Friday, 3 January 2014

شعب بدون وطن؟ وطن بدون شعب؟

شعب بدون وطن؟ وطن بدون شعب؟


 المقال التالي أرسله إلي صديقي المؤرخ شلوموه زاند إثر حديث تليفوني بيننا في السادس من آذار لسنة 2010 سألته خلاله ماذا كتبت مؤخرا، فقال لي:
كتبت مقالا طويلا أرد فيه على الحملة المحمومة التي قامت إثر نشر كتابي: متى وكيف نشأ الشعب اليهودي، وسأرسله لك لتقرأه.
ترجمت المقال ولم أنشره حتى الآن. عنوان المقال:

شعب بدون وطن، وطن بدون شعب

الجاليات التي تتجمع في إسرائيل، لا يصح أن تدعى شعبا حتى الآن، لأنها ليست سوى أخلاط غير متجانسة وهباء بشر، لا يجمعها لسان واحد، ولا نشأة مشتركة، ولا جذور، ولم تتغذّ من تراث الأمة ولا تحمل شيئا من أحلامها.  (داڤيد بن چوريون، ייחוד וייעוד (تفرد ورسالة)، 1950)

عندما صدر كتابي باللغة العبرية انبرى البعض للرد عليه، وبعد ترجمته للغتين الفرنسية والإنچليزية على التوالي تناوله العديد من الأقلام وعقبوا عليه، ولا أظنني أنني أستطيع أن أُضَمِّن هذا المقال القصير الشرح الوافي ولا الرد الشافي على الذين حملوا علي في تعقيباتهم، وأكثر ما أجدني عديم الحيلة، في الرد على هؤلاء الذين زعموا أن كل ما ورد في كتابي ليس سوى أكاذيب، بينما يزعمون في الوقت ذاته أن كل ما كتب كان معروفا ومدونا من قبل ولا اعتراض عليه.  لذلك سوف ينحصر مقالي في الرد على أهم التعقيبات التي حاولت النيل من كتابي، الذي حطم العديد من الأصنام التي دأب على عبادتها الكثير من دعاة الخطاب الصهيوني.
قبل أن أخوض في صلب الموضوع، ودرءا لسوء الفهم، أرى من واجبي أن أنوه أنني لم أتوخ أن يتناول كتابي تاريخ اليهود، غاية كتابي هي نقد المزاعم وصوغ التاريخ التي ما زال سائدا حتى الآن، بالإضافة إلى ذلك، حاولت أن أحدد معالم القومية التي تتوكأ عليها دولة إسرائيل والتي ساهمت في نشوء وبلورة الأساطير التي من دونها ما كان للاستيطان الصهيوني أن يخرج إلى حيز التنفيذ، ليس كما نراه اليوم، على الأقل.  من الجدير بالذكر أيضا أن صوغ التاريخ المغرض ليست حكرا على المشروع الصهيوني، لأنه جزء لا يتجزأ من صوغ معتقدات الجماهير في جميع أنحاء العالم المعاصر.  جميعنا يعلم حق العلم أن ما تختزنه الشعوب في ذاكرتها القومية هو من بنات أفكار أناس أنيطت بهم مهمة نسج تلك الأساطير.

 اليهود موجودون منذ القدم

في الماضي، كانت كلمة شعب تطلق على الذين يعتنقون ديانة ما، كقولهم "الشعب اليهودي"، أو "الشعب المسيحي"، أو "شعب الله" وما يشبه ذلك.  أما في العصر الحديث، فقد أصبحت تلك الكلمة تشير إلى مجموعات من البشر، لها معالم حضارية ولغوية مشتركة.  لا أعتقد أن من الجائز إطلاق كلمة شعب على مجموعة من الناس قبل انتشار الطباعة ومعها جاء انتشار الكتب والصحف على نطاق واسع، حيث ساهم شيوع المطبوعات في نشوء التربية الوطنية.  قبل ذلك العهد، كان الاتصال بين الناس يتم على نطاق ضيق للغاية، وكان كعظم الناس يعملون في الزراعة وتربية الماشية، بحيث أن ثروتهم من اللغة كانت تقتصر على ما يحتاجه الواحد منهم للقيام بعمله وعبادته، ولذك لا أرى أن من الجائز أن نطلق كلمة شعب على مجموعة من الناس، معظمهم من المزارعين والرعاة الأميين، من يزعم ذلك يشوه وجه التاريخ!
عندما تزعم كتب التاريخ الصهيونية مملكة الحشمونائيم بأنها مملكة قومية، فإنها تثير السخرية، كيف تكون مثل تلك المملكة، دولة قومية، إذا كان حكامها الذين يعيشون في العاصمة يتكلمون الآرامية، بينما كان معظم رعاياهم يتكلمون لهجات مختلفة من العبرية، بينما كان التجار والحرفيين وكثيرون غيرهم يتكلمون اليونانية التي كثر انتشارها في ذلك العهد؟
حيث أن المؤرخين يعتمدون على دائما على ما دونه الأقدمون، وحيث أن جميع هؤلاء كانوا ينتمون إلى طبقة المثقفين في عصرهم، فقد وقعوا في خطاء التعميم، واعتقدوا أن تلك الوثائق تعكس حالة عامة الشعب، بينما كانت في الواقع، تصف لنا حالة قلة قليلة من الناس، وذلك لأن السواد الأعظم من سكان تلك الممالك والأمارات لم يكن لهم علم ولا تأثير بما يدور بلاط الحكام ومعاونيهم، وكان جل همّهم توفير قوت يومهم، لا غير.  كان الشعور بالولاء للحكام يأتي من الإقطاعيين وأثرياء المدن الذين يعتمدون على سطوة الحاكم للحفاظ على امتيازاتهم ولذك ساعدوه على تثبيت دعائم سلطته.
قبل العصور الحديثة لم يكن هناك مثقفون يعالجون في كتابتهم ما يمثل مصلحة عامة الناس، كان رجال الدين هم الوحيدون الذين اهتموا بنشر المعتقدات الدينية بين الجماهير، أما الحرية التي أتيحت لهم فقد كانت منوطة بقدرتهم على إرساء دعائم الدين بين عامة الناس، وقد كان من أسباب نفوذهم، ما اعتادوه من تضامن واتصال دائم في ما بينهم.  لم يقتصر تأثيرهم على نشر الإيمان فقط، بل نتج عنه أيضا تكوين ذاكرة مشتركة لدى عامة الناس، ولذلك فإن جموع البربر في جبال أطلس كانوا يعرفون عن قصة خروج اليهود من مصر، وعن نزول التوراة أكثر بكثير مما كانوا يعرفون عن الحاكم الذي يعيش في عاصمته بعيدا عنهم.  لم يختلف الأمر عن ذلك في فرنسا أيضا، حيث كان العديد من الفلاحين يعرف عن قصة ميلاد المسيح، بينما بعضهم لا يعرف اسم ملكه.
كما أنه لم يكن هناك منذ خمس مائة عام شعب فرنسي، أو بولندي، أو إيطالي، أو ڤيتنامي، كذلك أيضا لم يكن هناك شعب يهودي في العالم برمته.  لا شك أن العقيدة اليهودية وما يتبعها من عبادات وطقوس كانت موجودة بمقادير متفاوتة من التزمت والانتماء، لكن الصبغة اليهودية لتلك الجاليات كانت طفيفة كل ما كانت عناصر الحضارة الغير يهودية التي يعيشون بين ظهرانيها، تحتل حيزا أكبر في حياتهم اليومية.  التباين العميق في مظاهر الحياة اليومية للجاليات اليهودية حيث ما وجدت حمل المؤرخين الصهيونيين على الزعم بأن جميعهم ينحدرون من أصل واحد، وهذا الأصل لا بد من رده إلى العبرانيين القدماء، كما بيّنت ذلك في كتابي.  لأسباب موضوعية، لم يكن بوسع هؤلاء المؤرخين الزعم بأن اليهود جميعا هم سلالة واحدة، غير أن الغالبية العظمى منهم  أكدت أنهم ينحدرون من أب واحد وهذا ما يسوّغ لهم أن يزعموا بأنهم "شعب".   كما أن الفرنسيين كانوا على ثقة في ما مضى بأنهم جميعا من سلالة الغاليين، أو كما أن الألمان كانوا أيضا يعتقدون بأنهم ينحدرون من السلالات التوتونية الآرية، كذك كان اليهود أيضا يعتقدون بأنهم أحفاد اليهود الذين خرجوا من مصر.  أسطورة "الآباء العبرانيين"  كانت الشرط الذي لا غنى عنه لمزاعم الحركة الصهيونية بأن فلسطين من حق اليهود فقط، ولا يزال العديد من اليهود على يقين بأنهم أحفاد العبرانيين القدماء.  كلنا نعلم حق العلم، بأن الانتماء إلى فئة دينية ما لا تصلح أن تكون ذريعة لملكية رقعة من الأرض في العالم المعاصر،  ولكن من يزعم أنه حفيد أناس كانوا يعيشون يوما على رقعة من الأرض يستعمل تلك الذريعة، وهذا ما فعلته الحركة الصهيونية.
وهكذا، بجرة قلم، حول المؤرخون الصهيونيون كتب العهد القديم من كتابات حكايات دينية مؤثرة، إلى كتاب تاريخ علماني، يدرسه جميع الطلبة اليهود في إسرائيل منذ السنة الدراسية الأولى حتى نهاية المرحلة الثانوية.  استطاعت مناهج التعليم الحديثة في دولة إسرائيل أن تحول "بني إسرائيل"  من  "الشعب المقدس" إلى شعب من "نسل إبراهيم".  
عند ما أخذت الحفريات الحديثة تثبت أن خروج العبرانيين من مصر ليس سوى أسطورة، وأن المملكة الموحدة العظمى التي أقامها داؤود وسليمان، هي أيضا من الأساطير، كانت تلك صدمة كبيرة ومحرجة للجماهير اليهودية العلمانية في إسرائيل ولم يكن بوسعها أن تصدق تلك الاكتشافات (لأنها تنسف المزاعم الصهيونية من أساسها - المترجم)، ولذك لم يتورع بعض الغلاة من اليهود بأن يصموا علماء الآثار بأنهم "منكروا العهد  القديم".

الجلاء والذاكرة التاريخية

علمنة العهد القديم كانت تسير يدا بيد مع قومنة المهجر.  الأسطورة السائدة عن تهجير "الشعب اليهودي" من موطنه على يد الرومان في السنة السبعين للميلاد كانت الذريعة الوحيدة لادعاء الملكية اليهودية على أرض فلسطين، التي حولها الخطاب الصهيوني إلى "بلاد شعب إسرائيل".  في هذا نجد محاولة مريعة، ليس لها مثيل، لتحوير التاريخ، لصوغ ذاكرة مستحدثة للجماهير اليهودية.  رغم أن جميع الدارسين لتاريخ اليهود القديم يعلمون حق العلم، أن الرومان لم يطردوا اليهود من فلسطين، ولذلك، لا يوجد كتاب أو بحث جدي واحد يثبت هذا المزعم، رغم ذلك، فإن عامة الناس على ثقة بأن "شعب إسرائيل" القديم اقتُلع من وطنه قسرا، كما أشير إلى ذلك في وثيقة الاستقلال لدولة إسرائيل، ويظهر بجلاء على النقد الإسرائيلي. 
كلمة "جلاء" استعملها اليهود قديما للدلالة على رفضهم لفكرة الخلاص التي اتكزت عليها المسيحية التي تقول أن المخلص، أي المسيح قد جاء ومن ينكر ذلك فهو ملحد.  استعمل المؤرخون الصهيونيون هذه الكلمة لإضفاء معنى جديد له دلالات سياسية علمانية فقد استبدلوا المعنى الديني العميق الذي يقرن بين "الجلاء" و "الخلاص"، (أي أن الجلاء الذي فرضه الرب عقوبة لبني إسرائيل سينتهي عندما يعفو الرب عنهم ويرسل المسيح، أي الملك ليخلصهم ويعيد لهم مجدهم الغابر - المترجم) بمعنى آخر، بمهارة فائقة ليصبح "الجلاء" الذي يفضي إلى "الوطن".  ظل اليهود لقرون عديدة يحلمون بالعودة إلى صهيون، مدينتهم المقدسة، غير أن الهجرة إليها والعيش فيها لم يخطر حتى ببال اليهود الذين عاشوا قريبا منها، حتى تلك القلة القليلة من اليهود التي استوطنت مدينة القدس، كانوا على يقين أنهم لا يزالون في المهجر حتى يأتي المسيح ويخلصهم باستصحابهم إلى صهيون ومعهم جميع الأموات من اليهود.
وهنا لا بد لي من أن أنوه أنّ كتابي لم تكن غايته الطعن في "الحقوق التاريخية" لليهود في صهيون.  حتى عندما كنت لا أزال ساذجا وأصدق أن الرومان قد أجلوا اليهود في بداية العهد المسيحي، لم أكن أعتقد أن جلاء ألفي سنة عن بلاد ما يعطي حقوقا للذين جلوا عنها، بينما هؤلاء الذين يعيشون عليها باستمرار منذ ثلاثة عشر قرنا لا حقوق لهم.  هل يخطر ببال أحد أن ينفي الوجود الأمريكي الحالي بسبب حقوق السكان الأصليين؟ أو أن يدعو إلى طرد الغزاة النورمانديين من بريطانيا أو إعادة العرب إلى إسبانيا. إن الذي يستند في دعواه إلى قصص خرافية وأساطير دينية من الأزمنة الغابرة، يكون كمن يهزأ بالتفكير السليم والمنطق القويم.  حق إسرائيل في الوجود لا ينبع من قصص العهد القديم ولكن من أحداث تاريخية مؤلمة لا سبيل إلى نقضها، وكل محاولة لنفي حقها في الوجود ستؤدي إلى مزيد من الكوارث والمآسي.

هل الفلسطينيون هم أحفاد قدماء اليهود؟

إذا كان الجلاء اليهودي لم يتم، ماذا حل إذن بالسكان اليهود في ذلك العصر؟ اتهمت بأنني زعمت أن فلسطينيي اليوم هم أحفاد قدماء اليهود، أنا لم أكن أول من زعم ذلك، أنا نقلت بأمانة، ما قاله آباء الحركة الصهيونية أمثال يسرائيل بالكيند وداڤيد بن چوريون ويتسحاك بن تسڤي الذين كانوا على ثقة بأن العديد من الفلاحين الذين قابلوهم في بداية استيطانهم هم من أحفاد "الشعب اليهودي" القديم ولذك يجب الاندماج في ما بينهم.  كان اعتقادهم ينبع من معرفتهم أن الرومان لم يجلوا اليهودمن فلسطين في القرن الميلادي الأول، ولذلك استنتجوا بحق أن الفلسطينيين هم أحفاد اليهود القدماء الذين اعتنقوا الإسلام مع استيلاء العرب على فلسطين في القرن السابع الميلادي.  تنكر بن چوريون في ما بعد لاعتقاده الأول عندما شارك في كتابة وثيقة الاستقلال لدولة إسرائيل، دون أن يشرح سبب ذلك التحول.  في اعتقادي، أن سكان فلسطين في العهد الحديث، ينحدرون من أصول متنوعة مثل معظم شعوب العالم المعاصر، حيث أن فلسطين خضعت لسيطرة العديد من الشعوب على مر التاريخ، من مصريين ويونان ورومان وعرب وأتراك، فإن دماء هؤلاء جميعا اختلطت ونتج عنها الشعب الفلسطيني كما نعرفه اليوم.  رغم إنني لا أعير هذه الحقيقة كبير اهتمام فإني اعتقد أن بن چوريون الشاب قد قارب الصواب، لأن أحد سكان الخليل اليوم أقرب سلالة إلى قدماء اليهود من معظم يهود العالم المعاصر.

الملاذ الأخير: علم الوراثة

بعد أن استنفُدِت جميع التعليلات التاريخية، لجأ العديد من منتقديَّ إلى علم الوراثة، بتناقض صارخ لزعمهم بأن الصهيونية لا تقول بأن اليهود من سلالة واحدة، وكأنهم يقولون "اليهود ليسوا خلصاء، ولكنهم يعودون إلى أصل واحد".  عبثا، حاول بعض المختصين في إسرائيل، في الخمسينيات من القرن العشرين، البحث عن تشابه في بصمات الأصابع لدى اليهود، أو وجود أمراض تنتشر بين اليهود أكثر من سواهم.  منذ سبعينيات ذلك القرن وتطور وسائل الكشف عن الأسّ الوراثي في الخلايا الحية (الجينات) عمد العديد من العلماء في معاهد البحث الإسرائيلية والأمريكية للتنقيب عن صفات وراثية مشتركة لجميع "بني إسرائيل".  تناولت بالتفصيل في كتابي عدم جدية النتائج التي تمخضت عنها أبحاث هؤلاء العلماء، والتناقض الذي أوقعتهم فيه رغبتهم العارمة في إيجاد دليل علمي لوحدة الأصول اليهودية.  القاسم المشترك لمعظمهم هو التوكأ على ما درسوه من الخطاب الديني الذي جعلهم يؤمنون بأن تلك النصوص الدينية تروي بأمانة ودقة، وقائع أحداث من الماضي السحيق، ولذلك لا بد من البحث عن برهان علمي يؤلد صحة تلك الأساطير.  يذكرني هؤلاء العلماء من الصهيونيين ومريديهم، بتلك المجموعة الأوروبية من العلماء التي حاولت في نهاية القرن التاسع عشر أن تبرهن بأن للشعوب الآرية جمجمة تختلف في شكلها وحجمها عن جماجم غيرهم من الشعوب، وكأن القدرات العقلية للإنسان ترتبط بالمظهر الخارجي لجمجته!  
من الجدير بالذكر، أن جميع المحاولات لاكتشاف صفات وراثية مشتركة لليهود قد باءت بالفشل حتى الآن.  من سخرية القدر أن أحفاد ضحايا النازية يبحثون عن الهوية اليهودية في الخلايا الحية ( لا شك أن ذلك كان سيثلج قلب أدولف هتلر، بعد أن أخفق هو بذلك! ).  من المثير أيضا، أن مثل هذه المزاعم والأبحاث تتم في دولة تنفذ منذ عقود سياسة معلنة لتهويد البلاد، ولا تقر بزواج اليهودي من غير اليهودية!   

المتهودون، الخزر، المؤرخون

رغم إقرار جميع منتقديّ بأن قصة جلاء "الشعب اليهودي" من بلاده على يد الرومان في القرن الميلادي الأول، لا أساس لها من الصحة، ورغم إقرارهم بأن كتب العهد القديم ليست مصادر تاريخية موثوقة، ظل الكثير منهم يقذفني بسهامه لأنني عالجت في فصلين من كتابي "القضية الخزرية"، قال الكثير منهم: 
"كلنا قرأنا في حداثتنا عن تهود الخزر"، "هذه قصة مهترئة وغير موثقة"، "الكاتب المعادي للسامية، آرتور كوستلر، هو الذي لفقها"، "العرب يسخرون هذه القصة منذ مدة طويلة"، وكثير غير ذلك.
لعل أكثر ما شد انتباهي، أن أحدا من هؤلاء النقاد لم يذكر، ولو بكلمة واحدة، التهويد القسري للجيران، الذي أقدم عليه الحشمونائيون، واعتناق بعض الجماعات الكبيرة لليهودية، حول حوض البحر المتوسط، في العصور القديمة، ومنها على سبيل المثال، مملكة حدايب في بابل القديمة، مملكة حمير في اليمن، البربر في شمال إفريقيا.  على النقيض من الاعتقائد السائد في أيامنا، فإن أتباع اليهودية منذ بداية القرن الثاني للميلاد وحتى مستهل القرن الرابع على الأقل كانوا يعملون بحماس لنشر مذهبهم بين الفئات الأخرى، ولا  يوجد من يستطيع أن يتنكر بالبرهان لهذها الحقيقة التاريخية.  لم يتوقف العمل على نشر اليهودية، إلا عندما قامت دول مسيحية ( وإسلامية في ما بعد ) وحظرت على اليهود الدعوة إلى اليهودية بين رعاياها، ولكن ذلك لم يحل دون محاولة نشر اليهودية بين الشعوب الوثنية، وهذا هو المدخل لقصة اعتناق جموع الخزر لليهودية.
هناك إجماع على أن تحول الإمبراطورية الخزرية إلى اليهودية حدث في القرن الثامن الميلادي، غير أن المؤرخين الصهيونيين يستشيطون غضبا عندما يزعم غيرهم بأن انتشار اليهودية الكثيف في شرق أوروبا كان نتيجة لانهيار تلك الامبراطورية وهجرة الكثير من اليهود فيها إلى أوكراينا وروسيا وبولندا والمجر.  لا بد من التنويه بأن كوستلر لم يكن أول من زعم بأن الوجود اليهودي الكثيف في تلك الأرجاء نتيجة لهجرتهم من الامبراطورية الخزرية المتداعية، ولعل ذنبه الوحيد أنه كان آخر من نشر أبحاثه.  حتى نهاية الستينيات من القرن العشرين، اعتقد عامة المؤرخين والصهيونيين منهم أيضا، ما كتبه كوستلر في ما بعد، وقد أوردت في كتابي العديد مما كتبه هؤلاء، ولذلك كانت دهشتي شديدة عندما زعم بعض النقاد: "قصة الخزر كانت معروفة لنا، وقد كتبنا عنها".
في ما يلي أورد بعض الأمثلة:
زعم بن تسيون دينار، المؤرخ الأول في أسرائيل ووزير التربية والتعليم في الخمسينيات، أن بلاد الخزر أصبحت "المصدر لجميع الجاليات، هي المصدر لإحدى كبرى الجاليات، أي الجاليات اليهودية في روسيا وليتوانيا وبولندا"
أما المورخ الأمريكي اليهودي شالوم بارون المعروف بتعاطفه مع إسرائيل فقد كتب يقول: "ذلك الوجود اليهودي الظاهر للعيان، أثر لعشرات العقود من خلال وجوده (740-1250) ومن خلال فروعه التي امتدت في شرق أوروبا، واستمر تأثيره العميق على التاريخ اليهودي أكثر بكثير مما يخطر على بالنا الآن.  من بلاد الخزر انطلق اليهود إلى سهوب شرق أوروبا الواسعة الأرجاء خلال ازدهار الإمبراطورية الخزرية وخلال هبوطها".
عندما سئل الباحث الفرنسي المعروف مارك بلوخ، من هم اليهود؟ قال:
"هم مجموعة من المؤمنين التي نشأت في الماضي البعيد على جوانب البحر المتوسط وفي المحيط التركي - الخزري والسلاڤي". 
وضع المؤرخ أفراهام پولاك، وهو مؤسس موضوع تاريخ الشرق الأوسط في جامعة تل أبيب، كتابا يعتبر المرجع الأهم والأشمل في مجاله، يشير فيه إلى أن الغالبية العظمى من يهود شرق أوروبا تنحدر من قبائل كانت تعيش في المملكة الخزرية.  الفرق بين المؤرخين الصهيونيين وسواهم هو أن الصهيونيين يزعمون دون أي دليل، أن سيلا كبيرا من المهاجرين اليهود الذين استقروا في بلاد الخزر جاؤوا إليها من فلسطين.  هذه ليست سوى محاولة عقيمة لردهم إلى أصول عبرانية.
منذ أن نشر پولاك أبحاثه في أربعينيات القرن العشرين حتى يومنا هذا، لم تصدر دراسة واحدة تبحث في العلاقة بين القبائل التي تهودت في المملكة الخزرية الواسعة الأرجاء وبين ظهور تلك الأعداد الغفيرة من اليهود الناطقين بالييديش، لم يكتب حتى اليوم بحث موثق واحد ولم تظهر أي دراسات يعول عليها تفسر لنا كيف يمكن أن ينبثق ذلك السيل الغزير من الهجرة اليهودية، من تلك الجالية الصغيرة في غرب ألمانيا، والتي نتج عنها وجود أكثر من ثلاثة أرباع مليون من اليهود في الاتحاد البولندي الليثواني (عدا عن اليهود الذين وجدوا في أوكراينا الشرقية، روسيا، رومانيا، المجر، وبوهيميا)، وهو عدد ضخم جدا في ذلك الوقت الذي سبق الانفجار السكاني في القرنين التاسع عشر والعشرين.  زعم بعض خبراء النمو السكاني الصهيونيين، أن تكاثر اليهود يفوق غيرهم بعشرات الأضعاف لأنهم يغسلون أيديهم قبل تناول الطعام.  هذا زعم باطل يتوكأ على حجج واهية.  ما لم تنشر دراسات جديدة تفسر ظهور تلك الجاليات اليهودية الكبيرة في شرق أوروبا،  والتي لا مثيل لها في أي بقعة أخرى من العالم، فإن التفسير الوحيد لذلك، هو نزوحهم من مملكة خزرية ازدهرت خلال العصور الوسطى.  ( من الجدير بالذكر أن عدة دراسات ألسنية، أشارت إلى أن لغة الييديش جاءت من أصول تختلف عن لغة اليهود الألمان التي انتشرت في الأحياء اليهودية (الچيتو) في غرب ألمانيا).
منذ أن انطوت صفحة الاستعمار في آسيا وإفريقيا، وبعد ظهور الحركة الوطنية الفلسطينية واحتلال إسرائيل في سنة 1967 لما تبقى من فلسطين إلى الغرب من نهر الأردن، لم يعد هناك شك (عند غلاة الصيهيونية) بأن الفاتحين اليهود الجدد للقدس هم أحفاد العبرانيين في مملكة داؤود وسليمان، وكما نفى المؤرخون السوڤييت اليهود الخزر من كتبهم، بعد الحرب العالمية الثانية، نفاهم أيضا مؤرخو الحركة الصهيونية من كتبهم بعد حرب سنة 1967.  في الحالتين كانت الدوافع العقائدية - السياسية هي التي أملت تشويه الوقائع التاريخية.

نفي وجود شعب إسرائيلي

اتهمت أيضا بأنني "أنفي وجود شعب يهودي"، وأنا أقر واعترف بأن هذه التهمة لا تخلو من الصدق وإن كانت الغاية منها التقريع والتلميح إلى أنني أنفي وقوع المحرقة، وهذه تهمة لا تغتفر.
إذا كان انتشار الكتب والصحافة على نطاق واسع هو السبب في نشوء القوميات في العصر الحديث أفلا تكون تلك الظاهرة أيضا تمخضت عن ولادة شعب يهودي؟  الجواب هو لا، لم يحدث ذلك، باستثناء شرق أوروبا حيث كان اليهود يمثلون نسبة ملموسة من السكان وحيث كان لهم لغة مشتركة ومعالم حضارية خاصة بهم، لم ينشأ شعب يهودي يضم تحت لوائه جميع اليهود في العالم.  مؤسسي حزب "البوند" اليهودي الكبير الذي نشأ في شرق أوروبا كانوا يعلمون بأن تخوم الشعب الذي أرادوا الحفاظ على كيانه ومصالحه لا تتعدى تخوم انتشار لغة الييديش.  من الواجب التنويه أيضا بأن أوائل الصهيونيين في غرب أوروبا  كانوا يعتقدون بأن فلسطين يجب أن تكون لليهود الناطقين بالييديش وليس لهم، فقد كانوا يشعرون بالانتماء للدول التي عاشوا فيها وكانوا ينظرون إلى أنفسهم كرعايا بريطانيين أو فرنسيين أو ألمان أو أمريكيين وقد حاربوا في صفوف جيوش تلك الدول بحماس وغيرة.
رغم عدم وجود شعب يهودي في الماضي، أوَلم تنجح الحركة الصهيونية في ابتعاثه؟  
كل حركة قومية حلمت بابتعاث شعب، عملت على نسبته إلى أصول معرقة في القِدَم، هذا أيضا ما فعلته الحركة الصهيونية، وإذا كانت قد حققت غايتها في إيجاد شعب لم تنقطع مسيرته منذ القدم فإنها قد أخفقت في ابتعاث شعب يهودي ينتمي إليه جميع اليهود في العالم.  لا توجد اليوم بقعة على الأرض لا يستطيع اليهود الهجرة منها إلى إسرائيل، رغم ذلك فإن معظمهم لا يرغب في العيش في ظل سيادة يهودية ويفضل العيش في دول قومية مختلفة بل ويختلط بهم بالزواج أيضا.  بيد أن الصهيونية وإن أخفقت في ابتعاث شعب يهودي عالمي، أو قومية يهودية، فقد نجحت في ابتعاث شعبين وقوميتين جديدتين، ولكنها، من سوء الحظ، تأبى الاعتراف بوجودهما، بل إنها ترى فيهما كيانان غير شرعيان.  يوجد اليوم شعب فلسطيني، وهو وليد الاستعمار، يحلم بدولة ذات سيادة ويحارب بكل ما أوتي من وسائل للحفاظ على ما تبقى من وطنه، ويوجد شعب إسرائيلي يبذل كل ما في وسعه للحفاظ على استقلاله القومي، كما أن له لغته الخاصة به ونظام تعليم شامل وإنتاج أدبي وفني يعبر عن نشاطه الزاخر في كل المجالات، دون أن يكون لباقي اليهود في العالم أي مساهمة في ذلك.
بوسع اليهود الصهيونيين الذين يعيشون خارج إسرائيل أن يمدونها بالمال، وأن يحملوا الحكومات في بلادهم على تأييد إسرائيل وتقديم المعونات المالية والعسكرية والاستخباراتية، كل ذلك في الوقت الذي لا يجيدون النطق باللغة العبرية وهي اللغة الرسمية لدولة إسرائيل، أي أنهم لا يفهمون لغة تلك "القومية" التي يزعمون بأنهم جزء منها! كما أنهم يمتنعون عن الالتحاق "بالشعب الذي عاد إلى أرض أجداده"، ولا يرسلون أبناءهم للمشاركة في حروب إسرائيل.
في الوقت الحاضر، يفوق عدد اليهود الذين يهاجرون من إسرائيل إلى دول الغرب عدد اليهود الذين يهاجرون من تلك الدول إلى إسرائيل.
كلنا نعلم بأن معظم اليهود الذين هاجروا من دول الاتحاد السوڤييتي السابق إلى إسرائيل، كانوا يفضلون الهجرة إلى أمريكا لو أتيح لهم ذلك، كما فعل الناطقين بالييديش قبل قرن من الزمن.
ترى هل كانت إسرائيل لتقوم لو لم تغلق الولايات المتحدة أبوابها في وجه الهجرة من أوروبا الشرقية في سنوات العشرينيات من القرن العشرين، وقد ظلت سياسة الهجرة عديمة الرحمة تلك تغلق الأبواب في وجه الفارين من النظام النازي قبل الحرب العالمية الثانية وخلالها وفي ما بعد الحرب. 
لعل أقل البلدان أمنا في العالم في هذه الأيام، للذين يعتبرون أنفسهم يهودا هي إسرائيل، بينما كانت الصهيونية تزعم أنها تسعى لإقامة كيان يعيش فيه اليهود آمنين، ومن أسباب في ذلك عدم اعتراف الحركة الصهيونية بوجود شعب إسرائيلي، لأنها ترى في اليهود المقيمين في إسرائيل مجرد طلائع استيطانية في مشروع استيطاني توسعي مستمر، ولذك يجب أن يظل معزولا عن محيطه ومزملا بعقائدية عرقية منطوية على نفسها.
كانت ولادة معظم القوميات من توهّم ماض مشترك وأصل واحد انحدر منه جميع أبناء "الشعب".  ظل النقاش محتدما حول تعريف ماهية المعالم المشتركة التي تؤلف قومية ما، خلال القرنين التاسع عشر والعشرين، ولا يزال هذا النقاش مستمرا حتى أيامنا هذه في عديد من بقاع الأرض.  في معظم الدول الديمقراطية - الليبرالية تسود اليوم قومية قوامها المواطنة السياسية، حيث تم فصل الدين عن الدولة وأصبحت القيم العلمانية الإنسانية من حرية ومساواة في الحقوق والواجبات دون تمييز، هي التي تجعل من الإنسان جزءا من ذلك الكيان.  بينما لا تزال بعض الدول ترى في الانتماء العرقي أو الديني أو كليهما، الشرط الأول للحصول على الحقوق المدنية والسياسية وامتلاك الأرض.
نشأت الصهيونية في وسط وشرق أوروبا وتأثرت كثيرا بالتيارات العقائدية السائدة في موطِن نشأتها، حيث كان الانتماء منوطا بالمنشأ العرقي المتصل بعقيدة دينية هو الشرط الذي لا بد منه للحصول على عضوية كاملة في تلك المجتمعات، حيث لم تشفع لغة مشتركة، أو إقامة طويلة، أو الاندماج في الحياة المدنية العلمانية بجميع أشكالها ليصبح المواطن جزءا من الأمة.
ما زالت الحركة الصهيونية تتشبث بالانتماء إلى أحفاد إبراهيم واسحق ويعقوب والدين اليهودي كشرط لا بد منه للانتماء "للشعب اليهودي"، وهذا يعني أن باب الانضمام إلى هذا "الشعب" مغلق أمام جميع العلمانيين.  بل أن الخروج من حظيرة تلك "القومية" غير ممكن.  هذه هي المعضلة الكبرى التي تواجه إسرائيل اليوم.
أدى الاستيطان الصهيوني في فلسطين إلى مزيد من التشبث بهذه الصيغة من القومية، وإذا كان هناك من قادة الصهيونية من كان يرى في الفلسطينيين أحفاد قدماء اليهود ويعتقد بإمكانية اندماجهم في الكيان الصهيوني المزمع إقامته، فقد تلاشت تلك الفكرة تماما مع ظهور بوادر المعارضة العربية للاستيطان الصهيوني، فأصبح الانتماء العرقي - الديني هو الذي يجب أن يتوفر في أي شخص يرغب في الانضواء تحت لواء هذه "القومية" المستحدثة.
لم يتمسك مجتمع استيطاني بالانتماء العرقي - الديني كما تمسكت به الصهيونية، ففي أريكا الشمالية مثلا، دام ذلك التمسك طويلا ثم تلاشى، أما في أمريكا اللاتينية - الكاثوليكية التي شهدت نشوء قوميات جديدة منذ أمد غير بعيد، فقد تلاشت تلك الصيغة بسرعة أكبر.
ظهرت في إسرائيل في مستهل الستينيات من القرن العشرين بوادر طفيفة لصيغة علمانية قومية لكنها ما لبثت أن توارت إثر حرب 1967 ووقوع أعداد كبيرة من الفلسطينيين تحت الاحتلال الإسرائيلي، مما أدى إلى مزيد من التعصب وهيمنة عقيدة "العرق" اليهودي المُتَوَهّم.
ما زالت إسرائيل ونحن في العقد الأول من القرن الحادي والعشرين، تُعَرّفُ نفسها بأنها دولة يهودية تعود "للشعب اليهودي" ، أي أنها دولة جميع يهود العالم حيث ما حلوا ونزلوا، وليست دولة جميع مواطنيها الذين يعيشون فيها، ولذك من الصواب أن ننعتها بأنها دولة "إثنوقراطية" وليست ديمقراطية كما تزعم، حيث جميع الدول الديمقراطية الحديثة على اختلاف أشكالها إنما تمثل جميع مواطنيها وتعمل على تلبية حاجاتهم دون استثناء أي فئة ودون محاباة أي فئة دون أخرى.  العمال الأجانب في إسرائيل وعامتهم من دول جنوب شرق آسيا كالفيلبين وسيريلانكا، يظلون غرباء، حتى لو عاشوا وعملوا فيها عشرات السنين وأنجبوا أولادا لا يعرفون لغة لهم سوى العبرية.
خمس السكان في إسرائيل هم من العرب الفلسطينيين، وهم سكان البلاد الأصليين، ولكن الدولة تعتبرهم أعداء أو غرباء في أحسن حال، رغم أن إسرائيل قامت على أنقاض وطنهم واستولت على معظم أراضيهم.  لن أفاجأ إذا ما اندلعت الانتفاضة القادمة من بين صفوفهم إذا ما استمر الحال على ما هو عليه اليوم.
هناك من يطيب له أن يتجاهل الواقع القائم ، ويطيب له الاستمرار بالادعاء بأن "الشعب اليهودي" موجود منذ أربعة آلاف سنة، وأن "أرض إسرائيل" كانت دائما ملكه الخاص، غير أن تلك الأساطير التي سُخِّرَت في الماضي القريب (بواسطة الخيال المجنح لبعض المؤرخين الصهيونيين)، لإقامة دولة إسرائيل، هذه الأساطير بعينها قد  تكون السبب في زوالها.

No comments:

Post a Comment