة الثانية من الهجرات الصهيونية التي امتدت بين 1904و1914، وتسبب سلوك أفرادها العنصري بإثارة ردّات فعل عربية ضد الاستيطان اليهودي.
6ــ "أحاد هعام" (آشرغينزبرغ) فيلسوف يهودي صهيوني، منظّر الصهيونية الثقافية (1856-1927). وأهم مؤلفاته كتاب "على مفترق الطرق" الذي يحتوي كل كتاباته تقريباً.
7- "شركة أنجلو- فلسطين" البنك الأم لبنك لئومي ليسرائيل حالياً. وقد جرى تسجيله في لندن (1902)، على أنه فرع لصندوق الاستيطان اليهودي، الذي أسسه هرتسل ليكون الذراع المالية للحركة الصهيونية.
8- "جمعية تركيا الفتاة", حركة المعارضة لحكم السلطان العثماني عبد الحميد بن عبد المجيد. وقامت بثورة على ذلك الحكم(1908)، وأجبرت السلطان على إعادة دستور عام 1876، إلا أن السلطان قام بثورة مضادة(1909)، الأمر الذي أدى إلى انقلاب عسكري بقيادة ضباط من تركيا الفتاة،وإلى خلع السلطان عبد الحميد وتنصيب أخيه محمد رشاد مكانه.
9- "مرحافيا", المستوطنة التعاونية اليهودية الأولى في مرج ابن عامر. وقد أقيمت على أراضي القرية العربية "الفولة"والتي باعتها عائلة سرسق البيروتية إلى الوكالة اليهودية(1909).
10- "الحزب الوطني العثماني" – تأسس في يافا(1911)، بهدف تطوير ما هو مفيد للشعب وتوجيه كل الجهود نحو معارضة قانونية للصهيونية، وتذكير الحكومة بواجباتها×.
11- "حزب اللامركزية الإدارية العثماني", تأسس في القاهرة(1912)، ومعظم رجاله من الأعيان المعتدلين، الذين دعوا إلى الأخذ بنظام اللامركزية الإدارية في السلطنة العثمانية.
12- "لجنة الإصلاح" تشكلت في بيروت من أشخاص ينتمون إلى مختلف الأوساط بهدف وضع مشروع يضمن الحكم الذاتي للمقاطعات العربية. وبعد الإعلان عنها بفترة قصيرة سارعت السلطة إلى حلها واعتقال عدد من أعضائها.
13- "جمعية الاتحاد والترقي" هي "جمعية تركيا الفتاة".
14- "ناحوم سوكولوف" (1859-1936)، قيادي في الحركة الصهيونية، انتخب في المؤتمر الصهيوني العاشر(1911) عضواً في اللجنة التنفيذية الصهيونية وتولى الملف السياسي. وأثناء الحرب العالمية الأولى،انضم إلى حاييم وايزمن في لندن، وفي عام1931 عندما استقال وايزمن، تولى سوكولوف مكانه على رأس المنظمة الصهيونية العالمية.
15- "مناحم أوسشكين (1863-1941) قيادي صهيوني، شارك في عام 1919 في مؤتمر السلام (باريس). وانتخب في عام 1923رئيساً للصندوق القومي اليهودي، ونشط في شراء الأراضي خاصة في مرج ابن عامر.
16- "آرثر روبين" (1876ــ1943)، قيادي صهيوني تولى إدارة "مكتب فلسطين" التابع للمنظمة الصهيونية العالمية في يافا (1908)، ونشط في استملاك الأراضي.







من أعمال المترجم:
حروب الردة/طبعة أولى/1972 بالإنكليزية
جامعة تورنتو (كندا)
طبعة ثانية بالعربية/بيروت/1995 دار الكنوز
طبعة ثالثة/ 2008دمشق دار الحصاد
طريق بيغن إلى القاهرة
بيروت/1979/ مؤسسة الدراسات الفلسطينية
إسرائيل ومشروع كارتر
بيروت/1980/ مؤسسة الدراسات الفلسطينية
إسرائيل والتسوية المحطة
دمشق/ 1983 النبراس للدراسات الفلسطينية

الكيان الصهيوني - الثكنة تمرحل أهدافها
دمشق1990/مركز الدراسات الفلسطينية
المشروع الصهيوني وتهويد فلسطين
دمشق/1990/ مركز الدراسات الفلسطينية
العلاقة بين الثكنة والمركز - الكيان الصهيوني والولايات المتحدة الأميركية
دمشق/1992 دار الحصاد
رحلة في الرحيل/فصول من الذاكرة...لم تكتمل
بيروت/1994 دار الكنوز الأدبية
الموجز في تاريخ فلسطين السياسي /بيروت/1996
مؤسسة الدراسات الفلسطينية
إسرائيل في خمسين عاماً( 3أجزاء) المشروع الصهيوني من المجرد إلى الملموس
دمشق/2002 دار جفرا
منصور نامه / حلقة من الحكاية دمشق/ 2006
مطبعة الداودي
دروب التيه/ دمشق/2002 دارجفرا
مرثية الصفاء ((سيرة ذاتية))
دمشق/2008/ دار الحصاد
التقصير( الخلل في إدارة الصراع العربي الصهيوني)
دمشق //2009 دار الحصاد
أمن إسرائيل الإستراتيجي
/دمشق / 2009 دار الحصاد
الحروب الإسرائيلية - العربية
دمشق/ 2009 دار الحصاد
أعمال أخرى - تحرير/إعداد/إشراف/تقديم:
نشرة مؤسسة الدراسات الفلسطينية/1973 - 1982
مشاريع التسوية الإسرائيلية(1967 - 1978)
بيروت/1978مؤسسة الدراسات الفلسطينية
زيارة السادات لإسرائيل
/ بيروت/1978 مؤسسة الدراسات الفلسطينية
مناحيم بيغن من الإرهاب إلى السلطة
/بيروت/1977مؤسسة الدراسات الفلسطينية
المؤتمر الصهيوني الثامن والعشرون(1972)/
بيروت/1977مؤسسة الدراسات الفلسطينية
الكتاب السنوي للقضية الفلسطينية
بيروت (هيئة الإشراف 1973 -1981 ) مؤسسة الدراسات الفلسطينية
مقالات متعددة حول الصراع العربي الصهيوني في الصحف
والمجلات خاصة في:
1- شؤون فلسطينية
/ بيروت / مركز الأبحاث الفلسطينية
2- مجلةالدراسات الفلسطينية
مؤسسة الدراسات الفلسطينية بيروت/( بالعربية والإنجليزية)






للحصول على الكتاب يرجى الاتصال بالسيد جامع بهلول على العنوان التالي