Sunday 13 June 2021

مطران جديد

 مطران جديد، فهل من جديد؟

في السادس عشر من شهر حزيران الجاري للسنة الرابعة عشر بعد الألفين من ميلاد المعلم يسوع المسيح سيجتمع مطارين الطائفة الملكية الكاثوليكية (السينودوس «المقدس») في لبنان لاختيار مطران لأبرشية عكا وحيفا والناصرة وسائر الجليل خلفا للمطران الياس شقور الذي استقال من المنصب في شهر شباط المنصرم بعد أن كَثُرَ التذمر من سلوكه بين أبناء الأبرشية، وقد كانت فترة خدمته من أسوأ ما عرفته الأبرشية حتى اليوم.
لدى طائفة الروم الكاثوليك اليوم أكثر من ثلاثين مطرانا ما بين سالك في الخدمة ومتقاعد أو نائب بطريركي (هذا ما علمته من أحد قدماء الكهنة ولم أجد في موقع البطريركية العدد الدقيق)
سألت نفسي:
«من ذا الذي يرشح الكهنة لهذا المنصب؟ وما هي المزايا التي يجب أن يتحلى بها الكاهن ليكون جديرا بهذه المسؤولية الجسيمة؟ وهل يخضع لاستجواب من قبل لجنة مختصة من غير رجال الدين لكي نعرف إذا ما كان جديرا بتبوّأ هذا المنصب والقيام بتلك الخدمة على أتم وجه؟ (كما يخضع الذين يرشحهم الرئيس الأمريكي لمناصب هامة لأستجواب أعضاء الكونچرس). ما الذي يدور بخَلَدِ كل واحد من هؤلاء المطارين عندما يمنح صوته لأحد المرشحين، وما الذي يجعله يفضِّلُ كاهنا على آخر ليكون مطرانا لأبرشيتنا التعيسة؟ ما هو دور العلاقات الشخصية أو الإغراء والإغواء والترهيب والترغيب؟».
جالت هذه الأسئلة في خاطري لما عاينته وسمعته في الخمسة عقود الأخيرة من تصرفات المطارين الذين يضمن لهم هذا المنصب بأن يكونوا من الذين «يَسأَلون ولأ يُسأَلون»، فبعد أن يكون الواحد منهم كاهنا بمرتب محدود ويكون خاضعا خضوعا شبه تام لمطران أبرشيته يصبح ما غمضة عين وانتباهتها صاحب الأمر والنهي والعقد والحل في الأبرشية التي يولّى عليها في قصر أو على الأقل قُصَيرٍ يحيط به الخدم والحشم الذين يسهرون على راحته ويقتني ما شاء من السيارات الفارهة، ويسافر في مقصورة الدرجة الأولى في الطائرات، وكل ما زار رعية تقام على شرفه المآدب العامرة بكل ما لذ وطاب احتفاءً بقدوم سيادته والكل يتنافس للتقرب منه ففي يديه مفاتيح الملكوت ومفاتيح خزائن الأبرشية معا، فالمقربون المحظوظون ينعمون بنعيم الدنيا والآخرة، لأن قوانين الكنيسة الشرقية تبيح له التصرف بعقارات الوقف والمدارس وغيرها تصرف المالك بملكه فيبيع ويؤجر ويرهن ما شاء بالثمن الذي يرتأيه دون حسيب أو رقيب وهكذا تبخر العديد من الأوقاف في أبرشيتنا دون أن يعلم أحد حق العلم حتى يومنا هذا ماذا كنا نملك وكم بقي لنا منها. والأمر لا ينتهي عند هذا الحد لأن منصبه يتيح له أن يفصل من يشاء من مديرين ومعلمين وموظفين في مدارسنا وأن يعين بدلا منهم من يشاء من الذين نالوا عطفه ورعايته دون غيرهم فانهار مستوى التحصيل العلمي فيها بعد أن كانت قِبلة الطلاب من جميع الطوائف ومن كل حدب وصوب، كما أن معظم الكهنة يخشونه ويطلبون رضاه لأنه يستطيع أن ينقلهم من رعية إلى أخرى حسب ما يشاء، فهو الذي يدفع أجورهم ويتحكم في لقمة عيشهم ويستطيع أن يحوّل حياتهم إلى جحيم إذا غضب على أحدهم فينفيه إلى حيث شاء.
الأسوأ من ذلك كله أنه يستطيع التوجه إلى أصحاب النوايا الحسنة والضمائر الحية في داخل البلاد وخارجها ويستجدي منهم التبرعات باسم المؤمنين القابعين في الأراضي المقدسة ويودع تلك الأموال في حسابه الخاص فيشتري بها من شاء من أراض وعقارات باسمه الخاص وكل ذلك لأن القوانين البائدة أي قوانين «أمّنا» الكنيسة المقدسة تسمح له بذلك.
سؤال آخر يتبادر إلى الذهن:
ما هي نسبة تلاميذ المسيح الحقيقيين من بين الإكليروس؟ بطبيعة الأمر لا أحد يستطيع أن يجيب الجواب الدقيق على هذا السؤال، ولكن من الذي عاينته في الخمسين عاما الأخيرة، أي منذ بلغت أشدي، هم قلة قليلة، أما الغالبية العظمى فأقل ما يقال عنهم أنهم ولّوا يسوع المسيح ظهورهم وخانوه وتنكّروا لرسالته ولا هم لهم سوى اكتناز ما يتيسر لهم ولأقاربهم وكأنهم ذئاب تعيث فسادا حيث ما حلوا ولم يزرعوا في حقل الرب سوى الزؤان والأشواك ولم يغرسوا سوى الأشجار العقيمة التي قال عنها يسوع ما قاله.
الوجود المسيحي في الشرق برمته مهدد بالزوال ومن يرى ما يحدث منذ عهد بعيد لا يسعه إلا أن يقول بأن الزوال الكامل أصبح وشيكا، وما حدث في العراق خير دليل وشاهد حيث أن معظم المسيحيين اضطر للهرب من وطنهم لينجو بنفسه بعد أن أصبح تفجير الكنائس والاعتداء على الأشخاص والأملاك أمرا شائعا وما من نصير، وما يحدث في سوريا لا يقل فظاعة. صحيح أن جميع الطوائف تعاني من الاعتداء على الأبرياء لكن الوجود المسيحي هو الوحيد المهدد بالزوال لأن المعتدي على المسيحي في الشرق لا شيء يردعه في غياب سيادة الدولة وهيمنة قانون الغاب فنحن لا نملك جيوشا، وليس لدينا عصابات مسلحة، أما أن يكون بلاؤنا من داخلنا فهذا مما يعجّل بتقويض وجودنا وفنائنا عن قريب، أما ترون أن عدد أبناء الأبرشيات من جميع الطوائف يتناقص باستمرار في كل مكان؟ الكثير من المسيحيين يقيمون في أوطانهم على مضض، لأن الهجرة غير متيسرة لهم فهل لديكم علم بهذا؟
كان لأبرشيتنا مطران رعاها ما يقرب من أربعين عاما فازدهرت أيما ازدهار حتى أن بعض رعايا إخوتنا من الروم الأرثوذكس تحولوا إلى الكاثوليكية لما رأوا من حسن رعايته الأبوية المخلصة وإنجازاته العمرانية الباهرة وكان أشبه الناس بالمسيح خَلْقاً وخُلُقاً كما قال شاعرنا الكبير وصديقه الحميم خليل مطران عندما هنّأه بيوبيله الفضي:
بورك في خُلقك المليح يا أشبه الخَلق بالمسيح
فأين نحن من هذا كله؟
حتى دير المخلص الذي خرج منه العديد من العظماء من الكتاب والشعراء والخطباء أمثال المطران الحجار والأب نقولا أبو هنا، الذي ترجم حكايات لافونتين إلى العربية شعرا مدهشا، أصبح اليوم ظلا باهتا لماضيه المجيد، كان للمسيحيين في الشرق الفضل الأكبر في النهضة العربية في النصف الثاني من القرن التاسع عشر والنصف الأول من القرن العشرين، فلماذا تقلص وانحسر هذا المد الحضاري الفكري البنّاء ومن هو المسؤول عن ذلك؟
بعض الجواب ولا أقول كله، تجدونه عند أحد عظمائنا، المرحوم الأب نقولا الصايغ الرئيس العام لدير المخلص في القرن الثامن عشر ومن أهم بناة مجدنا في الماضي حيث يقول في مستهل إحدى قصائده:
كَثُرَ العِثارُ بعَثرةِ الرُؤَساءِ وغَوَى الصِغارُ بِغرَّة الكُبَراءِ
لمَّا رأَيتُ الرأسَ وَهوَ مُهشَّمٌ أَيقنتُ منهُ تَهَشُّمَ الأَعضاءِ
إذا استمر الحال في أبرشيتنا على ما هو عليه في العقود الأخيرة من فساد وقدوة سيّئة فلن تقوم لنا قائمة أبدا ويكون السينودس الذي سيلتئم في عين تراز بعد أيام قد دق المسمار الأخير في نعش أبرشية عكا وحيفا والناصرة وسائر الجليل، هذا الجليل الذي بدأ به يسوع رسالته ومنه اختار أول تلاميذه وكان منه أول المؤمنين به، يبدو أنه لن يبقى له فيه أتباع عما قريب.
لست أدري متى ومن سن قوانين الكنيسة، ولكني أراها تتناقض وتعاليم المسيح وسيرته، حبذا لو فرضت الكنيسة على كل من ينوي أن يكون خادما في حقل الرب أن يحفظ ما كتبه جبران خليل جبران عن ظهر قلب فقد أدرك هذا الكاتب والشاعر العظيم سر رسالة يسوع المسيح على حقيقتها (ولذلك ناوأه رجال الكثير من رجال الكنيسة في ذلك الوقت)، ومن يقرأ ما جاء في كتابه "يسوع ابن الإنسان" يعلم حق العلم أن هناك بونا شاسعا بين سيرة المسيح وبين سيرة معظم رجال الكنيسة اليوم وفي الأمس.
حان الحين وآن الأوان لأن نغيّر من قوانين الكنيسة وأنظمتها التي أكل الدهر عليها وشرب، فالماء الراكد يصبح آسنا لا يصلح للشرب، والماء الجاري هو علامة التجدد، ولنأخذ العبرة من برلمانات الدول المتحضِّرة التي تعيد النظر باستمرار في دساتيرها وقوانينها لكي تتناسب مع التطور والتشعب في مناحي الحياة.
كلمة «سينودس» كلمة يونانية الأصل، σύνοδος، مصدرها كلمتان، كلمة سُنْ σύν ومعناها، «معا» وكلمة «هودوس أو أودوس» ὁδός ومعناها طريق، رحلة، أو ممرّ. وتعني جمعية أو مجلس أو لقاء المطارين في الكنائس عامة والكنائس الشرقية الأرثوذكسية والكاثوليكية، خاصة في العصور الحديثة.
عصام زكي عراف
معليا
الجليل الغربي

Monday 31 May 2021

فؤاد جرداق

 


فؤاد سجعان جرداق (1915-1965)
من مواليد بلدة مرج عيون في جنوب لبنان درس في مدرسة بلدته ثم في دير المخلص لكنه ترك الدير وتابع دراسته في المعهد الزراعي في بلدة سليمة في سوريا وتخرج بشهادة هندسة زراعية من المعهد.
عمل في وزارة الزراعة لفترة ثم تركها إثر مشادة مع مديره وانصرف للتعليم فعمل مدرسًا في مدارس عدة منها الجامعة الوطنية في بلدة عاليه، الثانوية الوطنية في جديدة مرجعيون وثانوية بيروت الوطنية، كما عمل في الصحافة.
كان جريئا في كل ما كتب يقول رأيه دون وجل، وقد قبض عليه وأودع السجن أكثر من مرة.
من الجدير بالذكر أن الشاعر جورج جرداق مؤلف الأغنية الشهيرة “هذه ليلتي” التي لحنها محمد عبد الوهاب وغنتها أم كلثوم، هو الأخ الأصغر لفؤاد وقد رعاه فؤاد وعلمه وله الفضل الكبير في نبوغه الشعري.
في القصيدة التالية يصف حال وطنه (ومعظم الأوطان العربية) وصفا بليغا موجعا.
لا أعرف على وجه الدقة عدد أبيات القصيدة بكاملها فقد جمعتها من عدة مصادر أهمها مخطوطة كتبها الصديق العزيز الشاعر نايف سليم نقلا عن رفيق في الحزب الشيوعي اللبناني يدعى أبو نبيل التقاه في برلين.
وطن سراحين الذئاب تسوسه
ماذا يُدِرُّ لشعبه تقديسه
صَمَتَ الأُلى أهل الحصافة والنهى
وتفرّدت بالرأي فيه تيوسه
لم يكف لندنه وما فعلت بنا
اسطنبوله في الجور أو باريسه
عبثت به أيدي الجناة كما به
دبّت جراثيم الخنوع وسوسه
ولقد تطير من الأسى أرواحه
وتثور من جور الولاة نفوسه
هذا بلفَّتِهِ يلفُّ له الأذى
والخبثُ خبَّأه له قَلنوسه
فيَتِلُّه لأمامه محموده
ويشدُّه لورائه طنّوسه
إذ يدَّعي أن الإله سميره
وسواه إبليس اللعين جليسه
كذب الجميع مشعوذين وقد سرت
عن مثلهم غرر الهدى وشموسه
فالكائنات لها إله واحد
قد جل عن إدراكهم ناموسه
وزراؤه أوزاره ناءت بهم
من شدة الألم المبرِّح عيسه
وكذاك نواب البلاد نوائب
نزلت فزاد من الأذى كابوسه
تنساب في جلساته أذنابه
وتظل في شعب الوهاد رؤوسه
وطن بلا عرض بلا طول بلا
عمق بلا جرم فكيف أقيسه
المال عند بخيله والسيف عند
جبانه والمومسات تسوسه
بالحق من بعد العنا اعترفت لنا
برلينه وتنازلت باريسه
قل للمكابر بالحقائق إننا
حزب مخضَّبة الحديد عروسه
فالثورة الحمراء أنجع خطة
لنجاح شعب كافر قديسه
جَلَساته أي أماكنه المرتفعة

ضرورة المشاركة

ضرورة المشاركة 


في جميع الأنظمة الديمقراطية يوجد ثلاث سلطات: التشريعية والقضائية والتنفيذية. أنت تريدنا أن نبقى تحت رحمة السلطة القضائية والتنفيذية دون أن يكون لنا تمثيل في التشريعية. أي منطق هذا؟ متى كان وقوف المتفرج على الأحداث يفيده؟

ما هي السلطة التنفيذية التي يملكها هذا البديل؟ ما هي الحصانة التي يتمتع بها هؤلاء المنتخبون؟ كيف تستطيع حكومة فاشية منعنا من حق التصويت والترشح؟ بأي ذريعة قانونية؟ الضياع كل الضياع في شعارات لن تستطيع أن تخدم المواطن العربي قيد أنملة.
بديل لا حول له ولا قوة لن يستطيع أن يحول دون هدم بيت واحد، ولن يستطيع أن يستجوب أي وزير عند الحاجة، ولن يستطيع أن يفتح عيادة في قرية أو مدينة وأن يوفر لها المال، وسنظل ندفع الضرائب دون أن يكون لنا أي حق في الاطلاع على كيفية إنفاقها، وستحصد الأحزاب الصهيونية المزيد من الأصوات العربية.
التعاون العربي-اليهودي في الكنيست هو الأجدى من جميع النواحي وقد أثبت النواب اليهود في الجبهة على مدى سنوات أنهم يدافعون مع إخوانهم العرب بإخلاص عن قضايا المواطن العربي.
لو اجتمعت كلمة العرب وصوتوا للأحزاب العربية بنسبة تعادل نسبة تصويتهم في الانتخابات المحلية لما استطاع اليمين الحصول على أكثرية في الكنيست وكنا نستطيع أن نكون كتلة مانعة كما حدث أيام رابين وأن نحصل على الكثير من مطالبنا المحقة وخاصة تمويل المجالس المحلية وإقامة مناطق صناعية واستخدام المزيد من الشباب العرب في الوزارات المختلفة.
شعارات براقة كالسراب في الصحراء لا تسمن ولا تغني من جوع.
هذا ذر للرماد في العيون ليس إلا...
للحديث بقية...
مع سلامي واحترامي

Tuesday 4 May 2021

قضية الأراضي في فلسطين

 قضية الأراضي في فلسطين


استجابة لطلب بعض الأخوات والإخوة سأحاول أن ألقي الضوء على قضية بيع الأراضي لليهود في فلسطين مع علمي الأكيد بأن الكثيرين قد كتبوا عنها وقد اطلعت على بعض ما كتبوه.

إثر التقرب الذي تبديه بعض الدول العربية من إسرائيل هناك محاولة مجددة لتحميل الفلسطينيين مسؤولية ضياع فلسطين بأنهم باعوا أرضهم لليهود.

لا شك أن بعض الفلسطينيين قد باعوا أرضهم لليهود ولكن من واجبنا أن نأخذ بعين الاعتبار الأمور التالية:

بلغ مجموع ما استطاعت الحركة الصهيونية واليهود في شرائه في فلسطين خلال ما يقرب من سبعين عاما%5.8 من الأراضي الفلسطينية وهذا أقل مما كانت تملكه الكنيسة الأرثوذكسية والذي بلغ %7.

كان للأمير عبد الله (الملك عبد الله في ما بعد) دورا كبيرا في التعاون مع الحركة الصهيونية ومع بريطانيا التي أتت به من الحجاز ونصّبته أميرا على شرق الأردن وذلك التعاون موثق بتفاصيله في كتاب آڤي شلايم:

Collusion Across the Jordan: King Abdullah, the Zionist Movement, and the Partition of Palestine, by Avi Shlaim

كان كبار البائعين من غير الفلسطينيين كأسرة سرسق التي باعت أربعمائة ألف دونم في مرج بن عامر وأسرة تيان التي باعت ثلاثين ألف دونم في وادي الحوارث (عيمك حيفر) وورثة الأمير عبد القادر الجزائري وغيرهم.

إقامة دولة يهودية في فلسطين كان من صلب الإجماع الأوروبي في القرن التاسع عشر للحؤول دون قيام قوة تهدد أمن أوروبا بعد أن ضعفت الإمبراطورية العثمانية وتضاءلت رقعتها رويدا رويدا وقد أطلق على ذلك الإجماع: “القضية الشرقية”، ومن أهم إفرازاته إرغام محمد علي على الانسحاب من بر الشام بعد أن انتصر ابنه إبراهيم باشا على الجيش التركي في معركة نصيبين في حزيران 1839 وكانت الطريق إلى اسطمبول مفتوحة لولا تدخل بريطانيا وروسيا وبروسيا والنمسا في اتفاقية لندن 1840 وإرغامهم إبراهيم باشا على الانسحاب إلى مصر بعد أن حكم بلاد الشام لعشر سنوات وبعد أن هزم الحركة الوهابية قبل ذلك في الجزيرة.

إثر معركة نصيبين استقر رأي بريطانيا على إقامة دولة يهودية في فلسطين “للحؤول دون تحقيق المطامع الشريرة لمحمد علي” كما ورد في رسالة من اللورد پالمرستون، وزير خارجية بريطانيا في ذلك الوقت إلي موشيه مونتيفيوري زعيم اليهود في بريطانيا في ذلك الوقت.

لم يكن لدى المجتمعات العربية عامة المجتمع الفلسطيني القدرات البشرية ولا المادية لتنظيم مقاومة مسلحة تقف في وجه أكبر القوى في العالم في ذلك الوقت والبرهان على ذلك هو تقسيم المشرق العربي إلى دويلات تحت سيطرة بريطانيا وفرنسا ومنح بريطانيا الانتداب على فلسطين للقيام بتنفيد وعد بالفور. 

لعل أفضل مرجع مفصّل لتلك الصفقات بالإنجليزية هو كتاب Kenneth W Stein:

The Land Question in Palestine, 1917-1939

غير أن الاستيطان اليهودي كان قد بدأ قبل ذلك بكثير.

في سنة 1879 أقام يهود القدس بالتعاون مع يهود صفد مستوطنتان جديدتان ولم يكن هناك حائل قانوني أمام إقامتهما لأنهم كانوا من رعايا الامبراطورية العثمانية وحق لهم شراء الأرض مثل غيرهم من المواطنين.

في سنة 1875 اشترى أحد يهود صفد واسمه إليعيزر روكح نصف أراضي قرية الجاعونة وفي سنة1878 استوطن سبع عشرة أسرة يهودية على تلك الأرض وسموها چاي أوني على وزن القرية العربية جاعوني كما تلفظ بالعامية. 

إثر الديون التي تراكمت على المستوطنين اشترى البارون روتشيلد المستوطنة سنة 1883 ودفع ديونها ودعيت روش پينَّه والتي تعني رأس الزاوية بالعربية تيمنا بالآية 22 من المزمور 118 التي تقول: الحجرالذي رذله البنّاؤون أصبح رأسا للزاوية.

المستوطنة التي أنشأها يهود القدس بعدها بأسابيع قليلة كانت مستوطنة “پيتَح تِكڤاه” وتعني بالعربية باب الأمل وقد أخذ الإسم من الآية 17 في الإصحاح الثاني من كتاب هوشع وقد تيسر ليهود القدس شراء أكثر من ثلاثة آلاف دونم من أرض قرية ملبّس (أم لبّس؟) في شهر آب لسنة 1878 من أسرة سليم قصّار من يافا على اسم يهودي من القدس اسمه داڤيد چوطمان لأنه يحمل الجنسية النمساوية التي تبيح له شراء الأرض حسب القانون التركي وبعد سنة من ذلك باع أنطون تيّان من يافا أيضا، أكثر من تسعة آلاف دونم من أرض القرية لليهود.

كان عدد اليهود في فلسطين في تلك الفترة لا يزيد عن سبعة وعشرين ألفا حسب أقصى تقدير وكان معظمهم يعيش في القدس والباقون يسكنون في صفد والخليل وطبريا وأسرة واحدة في البقيعة هي أسرة زيناتي وكان معظمهم يعيش على التبرعات التي تصلهم من يهود العالم لاعتقادهم بوجوب وجود يهود في فلسطين لاستقبال المسيح المخلص عندما يأتي من الشرق ليخلّص شعبه.

عندما كانت المعونات-التبرعات تقل كان سكان فلسطين من اليهود يعانون الأمرين ولذلك عقد البعض منهم العزم على العمل في الزراعة وكانت مصدر الرزق الأهم في ذلك الحين لإعالة أنفسهم ودحر الفاقة التي كانت من نصيبهم عندما لا يصلهم ما يكفي من المعونات للعيش بكرامة وهذا ما دفعهم لشراء الأرض والعمل في الزراعة وقد أخفق المشروعان في روش پيناه وپيتاح تكڤاه لعدة أسباب منها عدم الخبرة للعمل في الزراعة وعدم القدرة على منافسة المزارع العربي ذو الخبرة الطويلة في الزراعة.

في السنة ذاتها أي سنة 1882 اشترى نائب القنصل البريطاني في يافا حاييم أمزلاچ 3340 دونما في منطقة عين قرة من مصطفى عبد الله علي الدجاني وأقيمت عليها المستوطنة “ريشون لتسيون” وقد أُخذ الإسم من الآية 27 الإصحاح 41 من سفر أشعيا.

اشترى يهوشوع حانكين الملقب بمخلّص الأرض الكثير من الأراضي العربية وفيما يلي قائمة بتلك الصفقات التي عقدها في العهد العثماني:

في سنة 1890 اشترى 10000 دونم أقيمت عليها مستوطنة رحوڤوت

في سنة 1891 ، اشترى ثلاثين ألف دونم من أسرة خوري عليها أقيمت مستوطنة حديره 

في سنة 1910 اشترى 9500 دونم في الفولة قرب العفولة.

كما ذُكر آنفا، عانت جميع المستوطنات التي أقيمت من ضائقة مالية حادة كانت قمينة بأن تودي بمشروع الاستيطان برمته فتوجه بعض الغيورين على استمراره إلى الراب الأكبر لپاريس وفي ما بعد الراب لعموم فرنسا واسمه تسادوك كاهن צדוק כָּהן الذي كان على علاقة حميمة مع البارون جيمس إدموند دي روتشيلد فاستجاب لنداء الاستغاثة وأرسل موظفين من قبله يشرفون على توزيع المعونات وتوجيه المستوطنين لزراعة محاصيل مجدية ككروم العنب وقد بنى المعاصر الحديثة لإنتاج الخمور وبعض الصناعات كمصنع الزجاج في طنطوره، وقد ساهم أيضا في توفير خدمات الصحة والتعليم، كما جُلبت بعض أنواع الأشجار التي لم تكن معروفة في البلاد كالأڤوكادو وهكذا أنقذ البارون روتشيلد مشروع الاستيطان كما ساهم في شراء مساحات كبيرة من الأرض من الحكومة التركية وتجفيف مستنقعات الخضيرة وكان مجموع المستعمرات التي أقيمت أو أنقذت بأمواله أربع وثلاثون وكان يرشو الموظفين الأتراك في البلاد وفي اسطمبول لكي يغضوا النظر عن شراء الأراضي وإقامة المستعمرات الجديدة وساهم ذلك في توطين ما يزيد عن عشرين ألف يهودي من شرق أوروبا ومن اليمن وكان مجموع ما قدمه للاستيطان اليهودي في فلسطين ما عدا شراء الأرض والمشاريع المختلفة أربعين مليون فرنك فرنسي.

من الجدير بالذكر أن سبعا من تلك المستوطنات كانت بأسماء أعضاء من أسرته كزخرون يعكوڤ باسم والده ومزكيرت باتيا باسم والدته.

مساهمة أسرة روتشيلد في الاستيطان اليهودي فلسطين موثقة جيدا في الكتاب التالي للمؤرخ اليهودي-البريطاني سيمون شاما:

Two Rothschilds and the Land of Israel by Simon Schama

وفرت تلك الهجرة المسماة “الهجرة الأولى” القاعدة المثالية لتوسيع الاستيطان اليهودي في ما بعد من حيث انتشارها من الجنوب إلى الشمال ومن حيث الخبرة التي اكتسبت في مجالات الزراعة والصناعة والإدارة.