Wednesday, 27 February 2013

لغة الأرقام ولغة الأوهام





لغة الأرقام ولغة الأوهام!





يحكى ان أحد الفلاحين كان يستيقظ باكرا في الصيف للعمل في حقله المجاور لمنزله وعندما يشتد الحر يقصد منزله لتناول شيئا من الطعام والاستسلام لقيلولة، ليعود بعد انقضاء الهاجرة لمزاولة عمله في الحقل. عندما عاد في أحد الأيام إلى البيت لم يكن في وسعه الإغفاء لضجيج أولاده وأولاد الجيران، ولم يسعفه انتهارهم. فكر قليلا ثم نهض وخاطب الأولاد قائلا:

نسيت أن أخبركم أن في القرية القريبة، يقيمون اليوم احتفالا بزواج الإبن الوحيد لشيخ القرية ويقدمون الحلوى والشراب اللذيذ لكل الحاضرين.

تراكض الأولاد نحو القرية المجاورة وساد الهدوء البيت فألقى صاحبنا رأسه على الوسادة ليخلد للراحة وقبل أن يغمض له جفن، قال في نفسه:

هل من الحكمة أن أخلد للنوم، وفي القرية القريبة يقدمون الحلوى والشراب اللذيذ للرائح والغادي؟

نهض مسرعا ويمم شطر القرية القريبة لينال نصيبا من الحلوى والشراب!

عندما أقرأ عن الاحتفالات والمهرجانات التي تقيمها الأحزاب العربية بعد الانتخابات، أتذكر قصة ذلك الفلاح التي رواها لنا الأستاذ عندما كنا ندرس «أنظمة الرقابة والتحكم» في الجامعة.

إنه خداع الذات وخداع الآخرين، ونحن من أمرنا في نارين:

إذا كان المبادرون لتلك الاحتفالات يعتقدون حقا أنهم حققوا انتصارا باهرا يستحق الاحتفال، فهذه مصيبة، وإذا كانوا يعلمون أنهم يدعون للاحتفال بانتصار من نسج خيالهم، فهذا هو التضليل بعينه، ولذلك، فالمصيبة أعظم، كما يقول الشاعر محمد الهلالي:

إن كنت لا تدري فتلك مصيبة

أو كنت تدري فالمصيبة أعظم

من ينعم النظر في نتائج الانتخابات الأخيرة للكنيست ويقابلها بانتخابات سنة 2009 تنجلي له الحقائق التالية:

عدد الأصوات الصالحة في انتخابات 2009 كان 3373490

عدد الأصوات الصالحة في انتخابات 2013 كان 3792742

بحساب بسيط نجد أن عدد الأصوات الصالحة ازداد بنسبة 12.42٪

عدد الأصوات التي حصلت عليها القوائم العربية كانت كالتالي:

الموحدة، سنة 2009: 113954 صوت. سنة 2013: 138450 صوت

الجبهة، سنة 2009: 112130 صوت. سنة 2013: 113494 صوت

التجمع، سنة 2009: 83739 صوت. سنة 2013: 97030 صوت

أي أن نسبة الزيادة الحقيقية في الأصوات التي حصلت عليها القوائم المذكورة أعلاه كانت كالتالي:

الموحدة ارتفعت من 3.34٪ إلى 3.65٪ بزيادة قدرها 0.31٪

الجبهة انخفضت من 3.32٪ إلى 2.99٪ بانخفاض قدره 0.33٪

التجمع ارتفعت من 2.48٪ إلى 2.56٪ بارتفاع قدره 0.08٪




أي أن عدد المصوتين للموحدة ارتفع بواحد وثلاثين صوتا لكل عشرة آلاف صوت فإذا أخذنا بعين الاعتبار أن عدد الأصوات العربية لا يزيد كثيرا عن عشرين في المائة من عدد الأصوات ونسبة المصوتين العرب أقل فهذا يعني أن الارتفاع لم يتجاوز خمسة عشر صوتا من كل ألف صوت من الأصوات الصالحة، أما الجبهة فقد خسرت عددا من الأصوات يقرب من عدد الأصوات التي أضافتها لنفسها الموحدة. أما التجمع فقد كسب ما يقرب من خمسة أو ستة أصوات من كل ألف صوت من الأصوات العربية. من الجدير بالذكر أن هذه الأرقام قد تختلف اختلافا طفيفا لأن الجبهة تحصل على عدد من الأصوات اليهودية.

لا شك أن الجبهة كانت الخاسر الأكبر ولذلك فمن واجب قيادتها أن تحاسب نفسها وأن تستخلص العبر من هذه النتائج، أما الموحدة والتجمع فهما أيضا بحاجة ماسة لقراءة النتائج قراءة صحيحة لأن هذه الزيادة الطفيفة لا تعتبر نصرا عظيما بأي معيار من المعايير، وكذلك هو الأمر في ما يتعلق بالموحدة.

أرقام أخرى تسترعي الأهتمام وهي:

نسبة المصوتين العرب التي لم تتجاوز 57٪ ، وهذا يعني أن الثقة في المرشحين العرب قد تدنّت، أي أن المرشحين العرب، في نظر 43٪ من أصحاب حق التصويت العرب، لا يعيرون رغبات الجماهير العربية الاهتمام الذي تستحقه، كما أن هذا لا يعني أن جميع الذين صوّتوا كانوا راضين عن الوضع القائم، لأن ما من شك أن على بعضهم ينطبق القول: «مكرهٌ أخوك لا بطل».

نسبة الأصوات العربية التي حصلت عليها القوائم والأحزاب العربية في انتخابات سنة 2009 كانت 82٪ ، وقد انخفضت إلى 77٪ في انتخابات 2013 ، وهذا أمر في غاية الخطورة ويبدو أنه لم، ولن يحظى بالاهتمام المناسب، مع العلم أن الكاسب الأكبر من ذلك كانت أحزاب اليمين.

نسبة المصوتين العرب في النقب كانت 46٪ رغم وجود مرشحين من النقب في القوائم العربية، ورغم ما يعانيه عرب النقب من جور ومن إهمال، فهل من تعليل لهذه الأرقام المقلقة؟

لا يستطيع أحد أن ينكر أن معظم النواب العرب يقومون بعملهم بإخلاص ولهم مواقف مشرفة في عديد من القضايا التي تقض مضاجع العرب في إسرائيل، ولهم أيضا إنجازات مشرفة يحمدون عليها، ولكن هذا لا يعفيهم من دراسة نتائج الانتخابات دراسة موضوعية ونقد ذاتي صارم، مع إصغاء لنقد المخلصين ليأتي بعد ذلك استخلاص العبر ووضع برامج عمل، والسهر على تنفيذها خلال الأعوام المقبلة، لكي ينالوا ثقة الجمهور الذي عزف عن التصويت لأنه لم يكن راضيا عن التشرذم السائد حاليا.

يجب أن يظل الرقم 43٪ ، أي نسبة العرب الذين أحجموا عن التصويت، كابوسا يقض مضاجعهم في الزمن الآتي.




عصام زكي عراف

معليا

الجليل الغربي

Wednesday, 20 February 2013

دمعة وعهد



دمعة وعهد

نظمت الأبيات التالية، وفاءً وعرفانا للأخ العزيز، الخالد الذكر، الدكتور الياس شوفاني، أبي هند، ابن قرية معليا الجليلية، وابن العروبة البار، وهو الباحث والمؤرخ، والعلامة، الذي رحل عنّا، مأسوفا عليه، في دمشق، في السادس والعشرين من كانون الثاني لهذه السنة 2013 وخلّف في الحلق غصة، وفي القلب لوعة لا تزولان.

لدمعي اليومَ أرخيتُ العِنانا             ففاض على الخُدودِ وما توانَى
وما فاضت دموعُ العين إلّا             لِخَطبٍ في دمشقٍ قد دَهانا
نَعَى النّاعي أبا هندٍ إلينا              فَرانَ الحزنُ وارْبَدَّت سَمانا
ولو جَفَّت مَآقي العُربِ طُرًّا             لِجَمرٍ في الجوانح قد كَوانا
لَما وفَّت أبا هندٍ حقوقاً                 ولا وفَّت أبا هند امتِنانا
فقدنا اليوم فذّاً ألمعيّاً                  أبِيّاً ماجِداً يأبى الهَوانا
بشوش الوجه وضاح المحيا            كريم الأصل صرحاً في علانا
فكم هزَّ المنابِرَ إذ عَلاها               يصوغ القولَ دُرّاً أو جُمانا
وحَيَّته الحواضِرُ واشرأبّت             له الأعناقُ تَرْتَشِفُ البَيانا
يُنافِحُ عن بَني الأوطان جَمعاً          ويُفحِمُ بالأدلِّةِ مَن رَمانا
بِلِسْنٍ مثل حَدِّ السَّيف صَرْماً          تَخِرُّ له الجَبابِرُ مِن عِدانا
وكم بزَّ الكُماةَ لسانُ حُرٍّ              وما عرف السُّيوفَ ولا السِّنانا
أبا هندٍ رحلت اليومَ عنّا              وخلَّفتَ القلوب لك مكانا
أبا هندٍ لك في كل ساحٍ              يدٌ طولَى وفَضلٌ لا يُدانى
أبا هندٍ شغلت الناس دهراً           وأدَّيتَ الرِّسالةَ والأمانَه
فكُنت الفارسَ المِقدامَ دَوماً            وفيك من المَناقِبِ ما سبانا
وكان يراعُك السيّالُ نَبعاً             فَغَذَّيتَ العقول بما كَفانا 
أبا هندٍ لك الميثاقُ منّا               بِأن تنمو بذورُك في حِمانا
سنغرس روحَك المعطاء فينا          ونُرويه بدمٍّ من دِمانا
ليبقى ذكرُك المعطار ناراً             َنذودُ بها إذا الداعي دعانا 
نضيءُ بها الطريقَ إذا ادْلَهَمَّتْ       ليالينا ولا هادٍ هَدانا
سنُحيي ذِكرَكَ مع كلِّ شمسٍ         تُطِلُّ من الشآم على رُبانا
فجاوِر غوطَةَ الفَيْحا قَريراً            فقد زانَت مَعاليك الجِنانا

عصام زكي عراف
معليا، الجليل الغربي 
يوم الأحد، العاشر من شباط لسنة 2013

سيرة الياس شوفاني



سيرة ومسيرة لمناضل عربيّ عروبيّ يُدعى الياس شكري شوفاني





1932-26.1.2013






ولد الياس شكري شوفاني سنة 1932، لوالديه السيد شكري شوفاني والسيدة قطف غرزوزي - شوفاني، في قرية معليا الرابضة على إحدى روابي الجليل الغربي الأخضر، تطل على البحر المتوسط من الغرب وعلى سهل عكا وخليجها، وجبال الكرمل الخضراء من الجنوب وعلى سهل الزيب وجبال المُشَقَّح التي تنتهي برأس الناقورة من الشمال.

كان والده أحد وجهاء القرية، يعتاش من الزراعة التي كانت توفر العيش الكريم لسكان القرية وكان يملك أيضا طاحونا وبستانا بجواره في وادي القرن، الغزير المياه، الواقع إلى الشمال من القرية.

عُرِفَ الوالد بمُروءته ووطنيته الفياضة وحرصه على تعليم أولاده.

عندما نشبت ثورة 1936 أوكلت إليه القيادة المحلية فدأب على جمع التبرعات من الأهالي لشراء السلاح وألَّف فريقا من المقاتلين من أبناء القرية للذَّودِ عن حِياضِ الوطن المُهَدَّد بالضَّياع وخاض معهم العديد من المعارك خلال سنوات الثورة والحرب التي تلتها سنة 1948. وعندما سقطت القرية في أيدي القوات الصهيونية في نهاية شهر تشرين الأول لسنة 1948 أقدمت على نسف بيته بالمتفجرات انتقاما منه.

من الجدير بالذكر أن نسف البيت ترك في نفس الفتى الياس وقعاً لا يمحى وجرحا عميقا ظل ينزف دون انقطاع رغم مرور الزمن، وقد كان لذلك أثر كبير في حياته ومواقفه النضالية في ما بعد، وقد كتب عنه في كتاب سيرته الذاتية «مرثية الصفاء»:

«أحسست بالاحتلال ينزع عني بعض سمات إنسانيتي، ويشوّه وجودي الحضاري ليجعل مني مخلوقاً بدائياً حقيراً. فمن البيت العامر الذي يعجُّ بالحياة في أحضان العائلة الكبيرة - ستة إخوة وأختان والوالدان - إلى طاحون ماء معزول في زاوية من واد وَعِر، ربما تستهويك زيارته، ولكن ليس العيش فيه. هذا مسخٌ للوجود سبّبه الاحتلال، فهل يمكن التصالح معه والعيش في ظلّه؟

لم تتوفّر لديّ في حينه أجوبة على الأسئلة الكثيرة التي جالت في خاطري خلال سنين بعد الحدث، ولكنها جميعاً انعكست في سلوكي اللاحق إزاء ذلك الاستيطان العنصري البغيض، كما في مواقفي منه»

في ربوع تلك البقعة الساحرة من فلسطين، وفي الأحضان الدافئة لتلك الأسرة الكريمة، نشأ وترعرع الفتى الياس، وعندما شبَّ كان يشارك والديه وإخوته العمل في الحقول والكروم، شأنه في ذلك، شأن جميع فتيان القرية وفتياتها في ذلك الوقت، حيث كانت الأرض الخصبة المعطاء، ترتوي بعرقهم ويتغلغل حُبُّها في عروقهم مع كل مطلع شمس ومع كل ضربة مِعوَل.

انتقل في سنة 1945 إلى مدينة عكا، بعد أن أتم دراسته الابتدائية في مدرسة القرية، حيث درس في «ثانوية عكا للبنين»، لكن حرب سنة 1947-1948 حالت دون إتمامه دراسته الثانوية فيها. أبعدته السلطات الإسرائيلية إلى الأردن في أوائل سنة 1949، مثل الكثير من الفلسطينيين، ثم عاد متسللا إلى قريته واستقر فيها، وأخذ يدرِّس في مدرستها في السنة الدراسية 1951-1952 ولمدة تسع سنوات، بعد أن أنهى دورة لمدة ستة أشهر لإعداد المعلمين في يافا.

دفعته رغبته الجامحة في التحصيل العلمي للالتحاق بالجامعة العبرية في القدس الغربية، سنة 1959 لدراسة تاريخ الشرق الأوسط واللغة العربية، وبعد أن أنهى دراسته فيها بنجاح، ازداد طموحه فسافر سنة 1962 إلى الولايات المتحدة حيث حصل على شهادة الدكتوراه من جامعة پرينستون وكانت الأطروحة التي أعدها عن حروب الردة.

عمل الكثير خلال دراسته في الولايات المتحدة من أجل تنظيم الطلاب والمدرسين العرب في الجامعات الأمريكية وتوحيد جهودهم لكسب الأنصار للقضية الفلسطينية بواسطة نشر الحقائق التاريخية للجمهور الأميركي عن نضال الشعب الفلسطيني، وكان من بين الذين استجابوا لدعوته الأستاذان الجامعيان هشام شرابي وإدوارد سعيد.

التحق بجامعة جورجتاون اليسوعية في واشنطن مع نهاية صيف 1967 كأستاذ مساعد وخلال تلك الفترة توطدت علاقته مع الأكاديميين العرب وكثف من نشاطه الإعلامي بالتعاون الوثيق مع صديقه الحميم هشام شرابي، الذي كان سبقه في الانضمام لحركة فتح، وقد أصيب بخيبة أمل عندما لاحظ أن القيادات الفلسطينية أخذت تجنح إلى الانكفاء لتجعل من القضية الفلسطينية شأنا فلسطينيا محضا، مما أثار استياء الياس ورفاقه الذين رأوا أن قضية فلسطين هي قضية عربية محض، بل قضية إنسانية يجب أن يتجند لها القوميون العرب وحلفاؤهم من اليساريين في جميع أنحاء العالم، ولم تَرُق له محاولة القيادات الفلسطينية إملاء إرادتها على العاملين في الميدان أمثاله وفي ذلك يقول:

«لقد اعتمدنا «المركزية الديمقراطية» في عملنا لكن سرعان ما اتضح لنا أن القيادة تفضل المركزية على الديمقراطية».

وعندما لم يرضخ لإملاءات القيادة قام محمود عباس، مفوض التعبئة والتنظيم في ذلك الوقت بتجميد عضويته لمدة سنتين، وقد أخفى القرار عن بعض أعضاء القيادة في المركز لأمر في نفسه.

زار قريته معليا لآخر مرة سنة 1968 بعد زواجه من الفتاة ڤيكي التي التقى بها في جامعة برنستون، حيث رأى والده المريض لآخر مرة، وكانت تلك المرة الأخيرة أيضا، التي رأى فيها أمّه وأخته زكية فقد توفوا جميعا في غيابه.

في سنة 1970 بدأ العمل كأستاذ مساعد لتاريخ الشرق الأوسط في جامعة ميريلاند، كما زار عدة دول عربية خلال الأعوام الثلاثة التي سبقت انتقاله إلى بيروت في خضم حرب تشرين مضحيا بزواجه وبمستقبل جامعي واعد.

في بيروت التقى بالعديد من قيادات الفصائل الفلسطينية من القمة إلى القاعدة وترسخ لديه الانطباع أن عرفات يسعى إلى الالتحاق بركب السادات سعيا وراء التسوية، لكنه اعتقد أن بوسعه إقناع القيادة بعدم جدوى مثل هذا الخيار الذي لا طائل تحته.

وفي جلسة له مع عرفات ضمت نبيل شعث وهاني الحسن بعد حرب تشرين سأله الياس:

«إلى أي معسكر ستنحاز الثورة بعد الحرب، هل ستستمر في نهج التحرير أم ستلتحق بركب التحريك»

أغضب السؤال عرفات ولكنه شدد من عزم الياس على مقاومة سياسة رأى أنها مجرد عبث بالقضية الفلسطينية، وفي ذلك يقول:

«لقد وضعتني تلك الجلسة على سكة الخلاف والعداء لنهج عرفات، الأمر الذي انعكس حسما لقراري بالبقاء في بيروت، ولو فقط من أجل التصدي لهذا النهج المنحرف»

عمل منذ انتقاله إلى بيروت في «مؤسسة الدراسات الفلسطينية» كباحث في «قسم الدراسات الإسرائيلية» كما عمل في الوقت ذاته في «مركز التخطيط الفلسطيني» حيث كان له نشاط زاخر في العمل السياسي والميداني وإدارة قسم الأبحاث في المؤسسة، كما ألقى العديد من المحاضرات في محافل عربية ودولية وجامعية، كان من خلالها يحاول أن يُفَنِّدَ مَزاعم المرَوِّجين لفكرة التسوية والمصالحة مع إسرائيل وعن ذلك يقول:

"في المؤسسة ركزت اهتمامي على محورين: الواحد، تطوير عمل قسم الدراسات الإسرائيلية والارتقاء به نحو صياغة وعي علمي لطبيعة المشروع الصهيوني، ونشره ليشكل أساساً لثقافة سياسية قومية حول الصراع الدائر في المنطقة، والآخر، تطوير وعيي الذاتي لذلك المشروع من منطلق أن فاقد الشيء لا يعطيه، وبناءاً عليه جهدت في تعميق فهمي لهذا المشروع بالوسائل المختلفة، بهدف بلورة وعي ذاتي شمولي له، واستقر فهمي العام على أنه في الجوهر «ثكنة استيطانية» تم إنشاؤها لتكون مركزا إقليميا مضادا لحركة التحرر العربية يهدف إلى عرقلة تقدم شعوب هذه المنطقة نحو أهدافها التاريخية في الاستقلال والوحدة والتقدم الاجتماعي، وهذا الدور «الوظيفي» هو مبرر قيام الكَيان الصهيوني واستمرار وجوده، وهذا يستوجب قاعدة آمنة له في فلسطين عبر تهويدها بالاستيطان ونفي الطابع التاريخي العربي لها، ولن يتمكن هذا الاستيطان من أداء دوره الوظيفي وإقامة قاعدته الآمنة دون علاقة مُمَيَّزَة مع المركز الإمبريالي الذي هو الولايات المتحدة الأمريكية في هذه المرحلة التاريخية، وهكذا ركّزت اهتمامي على تعميق هذا المفهوم لطبيعة المشروع الصهيوني وصياغة مقولاته".

كان مديرا بارعا ومتفانيا، يعمل الساعات الطوال دون كلل أو ملل، ويُعدي من حوله بحُمّى نشاطه الزاخر ومواظبته ودقته في العمل، وكان من نتيجة ذلك الجهد المتفاني العديد من الكتب والدراسات والترجمات والتوثيق التي صدرت عن المؤسسة وكان باكورتها ترجمة كتاب «التقصير»، («هَمَحدال» بالعبرية)،الذي ألفه مجموعة من المراسلين الإسرائيليين بعد حرب تشرين 1973 وقد لاقى الكتاب رواجا كبيرا فور إصداره.

نتيجة لذلك الجهد الدؤوب كتبت إحدى الصحف العبرية غداة غزو لبنان في صيف سنة 1982 واستيلاء الجيش الإسرائيلي على وثائق المؤسسة:

«كل من يريد أن يدرس تاريخ الصراع العربي الإسرائيلي، لا بد له من الرجوع إلى منشورات مؤسسة الدراسات الفلسطينية»

عارض الانسحاب من بيروت إثر الغزو الإسرائيلي للبنان في صيف سنة 1982 وانشق عن حركة فتح سنة 1983 مع بعض المناضلين الذين لم ترق لهم أساليب اتخاذ القرارات في المنظمة. اعتزل العمل السياسي سنة 1993 وتفرغ للكتابة وقد نشر العديد من المؤلفات والدراسات، منها، على سبيل المثال لا الحصر:

«إسرائيل في خمسين عاما»، الذي كتبه إثر مرور خمسة عقود على قيام إسرائيل، ويتكوّن من ثلاثة أجزاء يربو مجموع صفحاتها على ألف وسبعمائة صفحة، وهو سفر نفيس في عمقه وشموله، لا غنى عنه للقارئ والدارس الذي ينشد المعرفة الدقيقة لتاريخ إسرائيل في العقود الخمسة الأولى لقيامها.

موجز تاريخ فلسطين السياسي، ويعتبر أفضل ما كتب عن تاريخ فلسطين.

العلاقة بين الثكنة والمركز، وهو بحث شامل عن العلاقة العضوية بين الولايات المتحدة وإسرائيل.

وقد نشر كتابان عن سيرته: الأول سنة 1994 بعنوان «رحلة في الرحيل» والآخر «مرثية الصفاء» منذ أربع سنوات، والعديد من الكتب الأخرى، وكلها تمتاز برشاقة الأسلوب وسعة الاطلاع وعمق التحليل ووضوح المعنى.

سيرة حياته تبدو وكأنها مأساة إغريقية بكل أبعادها وفصولها. لَبَّى نداء الوطن الذي فَقَدَه دون ذنب جناه، وراح يبذل كل ما في وسعه لاستعادته، ضحى بمستقبل جامعي واعد وضحى بزواجه، كما ضحَّى بفرصة الحصول على جواز سفر أميركي فعاش بدون جواز سفر، ثم عاد وتزوج مرة أخرى من الفتاة الفلسطينية ياسمين جورج خوري وأنجب منها ابنتان: هند ونور ولكن القدر اختطف منه زوجته وهي في ريعان شبابها عندما كانت تتلقى العلاج في الأردن، ولم يستطع حضور مراسم الدفن لاستبقائه على الحدود الأردنية - السورية مدة طويلة. فكان الأب والأم لابنتيه حتى شَقَّت كل واحدة منهما طريقها بنجاح، رغم ضيق ذات اليد، بينما كان بعض «رفاق النضال» يرتعون في النعيم المقيم الذي أغدقه عليهم «نضالهم» من أجل فلسطين في الفنادق الفخمة والقصور المقبَّبَة. غير أن القدر أبى إلا أن يتجرع الياس شوفاني كأس المُرِّ حتى الثُّمالَة فمات في دمشق وحيدا، بعد أن مر ما يقرب من عامين لم ير فيهما وجها لابنتيه، وكان قد اختار العيش في دمشق لقلة تكاليف العيش فيها، وظل حتى اللحظة الأخيرة شامخا جبارا يكتب وينشر لكي تطَّلع الأجيال الناشئة على الحقيقة، كما قال لي ذات مرة، كل ذلك دون أن تصدر منه كلمة شكوى واحدة، وقد صَدَّرَ كتابه «مرثية الصفاء» بهذه الكلمات:

إهداء،

إلى ابنتيّ، هند ونور،

ما وُرِّثتُ وطنا حرا لأورثكما إياه،

وما لمت جَدَّكُما «والدي»، على ضياع الوطن،

أملي ألّا تحمِّلاني مسؤولية الإخفاق في تحريره،

لقد حاولت... وهذه قصتي.

رحمة الله عليك يا أبا هند، استراح قلبك الكبير بعد طول المسير، بعد أن تركت لنا ميراثا لا يفنى من ثمرات فكرك النّيِّر، وتركت لوعة في القلب لن يخفف منها تعاقب الأيام والليالي. كنت وستبقى مدرسة في الوطنية الحقة، وفي التشبث بالقيم والمبادىء السامية، والأخلاق الكريمة. نَعِدُك وعدا صادقا ونعاهدك عهدا لا نكث فيه، بأننا سنبقى دائما وأبدا، نستظل بذكراك في الصيف ونتدفأ بها في الشتاء، وأن نظل نقرأ وننشر ما كتبت ونَرْوي سيرتك العطرة في كل زمان ومكان.

عصام زكي عراف
معليا، الجليل الغربي
في الأول من شباط لسنة 2013

Wednesday, 6 February 2013

هل من مسقبل لليسار في إسرائيل



"هل هناك من مستقبل لليسار في إسرائيل؟"

المقال بقلم البروفيسور شلوموه زاند، المحاضر في كلية التاريخ في جامعة تل أبيب، ونشر في صحيفة "هآرتس"

ترجمة: عصام زكي عراف، معليا، الجليل الغربي - عرب 48 


08/12/2008 

ظهرت الحركات اليسارية في الدول الغربية نتيجة للتناقض الصارخ بين مصلحة أرباب المال والصناعة وبين مصلحة العمال، أدى ذلك التناقض إلى إقامة النقابات المهنية التي كانت خير حليف ورافد للاحزاب الاشتراكية.

لم تكن الحال كذلك عند اليسار الصهيوني، الذي نشأ لكي يلبي حاجة المشروع الاستيطاني اليهودي في فلسطين، التي تتمثل في فلاحة الأرض بأيد يهودية والاستغناء عن الأيدي العاملة العربية إلى أقصى حد. لم يكن بالمستطاع تنفيذ ذلك المشروع بهمة المبادرات الرأسمالية - الفردية، مما اقتضى تنظيم المستوطنين اليهود في أطر تعاونية - اشتراكية لشراء الأرض وتدبير شؤون الإنتاج الزراعي وبيع المحاصيل وتوفير الخدمات المختلفة من صحية وأمنية وتعليمية وغير ذلك. لتحقيق تلك الغاية، أنشأت الحركة الصهيونية نقابة العمال العامة للعاملين اليهود (الهستدروت) وحركة الاستيطان الاشتراكي اللتان كانتا الدعامتان الأهم في إعداد الاستيطان اليهودي الذي عليه قامت في ما بعد دولة إسرائيل.

بعد إقامة دولة إسرائيل، استمر "حزب عمال أرض إسرائيل" (مپاي) في السيطرة شبه المطلقة على الحكم وتصريف شؤون الدولة والنقابات المهنية والإشراف على توزيع المساعدات الخارجية. استمرت تلك السيطرة لليسار الصهيوني حتى سنوات السبعينيات من القرن العشرين حيث استطاع أن يرسي الأسس لدولة الرفاه الاجتماعي وفي الوقت ذاته كان يشرف على مشاريع تهويد الجليل والنقب، لذلك لم تنشأ في إسرائيل معارضة ذات شأن لليسار الإسرائيلي خلال تلك الفترة.

الازدهار الاقتصادي الذي أعقب حرب حزيران لسنة 1967 والتغيير الذي طرأ على أساليب الإنتاج في الدول الغربية، أديا إلى تعاظم واتساع الملكية الفردية في الاقتصاد الإسرائيلي وتقلص نفوذ الأحزاب اليسارية وسيطرة أجهزتها الإدارية. تقلص كثيرا أيضا تأثير المستوطنات التعاونية (كيبوتسيم) في الحياة الاقتصادية والثقافية، بعد أن كان لها دور كبير في الاستيلاء على رقعة كبيرة من الأراضي الزراعية.

بعد الهزيمة الجزئية التي مُنِيَ بها الجيش الإسرائيلي في حرب تشرين أول (أكتوبر) 1973، ظهرت لأول مرة في إسرائيل أحزاب تمثل الطبقة الوسطى، التي كانت وليدة السياسة الاقتصادية - الاجتماعية التي اتبعها اليسار في توفير الفرص للجميع.

خلال العقدين، الأول والثاني من احتلال الأراضي العربية في حرب حزيران 1967، لم يكن في وسع "الصهيونية الاشتراكية" في إسرائيل أن تحدد معالم طريق جديدة لها، فزاد ذلك من ضعفها. استولى على قطاعات واسعة منها الوهم، أن الفرصة قد حانت لتوسيع رقعة الكيان القومي، وبذلك غاضت أكثر فأكثر الصبغة الأممية لليسار التي تتعالى فوق القومية وترى في تحقيق العدالة الاجتماعية لجميع البشر هدفها الأسمى. أخفق اليسار الإسرائيلي في اجتذاب الغالبية العظمى من اليهود الشرقيين الذين تكونت منهم معظم الطبقة العاملة في إسرائيل. حاول اليهود الشرقيين إبراز انتماءهم الإسرائيلي بإخفاء حضارتهم العربية العلمانية وإظهار هويتهم الدينية وذلك لكون العرب في إسرائيل في أسفل السلم الاجتماعي.

أدرك اليمين الصهيوني ما يختلج في صدور اليهود الشرقيين وشجع الميل نحو المحافظة على أنماط الحياة اليهودية ذات الصبغة الدينية، بحنكة أكثر من اليسار.

كان اندلاع الانتفاضة الأولى للفلسطينيين حافزا لليسار للبحث عن الذات من جديد. القمع والبطش الذي مارسته إسرائيل ضد الجماهير الفلسطينية أثار النفور والقلق عند اليساريين. عدم الرغبة في الهيمنة على الفلسطينيين بالقوة واليقين بأن دوام تلك الحال من المحال، تغلغل في أذهان الكثيرين من اليساريين. أضف إلى ذلك أن الذي يرفض السماح بقيام سيادة فلسطينية، لا خيار له سوى أن يمنح الفلسطينيين المواطنة الكاملة في دولة إسرائيل، وهذا في حد ذاته كابوس يقض المضاجع اليهودية، لأنه سيؤدي في النهاية إلى دولة ثنائية القومية، تتلاشى فيها الأكثرية اليهودية مع الوقت. هاجس الحفاظ على يهودية الدولة تغلب على الرغبة في توسيع رقعتها وهذا مما أعاد اليسار الى سدة الحكم لسنوات قلائل.

من سوء حظ اليسار أن اليمين المعتدل أخذ يتبنى عقيدة الحل السلمي والتنازل عن حلم إسرائيل الكبرى. انسحب شارون من غزة، وأخذ أولمرت يتحدث عن العودة إلى حدود 1967 مع بعض التعديل، وأما تسيپي ليڤني فليس من المستبعد أن تقبل بتقسيم القدس بتشجيع ودي من باراك أوباما.

ما هي الخيارات التي بقيت أمام اليسار الصهيوني الإسرائيلي الذي يتزعمه "السيد أمن"، إيهود براك في الحاضر؟ هل يدين المستوطنين والاستيطان؟ هل يتهرب من الحديث عن مصير القدس؟
جميع الدلائل تشير أن حزب العمل وميرتس يواجهان انهيارا كبيرا. لا يبدو أن هرولة المثقفين عديمي البوصلة، بين الحزبين ستسفر عن أفق يساري جديد ونضر، يجتذب الجماهير إليه.

الشعارات التي يطلقونها ليست سوى اجترارا لما يردده اليمين الوسط، بكلمات ينقصها الحزم والوضوح.

العدالة الاجتماعية التي دعت إليها الحركات الاشتراكية - الديمقراطية كانت ولا زالت ترى في إزالة الفروق الطبقية في المجتمع وفي تساوي جميع الأعراق البشرية ركنان أساسيان لتحقيق غاياتها. اليسار الإسرائيلي يفتقر إلى كليهما، ولذلك من غير المتوقع أن يولد منه قادة أمثال باراك أوباما.

لذلك لن يكون بوسع حزب العمل وميرتس اليهوديين ولا الجبهة أو التجمع الديمقراطي العربيين أن يجددا الأمل في حركة، لديها الجرأة لكي ترسم الخط الواصل بين المطالب الاجتماعية - الطبقية وبين المطالب الديمقراطية - الإنسانية بحيث تتجه إليها أنظار المواطنين اليهود والعرب على السواء، لكي تحدد أهدافا واضحة تسعى إلى تحقيقها وتبتكر رموزا يلتف حولها الطرفان.

هل سيأتي يوم يتحقق فيه هذا الحلم؟ لعل نتائج الانتخابات البلدية في تل أبيب، حيث صوتت نسبة كبيرة من الشباب لمرشح اليسار، تبعث على الأمل في التغيير المنشود.