من هو المثقف؟
جاء في لسان العرب:
ثَقِفَ الشيءَ ثَقْفاً وثِقافاً وثُقُوفةً: حَذَقَه. ورجل ثَقْفٌ وثَقِفٌ وثَقُفٌ: حاذِقٌ فَهِم، وأَتبعوه فقالوا ثَقْفٌ لَقْفٌ. وقال أَبو زيادٍ: رجل ثَقْفٌ لَقفٌ رامٍ راوٍ.
اللحياني: رجل ثَقْفٌ لَقْفٌ وثَقِفٌ لَقِفٌ وثَقِيفٌ لَقِيف بَيِّنُ الثَّقافةِ واللَّقافة.
ابن السكيت: رجل ثَقْفٌ لَقْفٌ إذا كان ضابِطاً لما يَحْوِيه قائماً به. ويقال: ثَقِفَ الشيءَ وهو سُرعةُ التعلم.
ابن دريد: ثَقِفْتُ الشيءَ حَذَقْتُه، وثَقِفْتُه إذا ظَفِرْتَ به.
وثَقُفَ الرجلُ ثَقافةً أي صار حاذِقاً خفيفاً مثل ضَخُم، فهو ضَخْمٌ، ومنه المُثاقَفةُ. وثَقِفَ أَيضاً ثَقَفاً مثل تَعِبَ تَعَباً أَي صار حاذِقاً فَطِناً، فهو ثَقِفٌ وثَقُفٌ مثل حَذِرٍ وحَذُرٍ ونَدِسٍ ونَدُسٍ (أي سريع السمع فطن)؛ ففي حديث الهِجْرةِ: وهو غلام لَقِنٌ ثَقِفٌ أَي ذو فِطْنةٍ وذَكاء، والمراد أَنه ثابت المعرفة بما يُحتاجُ إليه.
قال الحكيم الصيني لاو تسو (604-531 ق.م.) «لا يستحق الشخص أن يدعى مثقفا إذا كان ممن يخلدون إلى الراحة» أي أن المثقف يسعى باستمرار لكسب المزيد من المعرفة (وهي سيل يتعاظم باستمرار)
سئل الرئيس الأمريكي وودرو ويلسون، صاحب فكرة عصبة الأمم، (فترة رئاسته 1913-1921): «من هو المثقف في نظرك؟» فأجاب:
«عليه أن يجيد لغة واحدة على الأقل وأن يكون ملما بالرياضيات وعلوم الطبيعة والفلسفة والتاريخ».
قرأت هذا الكلام منذ ما يقرب من نصف قرن، شهد العالم خلالها طفرة في المعرفة لم تكن تخطر على بال وودرو ويلسون ومعاصريه في بداية القرن العشرين، فرغم الاكتشافات الكبيرة في مجال العلوم التي حصلت حتى ذلك الوقت فإن التطبيق العملي لتلك الاكتشافات كان محدودا حيث أن التحول الكبير جاء بعد اكتشاف الترانزستور سنة 1948 وإن كان قد سبق ذلك بسنوات قلائل اختراع المحرك النفاث والرادار.
مرت عدة أعوام ظلت خلالها كلمات وودرو ويلسون عالقة في ذهني لا تبارحني، بل كانت مثل مهماز لا ينفك يحفزني ويقلقني حتى تسنى لي أن أقف على ما انطوت عليه كلماته.
لماذا بدأ ويلسون بذكر اللغة؟ لأن اللغة ليست وسيلة نستعملها للتعبير والإفصاح عن مكنونات العقول ونفثات القرائح وحسب، بل هي الأداة التي نستعملها للتفكير. عندما نفكر في أمر ما فإننا نستعمل ما تختزنه ذاكرتنا من مفردات اللغة وكلما كانت ثروتنا من اللغة أكبر ازدادت قدرتنا على الفهم والتحليل والغوص على دقائق المعاني وبالتالي تزيد قدرتنا على التعبير عن أنفسنا بجلاء ودقة ووضوح ولذلك قال قدماء الإغريق: «اللغة مرآة العقل».
أفضل السبل إلى التمكن من اللغة هي حفظ الشعر لأن ذلك يزيد من المفردات المستعملة عند الإنسان، لأن ثروتنا من اللغة تنقسم إلى قسمين: مستعمل ومهمل. المستعمل هو المفردات التي نتحدث بها أو نكتبها، أما المهمل فهو المفردات التي نستطيع فهم معناها عندما نسمعها أو نقرأها. الثروة اللغوية المهملة تكون عند عامة البشر أكثر بكثير من الثروة المستعملة. لكي نزيد من ثروتنا اللغوية علينا مطالعة كتب البلغاء والحكماء والتكلم بلغة سليمة والابتعاد عن الكلام الركيك. وكما قال عمرو بن بحر الملقب بالجاحظ في كتاب «البيان والتبيين»:
ثم اعلموا أنّ المَعْنَى الحَقير الفاسد، والدّنيء السّاقِط ، يُعَشِّشُ في القلب، ثم يَبيضُ ثم يُفرِّخ، فإذا ضَرَبَ بِجِرانِهِ، ومَكَّنَ لِعُروقِهِ، اسْتَفْحَلَ الفَسادُ وبَزَلَ، وتَمَكَّنَ الجَهْلُ وفَرَّخ،فعند ذلك يَقْوَى داؤُه، ويَمْتَنِعُ دَواؤُه.
الّلفْظُ الهَجين الرَّديء، والمُسْتَكْرَه الغَبِيّ، أَعْلَقُ باِلِّلسانِ وآلَفُ لِلسَّمْعِ، وَأَشَدُّ التِحاماً بالقَلْبِ، مِنَ الَّلفْظِ النَّبيهِ الشَّريف، والمَعْنَى الرَّفيعِ الكَريم. وَلَوْ جالسْتَ الجُهّالَ والنَّوْكَى، والسُّخَفاءَ والحَمْقَى، شَهْراً فَقَط، لَمْ تَنْقَ مِنْ أَوْضارِ كَلامِهِم، وخَبالِ مَعانيهِم، بِمُجالسَةِ أَهْلِ البَيانِ وَالعِلْمِ دَهْرا. ِلأَنَّ الفَسادَ أَسْرَعُ إلى النّاسِ وَأَشَدُّ الْتِحاماً بِالطَّبائِعِ. والإنسانُ بِالتَّعَلُّمِ والتَّكَلُّفِ وبِطولِ الاخْتِلافِ إلى العُلَماءِ، ومُدارَسَةِ كُتُبِ الحُكَماءِ، يَجودُ لَفْظُهُ، وَيَحْسُنُ أَدَبُه. وهو لا يَحْتاجُ في الجَهْلِ إلى أَكْثَر مِن تَرْكِ التَّعَلُّمِ، وفي فَسادِ البَيانِ إلى أَكْثر من تَرْكِ التَّخَيُّر. فهل من يتعظ؟
أما عن الرياضيات فحدث ولا حرج، لذلك كتب الفيلسوف الإغريقي العظيم أفلاطون فوق مدخل مدرسته:
«من يجهل الرياضيات لا يدخل من هذا الباب».
بعد خمسة وعشرين قرنا قال برتراند راسل، الرياضي والفيلسوف البريطاني المعروف:
«الكون مبني حسب نموذج رياضي». ما أبلغ هذا القول وما أدقه! وإن دل على شيء فإنه يدل على ثاقب بصر الرجل وتوقد بصيرته. الكون بما فيه ليس سوى مادة في حالتي الكتلة والطاقة. كلتاهما في حالة دائمة من الحركة. الوسيلة الوحيدة لوصف أي كتلة أو مسار حركتها هي الرياضيات وكذلك الأمر في ما يختص بالطاقة على أشكالها.
من يدرس تطور العلوم والصناعة يجد أنهما ارتبطا ارتباطا وثيقا بتطور الرياضيات. كل ما نراه حولنا من أجهزة وآلات تبدو لنا غاية في التعقيد والإحكام ليست سوى ثمار علم الرياضيات. الحاسوب (الكمپيوتر) أسطع شهادة على ذلك، كل ما نشهده من أدوات وأجهزة في مجال الاتصالات والمواصلات والتخطيط والتصميم والطب والفضاء وجميع أجهزة التحكم والمراقبة لم يكن ممكنا لولا استعمال الحاسوب الذي يقوم بمليارات العمليات الحسابية في الثانية الواحدة. أنظر إلى تلك الأقراص التي نختزن في الواحد منها النصوص والأصوات والصور بكميات تتزايد باطراد وذلك باستعمال رقمين فقط لا غير وهما الواحد والصفر.
أما علوم الطبيعة، فالويل ثم الويل للذي يجهلها، أوليست هي المفتاح والوسيلة لكل ما طرأ من إنجازات في كل ميادين الصناعة والزراعة والطب والفلك وغير ذلك؟ إن الأمم التي استطاعت أن تُسَخِّرَ العلوم في ميادين الصناعة المختلفة هي الأمم التي كانت ولا تزال تسيطر على مقاليد الأمور في العالم. الثورة الصناعية التي بدأت في بريطانيا في نهاية القرن الثامن عشر وانتشرت من هناك إلى باقي أنحاء أوروبا وأمريكا أتاحت لتلك الدول السيطرة على باقي شعوب العالم واستعمارها بل واستعبادها واستنزاف ثرواتها وما عالمنا العربي إلا مثل للشعوب التي فاتها أن تلحق بركب الأمم التي أخذت بأسباب التطور العلمي والصناعي فظلت تقبع في وهدة التخلف والوهن والعجز وكل ما يجره من ويلات، ومنها الشعوب العربية، حتى أصبحت حضارتنا مهددة بالانقراض، وكياناتنا السياسية لعبة في يد الغربيين ومن لف لفهم. هل يكون مثقفا من يجهل الفرق بين القنبلة الذرية والقنبلة الهيدروجينية؟ أو كيف تولّد الطاقة الكهربائية وكيف يتم أرسال الصوت والصورة والمعلومات عبر الفضاء وفي الأسلاك وكيف يتم استقبالها؟ وكيف تعمل المحركات المختلفة من البخارية حتى النفاثة؟ وكيف تعمل السيارة التى يقودها؟ وكيف وكيف وكيف...؟
أما الفلسفة أو «حب الحكمة» كمعناها في اليونانية، فقد كانت ولا تزال الوسيلة التي بواسطتها نحاول أن نعرف الخطأ من الصواب، ورغم أن الكشوف المتزايدة في علوم الطبيعة تساعد باستمرار على الإجابة عن الكثير من الأسئلة التي تطرحها الفلسفة فإن ذلك لن يقلل من أهميتها حتى يتسنى لنا أن نعرف كل شيء عن كل شيء. ومن أهم أركان الفلسفة هو الشك في كل شيء، أو بعبارة أخرى:
حاول أن تنقض، بالحجة والمنطق، كل ما تسمعه أو تقرأه، إذ لا حقيقة مطلقة أو دائمة لأن التنقيب والبحث يأتي بحقائق واكتشافات جديدة قد تنقض ما اعتقدناه حقيقة فيما قبل، ولعل اكتشافات ألبرت آينشتاين في أوائل القرن العشرين خير دليل على ذلك:
كنا نعتقد أن الوقت ثابت لا يتغير في كل مكان وزمان، وإذ به يتمدد ويتقلص ويتعلق بسرعة نظام الإسناد الذي نقيس فيه الوقت، وكذلك الكتلة التي كنا نعتقد بأنها ثابتة لا تتغير وإذ بها تتعاظم مع ازدياد السرعة بينما وتر الكتلة الممتد في اتجاه الحركة يتقلص وكأن الكتلة مصنوعة من المطاط يقل وترها الموازي لاتجاه الحركة مع ازدياد السرعة فتغدو مفرطحة. أضف إلى ذلك ما يكتشف باستمرار في جميع المجالات وليس لنا أن نأتي على ذكرها جميعا في هذا المقال.
دراسة التاريخ أيضا من الضرورات لأن معرفة الحاضر واستطلاع المستقبل مرهون بدراسة الماضي هل نستطيع أن نفهم عالم اليوم دون أن ندرس أحداث الماضي؟ كيف تكونت المجتمعات المختلفة التي صارت إلى دول وإمبراطوريات قامت على صراعات أو تعاون بين أفراد وجماعات. هذه هي قصة الإنسانية. كذلك الأمر فيما يخص النبات والحيوان، لأن دراسة تاريخ البيئة التي نعيش فيها، نشأتها وتغيرها، لا غنى لنا عنها لنعرف كيف نحافظ عليها لتبقى صالحة لحياة النبات والحيوان والبشر ومن هنا جاءت أهمية دراسة التاريخ بجميع فروعه.
لا أعلم لماذا لم يذكر وودرو ويلسون الأدب من نثر وشعر والموسيقى والرسم وفنون العرض من تمثيل ورقص وغير ذلك فلا أظن أن الرجل يجهل قيمتها. هل يكون مثقفا من لم يقرأ عيون الأدب العالمي من الأعمال اليونانية القديمة لسوفوكليس وأوريبيدس وإيسخيليوس وهوميروس حتى عصرنا الحاضر؟ هل يكون مثقفا من لم يستمع لأعمال بيتهوفن وموزارت وكورساكوف وغيرهم؟ هل يكون العربي مثقفا إذا كان لا يعرف روائع صالح عبد الحي ومحمد عبد الوهاب وأم كلثوم وفريد الأطرش ووديع الصافي وفيروز والكثير من عمالقة الموسيقى والغناء العرب، أو من لم يشاهد فيلم غزل البنات لنجيب الريحاني وليلى مراد؟ هل يكون مثقفا من لم يتعرف على أعمال مشاهير النحاتين أمثال فيدياس الذي يضرب به المثل أو مايكل أنجلو النحات والرسام، صانع تمثال داؤود وتمثال موسى وغيرهما وصاحب الرسوم الشهيرة؟ هل يكون مثقفا من لم يطلع على أعمال كبار الرسامين أمثال ليوناردو دافينشي العبقري المبدع في أكثر من مجال إلى فان چوخ ومونيه ورنوار وبيكاسو وسيلفادور دالي وغيرهم؟ وهل ننسى الشهيد ناجي العلي؟
هل يكون العربي مثقفا إذا لم يحفظ شيئا من شعر امرئ القيس وباقي أصحاب المعلقات ولامية العرب للشنفرى وما تلاهم من شعراء العصور اللاحقة وهم أكثر من أن يتسع المجال لذكرهم؟ ألم يقل عمر بن الخطاب: علموا أولادكم الشعر فإنه يحث على مكارم الأخلاق؟
أوليس حفظ الشعر أفضل وسيلة لزيادة ثروتنا من اللغة، خاصة المستعملة؟ هل يكون العربي مثقفا إذا لم يقرأ القرآن الكريم ويحفظ ما أمكن منه، حتى لو كان ذلك الشخص يهوديا أو نصرانيا أو حتى ملحدا؟ وهل هناك بد من قراءة التوراة والأناجيل الأربعة؟ وهل من غنى عن التعرف على المذاهب الأخرى كالهندوسية والبوذية والكونفوشيوسية ومعظم سكان العالم من أتباع تلك المذاهب؟
إذا كنا نعوّل على تعريف ويلسون للمثقف مع ما أضفته من عندي، فكم من واحد فينا يستطيع أن ينضوي تحت هذا اللواء؟ قد يسأل البعض، وبحق، ماذا تقول في ذلك الطبيب النطاسي والمحامي المعروف والرسام الحاذق والمهندس اللبيب والمؤرخ النجيب والممثل العجيب والمغني المشهور والعازف البارع والشاعر المجيد؟ الجواب: إذا لم يكن ملما بما ذكرت فإنه ممن يرثى لحالهم.
قد يثير هذا المقال عاصفة من الغضب عند الكثيرين ممن يعتبرون أنفسهم «قطب لقومهم، تدور رحاهم حولهم وتجول» كما قال السموأل. وقد يعتبره البعض إهانة في الصميم تمسّ شخصهم الكريم وهم يعتقدون أنهم «خير من تسعى به قدم» كما قال حكيمنا البليغ وشاعرنا العظيم أبو الطيب. لكن ما العمل ولسان حالنا تشهد علينا بأننا في عداد الشعوب المتخلفة؟ ما الحيلة وتقارير التنمية السنوية الصادرة عن الأمم المتحدة تقول أن الأمة العربية في حال يرثى لها من الهوان والتخلف وتكاد الدول العربية أن تكون الدول الوحيدة في العالم التي لم تشهد أي تقدم في أي مضمار، بدءً من متوسط الدخل للفرد (باستثناء دول النفط التي لا فضل لها في الثروة التي هبطت عليها فجأة نتيجة للارتفاع المفاجىء في أسعار النفط) إلى رعاية الصحة ومستوى التعليم المتدني ونسبة الأمية المرتفعة وحقوق الإنسان عامة والمرأة خاصة وحرية التعبير وغير ذلك من وصمات العار التي تزين جبين أمتنا العالي!
كنا نستمع في الماضي إلى المذيع من «صوت العرب» في القاهرة يختتم كلامه بهذه العبارة:
«وإلى غد مشرق عزيز وإلى أمة عربية مظفرة» فتعمر قلوبنا بالأمل وتطفح وجوهنا بالبشر، واليوم نعلم أن تلك الكلمات لم تكن سوى أمان عشنا بها زمنا رغدا!
لم تكن المعرفة سهلة المنال في يوم من الأيام كما هي في أيامنا هذه، رغم ذلك فإن الغالبية العظمى منا نحن العرب غارقة حتى الأذنين في مستنقع الكسل ولعل أسطع برهان على ذلك أن معدل ما يقرأه العربي لا يتجاوز ربع صفحة في السنة بينما ما يقرأه الغربي يتجاوز عشرة كتب. المحزن في الأمر أن عدد الوراقين (المكتبات) أيام المأمون في الشارع الذي لا يزال يحمل الإسم نفسه في بغداد (شارع الوراقين) كان يربو على المائة وهذا يعني شدة إقبال العرب على القراءة في ذلك الوقت رغم ارتفاع سعر الكتب التي كانت تنسخ باليد. أما اليوم فقد صرنا إلى حال لا نحسد عليه حتى أصبحت حضارتنا في طور الاحتضار ونحن عن مصيرنا غافلون