Wednesday 28 November 2012

لغتنا العربية والمخاطر التي تحدق بها وبنا

لسان العرب

خير ما أبدأ به مقالي هذا بضع فقرات أنقلها إلى القارئ من كتاب “البيان والتبيين” لجاحظنا العظيم. وكان بودّي أن أرى هذه الكلمات الممتلئة حكمة تعلق على كل حائط في كل غرفة تدريس في الوطن العربي وفي صدر كل بيت ليحفظها الطلاب والمعلمون عن ظهر قلب ويتدبروا معناها فهي جليلة النفع بعيدة الأثر .
يقول عمرو بن بحر الملقب بالجاحظ عن شريف الكلام وحقيره :
“ ثم اعلموا أن المعنى الحقير الفاسد، والدنيء الساقط، يعشش في القلب، ثم يبيض ثم يفرّخ، فإذا ضرب بجرانه، ومكّن لعروقه، استفحل الفساد وبزل، وتمكّن الجهل وفرّخ، فعند ذلك يقوى داؤه، ويمتنع دواؤه. اللفظ الهجين الرّديء، والمستكره الغبيّ، أعلق باللسان وآلف للسمع، وأشدّ التحاما بالقلب، من اللفظ النبيه الشريف، والمعنى الرفيع الكريم. ولو جالست الجهّال والنّوكى، والسّخفاء والحمقى، شهرا فقط، لم تنق من أوضار كلامهم، وخبال معانيهم، بمجالسة أهل البيان والعلم دهرا. لأنّ الفساد أسرع إلى الناس وأشدّ التحاما بالطّبائع. والإنسان بالتعلم والتكلّف وبطول الاختلاف إلى العلماء، ومدارسة كتب الحكماء، يجود لفظه، ويحسن أدبه. وهو لا يحتاج في الجهل إلى أكثر من ترك التعلّم، وفي فساد البيان إلى أكثر من ترك التّخيّر .”
وعندما يتعرض لأهمية البلاغة يقول: قال الإمام إبراهيم بن محمد :
“يكفي من حظ البلاغة أن لا يؤتى السامع من سوء إفهام الناطق، ولا يؤتى الناطق من سوء فهم السامع”
ثم يستطرد في تعريف حسن البيان ووقعه في الأذهان فيقول :
“ أحسن الكلام ما كان قليله يغنيك عن كثيره، ومعناه في ظاهر لفظه. فإذا كان المعنى شريفا، واللفظ بليغا، وكان صحيح الطبع، بعيدا عن الاستكراه، ومنزها عن الاختلال، مصونا عن التكلف، صنع في القلب صنيع الغيث في التربة الكريمة. ومتى فُصَّلت الكلمة على هذه الشريطة، ونفذت من قائلها على هذه الصفة، أصحبها الله من التوفيق ومنحها من التأييد ما لا يمتنع من تعظيمها به صدور الجبابرة ولا يذهل عن فهمها عقول الجهلة.” انتهى .
قبل أن استطرد، أود أن أعترف بأن دراستي المنهجية للغة العربية لم تتجاوز المرحلة الابتدائية، إذ التحقت بعدها بثانوية عبرية، أما دراستي الجامعية فكانت بالعبرية ولاحقا بالإنجليزية. أذكر ذلك لكي أنفي عن نفسي الادعاء بأنني من المتبحرين بلغة الضاد. غير أن تعلقي الشديد بها واهتمامي بحضارتنا دفعني إلى الإصرار وبذل الجهد لاطلع على تراثنا الفكري، وكان من حسن حظي أنني كنت أحفظ كل ما تعلمته في المدرسة من شعر، فكانت أول خطوة قمت بها في ما بعد، أن اقتنيت كتاب شرح المعلقات السبع للزوزني فدرستها وحفظت منها ما تيسر، ولم أغفل لامية العرب للشنفرى وغيرها من الشعر الجاهلي وما تبعه من شعر الدولة الأموية والعباسية  ما تيسر لي، وكان لشعراء النهضة أمثال حافظ إبراهيم وأحمد شوقي وخليل مطران، وشعراء المهجر أمثال الشاعر القروي، رشيد سليم الخوري وإيليا إبي ماضي ورفاقهما نصيب وافر من الحفظ، واتبعت ذلك بقراءة القرآن الكريم بشرح الجلالين كما اقتنيت ما لا غنى عنه لكل دارس للعربية وهو معجم “لسان العرب” لابن منظور، وهو سفر نفيس وبحر زاخر. وأتبعت ذلك بدراسة “المثل السائر في أدب الكاتب والشاعر” لضياء الدين بن الأثير ثم كتب “البخلاء” “والحيوان” “والبيان والتبيين” للجاحظ وكتاب “كليلة ودمنة” تعريب ابن المقفع  وغير ذلك من أمهات الكتب العربية، وبعد ذلك لم يكن من الصعب أن أميز الغث من السمين عندما قرأت ما كتبه غيرهم، ومن الإنصاف أن أذكر شعر الشيخ ناصيف اليازجي وكتابه "مجمع البحرين" الذي استهواني كثيرا، وشعر ونثر ابنه العلامة الكبير الشيخ ابراهيم اليازجي.  
ليس القصد مما ذكرت أن أحوز على إعجاب أحد فذلك ليس من شأني، بل أردت أن أقول لكل الذين يدعون حبهم الشديد وغيرتهم الملتهبة على لغتهم وينادون بتبسيطها وتذليلها وتحديثها، أن الضعف ليس في اللغة العربية، الضعف والعجز كامن فينا، ومن يعتقد أن إجادة اللغة الإنجليزية أو الفرنسية أو غيرهما يتطلب جهدا أقل فهو أبعد ما يكون عن الصواب. إن من يحب لغته ويحترم حضارته يبذل كل ما في وسعه لدراستها والاطلاع على أسرار محاسنها ومواطن السحر في بيانها. 
يقول ابن الأثير، أنه بعد أن حفظ القرآن الكريم والكثير من الأشعار اختار ثلاثة آلاف حديث وكتبها بخط يده ثم أخذ يقرأها مرة كل أسبوع خلال عشر سنوات حتى حفظها جميعا عن ظهر قلب، فلننظر إلى ذلك الجهد ونعتبر! لقد أسعفته حافظته وغزارة علمه ودقة تحليله أن يأتي بأحكام في تعريف الفصاحة والبلاغة ونقد الشعر والنثر لا تزال نبراسا يهتدى بها حتى اليوم. 
لقد بعث أحمد شوقي الكثير من الكلمات من مرقدها واستحدث تعابير وطرق أبوابا لم يسبقه إليها أحد. وهذا مارون عبود يستعمل الكثير من الألفاظ التي كان ينفر منها غيره على أنها عامية وهي من صميم الفصحى. وهل ننسى الشدياق وأمثاله من أدباء وشعراء القرن التاسع عشر الذين ارتقوا بالتعبير العربي من وهدة الركاكة والانحطاط إلى قمة الفصاحة والبلاغة. بلغ بهم حبهم للغتهم وغيرتهم عليها ما يجعلنا نخجل من أنفسنا حين نرى أن السواد الأعظم من الذين يُدعَون عرب أو يَدَّعون أنهم عرب لا يكترث للفظ الحروف العربية كما يجب. أصبح الخطأ هو القاعدة والصواب هو الشاذ والمستقبح .
يروى أن الشيخ ناصيف اليازجي كان يكلم أولاده بالفصحى ويطلب إليهم أن يفعلوا كذلك، وقد طلب يوما من ابنته وردة أن تأتيه بدواة الحبر، فأحضرتها وناولته إياها قائلة: “ هاك القنينة يا أبي.” قالتها بفتح القاف، فزجرها الوالد بغضب قائلا: “إكسريها”. فألقت الفتاة بالدواة إلى الأرض وأهرقت ما فيها. ضحك الأب المتشدد وقال: “قصدت القاف وليس الدواة يا بنيتي” .
كان ذلك في القرن التاسع عشر، واليوم نرى معظم المدرسين يستعملون في غرف التدريس لغة أقل ما يقال فيها أنها تقدم لنا جيلا من الناشئة لا يعرف لغة عربية سوى تلك اللغة الركيكة، الرديئة، الساقطة، المشوّهة، الضحلة، الهزيلة، التي يستعملها هؤلاء الذين يدّعون زورا وبهتانا بأنهم معلمون، ومن الإنصاف أن ندعوهم مضللين أو مجهّلين إن جاز التعبير، وقد قيل : “الإناء ينضح بما فيه” .  
لقد أثبت العلم الحديث أنه كلما زادت الثروة اللغوية للإنسان وكلما ارتقت قدرته على التعبير كانت قدرته على الفهم والتحليل أشمل وأعمق، وبعبارة أخرى أن القدرة على الإبداع والنجاح مرهونة بالثروة اللغوية التي يمتلكها الفرد وإجادة استعمالها. وما وجه الغرابة في ذلك إذا عرفنا أن وسيلتنا في التفكير هي الأسماء والأفعال والحروف؟
من المؤسف أن نرى البعض يطالب بتبسيط اللغة العربية وتذليلها، إذا فهي لغة معقدة وهي لغة حرون ولا بد لنا من تبسيطها وتذليلها ليتسنى لنا استعمالها.
دعكم من هذه الأوهام والأضاليل، فاللغة العربية فريدة في القدرة على الاشتقاق اللفظي والمعنوي وقد أتاح لها ذلك أن تتسع وتستوعب جميع علوم اليونان وفارس والهند بعد أن كانت لغة قوم لم يعالجوا شيئا من تلك العلوم من قبل. عندما كتب أبو جعفر الخوارزمي كتابه، “ الجبر والمقابلة” وسجل صفحة مشرّفة في تاريخ الحضارة الإنسانية، لم يستعمل سوى لغة عربية ناصعة، كان يقول: “نجبر هذا بذاك”. أو: “نقابل هذا بذاك”. وأدخل رقما جديدا في الرياضيات سماه الصفر، وكان ذلك أعظم فتح في تاريخ البشرية تدين له به الحضارة في كل زمان ومكان (ومن يشك بذلك فليحاول أن يقوم بضرب عددين باستعمال الأرقام الرومانية). ولا تزال جميع شعوب العالم تستعمل الكلمة العربية “الجبر”  والكلمة العربية “صفر” لتدل على هذا العلم وهذا الرقم. كذلك هو الحال بالنسبة للعشرات من الكلمات العربية التي دخلت اللغات الأوروبية ومنها الكحول والقالي والسمت وكثير غيرها. 
يضيق المجال عن ذكر جميع العلماء العرب الذين طرقوا أبواب العلوم المختلفة من فلك وكيمياء وبصريات واجتماع وساهموا في دفع عجلة الحضارة الإنسانية، من يقرأ ما كتبه إبن باجّه في القرن الثاني عشر في نقد ما كتبه أرسطوا لا يسعه إلا أن يفخر بذلك العالم وذلك العصر ويأسف للحال المزرية التي نرتع بها اليوم.  
عندما شمر رواد النهضة العربية أمثال الشدياق وشبلي الشميل ويعقوب صروف وغيرهم عن سواعدهم للارتقاء بشعبهم من وهدة التخلف لم يكن لهم بد من إجادة العربية وهذا ما أتاح لهم استحداث العديد من الأسماء لاختراعات جديدة نشأت في الغرب وقد فعلوا ذلك في كل مجال وقد وضعوا أسماء كالدبابة والمدفع والطيارة والسيارة والمنطاد ومئات  غيرها لمخترعات غربية ولم يكن ذلك ممكنا لولا تمكنهم من لغتهم.   
سادت العربية عندما كانت لغة الأسياد أو الأسود إن شئتم وعامتنا اليوم عبيد ونعاج. يكفينا مذلة ومهانة أن نسبة الأميين بيننا تكاد تبلغ النصف والطامة الكبرى أن نسبة الأمية بين الإناث تتجاوز السبعين في المائة.
عندما ساد اليونانيون سادت لغتهم وجاء بعدهم الرومان فسادت اللاتينية لقرون طويلة واليوم نرى الإنجليزية تحتل الصدارة بين اللغات والكل يعلم أنها لا تفضل الفرنسية أو الألمانية أو العربية في شيء بل النقيض من ذلك هو الصحيح ولنضرب مثلا نحاول فيه المقابلة بين مرونة العربية في الاشتقاق وبين الإنچليزية :
كتب   WROTE
يكتب  WRITE
كتاب  BOOK
كاتب أو مؤلف  AUTHOR
مكتبة  LIBRARY
مصدر الفعل من الإنچليزية البائدة أما كتاب فمصدره من الألمانية القديمة boch .  مؤلف مصدرها من الكلمة الفرنسية augere  التي تعود إلى اللاتينية وكذلك مكتبة التي تعود إلى اللاتينية.  
الكل يعلم صعوبة كتابة اللغة الإنچليزية بدون أخطاء إملائية.  السبب؟ هناك ما لا يقل عن 1024 تشكيلا أو تركيبا إن شئتم في اللغة الإنچليزية يلفظ كل منها بطريقة مختلفة عن غيره.  كلنا يعلم سهولة كتابة العربية بدون أخطاء إملاء والتي يجيدها البعض في سن مبكرة جدا.
هذا غيض من فيض من الأمثلة التي تدل على تفوق العربية على اللغات المتفرعة من أصول لاتينية أو جرمانية أو سلاڤية المستعملة اليوم في أوروبا والأمريكتين وأستراليا وغيرها ناهيك عن اللغة الصينية واليابانية التي ليس لها أبجديات بل مقاطع يكتب كل منها على حدة، حتى أنهم يكتبون أسماء البلدان الأخرى بمقاطع تقارب لفظ الأصل قدر المستطاع فكلمة أستراليا يكتبونها ويلفظوها "آوداليا". 
كل من تسنى له الاطلاع ولو قليلا على أساليب البيان في اللغات المختلفة لا يسعه إلا أن يعترف بفضل العربية على غيرها. ولكن دعنا ننعم النظر في الكلمات التالية: نبأ، نبّ، نبت، نبث، نبج، نبح، نبخ، نبذ، نبر، نبس، نبش، نبع، نبغ، نبص، نبض، نبط، نبك،نبل، نبه. هل رأيت ماذا يحصل عندما نبدل آخر حرف في الكلمة؟ كلها تفيد معنى الظهور أو الارتفاع ولكن كل كلمة تختص بحالة بعينها وإذا شئت أن تطّلع على جميع تلك المعاني فعليك بمعجم يفي بالغرض. هذه الخاصة العجيبة قلما تجد لها مثيلا في اللغات الأخرى. وهذا أيضا ينطبق على إبدال الحرف في وسط الكلمة أو الحشو، وإبدال الحرف الذي في نهايتها وهو الكسع.  ولعل من أعجب خصائص العربية أنك لو قرأت بعض الأفعال بترتيب عكسي لحروفها لانعكس المعنى.  لنأخذ مثلا كلمة كتب التي تعني جمع أو ضم الأشياء معا ومن هنا جاءت كلمة كتابة التي تعني ضم الحروف لتكوِّن كلمة، وكلمة كتيبة التي تعني مجموعة من الجنود.  عندما نقرأها معكوسة نحصل على كلمة بتك ومعناها قَطَعَ أو شَقَّ وهي نقيض الجمع والضم وقد جاء في القرآن الكريم: “وَلْيَبْتُكَنَّ آذانَ الأَنعام”.  هذا غيض من فيض من مزايا العربية التي لا تتمتع بها لغة سواها.
أما إذا ما سلمنا بأن العامية تصلح (بقدرة قادر) لأن ترتقي وتتسع لكل علم وفن ومأرب، ترى من أي عامية ننطلق؟ المغربية أم اليمنية أم اللبنانية أم المصرية أم العراقية أم أم أم؟ أم الأفضل أن “يطوّر” كل بلد عربي عامّيته لنخلق برج بابل العربي؟  وليكن لنا من محاولة سعيد عقل البائسة قبل أكثر من نصف قرن في استبدال الفصحى بالعامية اللبنانية درس وعظة. الأهم من ذلك: ماذا نفعل بالقرآن الكريم وبتراثنا العريق من الشعر والنثر؟ هل نترجمه إلى العامية الجديدة؟ أو العاميات الجديدة؟
ظلت العبرية لغة محنطة ما يقرب من ألفي عام، لا تكاد تستعمل إلا في داخل الكنيس والمناسبات الدينية حتى انبرى لها شخص يدعى إليعيزر بن يهوداه (1922-1858) الذي اعتقد أن بعث “الشعب” اليهودي لا يتم دون إحياء اللغة العبرية فجعل منها لغة حية، رغم العيوب العديدة التي تشوبها،  ومن يراقب النمو المطرد للغة العبرية لا يسعه إلا أن يأسف لحال اللغة العربية.
ما لم نجيد لغتنا سيظل السامع والقارئ يعاني من سوء إفهام الناطق والكاتب؟ 
سيظل الكلام البليغ، الفصيح، سيد الكلام في كل مقام، ما دام هناك عروق تنبض بحب العربية وقوم يغارون على تراثهم وحضارتهم. 

رحم الله حافظ إبراهيم الذي حذر وأنذر، حين قال بلسان لغة الضاد في قصيدته “ اللغة العربية تنعي حظها”:

أنا البحر في أحشائه الدر كامن           فهل ساءلوا الغوّاص عن صدفاتي؟
أرى كل يوم بالجرائد مزلقا من القبر يدنيني بغير أناة
سرت لوثة الإفرنج فيها كما سرى          لعاب الأفاعي في مسيل فرات
فجاءت كثوب ضم سبعين رقعة مشكلة الألوان مختلفات

وإذا أصبحت لغة قوم ما، مشكلة الألوان مرقعة المعاني فبشرهم بزوال حضارتهم! لتحل محلها حضارة ممزقة مرقعة بكل جوانبها.

عصام زكي عراف
معليا، الجليل الغربي


No comments:

Post a Comment