Sunday 28 May 2023

فؤاد جرداق

 


فؤاد سجعان جرداق (1915-1965)
من مواليد بلدة مرج عيون في جنوب لبنان درس في مدرسة بلدته ثم في دير المخلص لكنه ترك الدير وتابع دراسته في المعهد الزراعي في بلدة سليمة في سوريا وتخرج بشهادة هندسة زراعية من المعهد.
عمل في وزارة الزراعة لفترة ثم تركها إثر مشادة مع مديره وانصرف للتعليم فعمل مدرسًا في مدارس عدة منها الجامعة الوطنية في بلدة عاليه، الثانوية الوطنية في جديدة مرجعيون وثانوية بيروت الوطنية، كما عمل في الصحافة.
كان جريئا في كل ما كتب يقول رأيه دون وجل، وقد قبض عليه وأودع السجن أكثر من مرة.
من الجدير بالذكر أن الشاعر جورج جرداق مؤلف الأغنية الشهيرة “هذه ليلتي” التي لحنها محمد عبد الوهاب وغنتها أم كلثوم، هو الأخ الأصغر لفؤاد وقد رعاه فؤاد وعلمه وله الفضل الكبير في نبوغه الشعري.
في القصيدة التالية يصف حال وطنه (ومعظم الأوطان العربية) وصفا بليغا موجعا.
لا أعرف على وجه الدقة عدد أبيات القصيدة بكاملها فقد جمعتها من عدة مصادر أهمها مخطوطة كتبها الصديق العزيز الشاعر نايف سليم نقلا عن رفيق في الحزب الشيوعي اللبناني يدعى أبو نبيل التقاه في برلين.
وطن سراحين الذئاب تسوسه
ماذا يُدِرُّ لشعبه تقديسه
صَمَتَ الأُلى أهل الحصافة والنهى
وتفرّدت بالرأي فيه تيوسه
لم يكف لندنه وما فعلت بنا
اسطنبوله في الجور أو باريسه
عبثت به أيدي الجناة كما به
دبّت جراثيم الخنوع وسوسه
ولقد تطير من الأسى أرواحه
وتثور من جور الولاة نفوسه
هذا بلفَّتِهِ يلفُّ له الأذى
والخبثُ خبَّأه له قَلنوسه
فيَتِلُّه لأمامه محموده
ويشدُّه لورائه طنّوسه
إذ يدَّعي أن الإله سميره
وسواه إبليس اللعين جليسه
كذب الجميع مشعوذين وقد سرت
عن مثلهم غرر الهدى وشموسه
فالكائنات لها إله واحد
قد جل عن إدراكهم ناموسه
وزراؤه أوزاره ناءت بهم
من شدة الألم المبرِّح عيسه
وكذاك نواب البلاد نوائب
نزلت فزاد من الأذى كابوسه
تنساب في جلساته أذنابه
وتظل في شعب الوهاد رؤوسه
وطن بلا عرض بلا طول بلا
عمق بلا جرم فكيف أقيسه
المال عند بخيله والسيف عند
جبانه والمومسات تسوسه
بالحق من بعد العنا اعترفت لنا
برلينه وتنازلت باريسه
قل للمكابر بالحقائق إننا
حزب مخضَّبة الحديد عروسه
فالثورة الحمراء أنجع خطة
لنجاح شعب كافر قديسه
جَلَساته تعني أماكنه المرتفعة

Friday 7 April 2023

ضرورة التصويت

 

ضرورة التصويت


زعم بعض الذين عقبوا على ما كتبته بالأمس أن مقاطعة الانتخابات هي السبيل الأمثل لنفي الشرعية عن دولة إسرائيل واسترداد الحق الفلسطيني بكامله بما ذلك عودة جميع اللاجئين، وبعضهم يقابل ما بين إسرائيل وبين نظام الفصل العنصري الذي أقامه الأوروبيون البيض في جنوب أفريقيا وروديسيا.
إذا كانت السياسة هي إنجاز الممكن فإن ما يدعو له هؤلاء الأخوات والإخوة أبعد من عنقاء مُغرب عن الواقع.
كيف سيتاح رجوع اللاجئين إلى قراهم ومدنهم التي طردتهم منها القوات اليهودية سنة ١٩٤٨ وفي ما بعد؟ إذا كان من حل ممكن لقضية اللاجئين فإنه لن يكون إلا بالتفاوض مع حكومة إسرائيل وتوطين العائدين في بدائل لأن من غير المعقول أن تهدم جامعة تل أبيب التي بُنِيت على أنقاض قرية الشيخ مؤنس وتعاد الأرض لأهالي القرية أو أولادهم وأحفادهم وهذا ينطبق على العديد من القرى والمدن كقرية الكابري مثلا في أسفل الجليل الغربي والتي أقيم على أنقاضها كيبوتس كابري.
من يظن أو يتوهم أن السبعة ملايين يهودي الذين يعيشون في إسرائيل سوف يختفون بقدرة قادر فهذا شأنه ولكن من الواضح أنه يعيش على كوكب غير كوكبنا.
لا مناص من التعاون العربي مع الأحزاب التقدمية اليهودية أو خوض الانتخابات بقائمة مشتركة كالجبهة مثلا لأن مطالبة اليهودي بإنصاف العربي يذهب صداها أبعد كثير في إسرائيل من صوت العربي من داخل البلاد أو من خارجها شئنا ذلك أم أبينا. عندما زار أوري أڤنيري ياسر عرفات في صيف ١٩٨٢ والحرب محتدمة في حصار بيروت كان لذلك أصداءً واسعة لا يمكن أن تكون لزيارة محرر جريدة عربي في ذلك الوقت.
ألم تكن المفاوضات الفلسطينية في أوسلو وتوقيع الاتفاق الشهير (المليء بالثغرات لصالح إسرائيل) في الثالث عشر من أيلول سنة ١٩٩٣ دليلا قاطعا على اعتراف منظمة التحرير بالواقع القائم؟
لست أدري كيف ستختفي دولة تحظى بدعم غربي غير مشروط وتمتلك ترسانة نووية ضخمة وجيشا مجهزا بأحدث الأسلحة واقتصاد مزدهر ومراكز أبحاث صناعية وعلمية هي في الطليعة بشهادة كل مطّلع والعديد من علمائها حصل على جائزة نوبل.
أما بخصوص جنوب أفريقيا وروديسيا (زيمبابوي في ما بعد) فإن الأمر يختلف اختلاف بيّنا ولا مجال للمقابلة على الإطلاق. لم يزعم أحد حتى من أعتى غلاة البيض بأنه عاد إلى أرض أجداده ولم يكن هناك أي شك بأن النظامين كانا نظامين عنصريين بينما يزعم اليهود (دون حق كما أثبت ذلك المؤرخ شلوموه زند في كتابه “كيف ولدت بدعة الشعب اليهودي) أنهم أحفاد العبرانيين القدامى وأن سفر التوراة هو وثيقة الاستملاك التي وهبهم إياها الرب، بل أن اليمين يزعم بأن الوجود العربي هو الوجود الغير شرعي لأنهم احتلوا البلاد عنوة وأخذوها من سكانها الأصليين.
واقع الأمر هو غير ذلك تماما لأن فكرة إقامة دولة لليهود في هذه البقعة من الأرض كانت وليدة فكر القنصل البريطاني في دمشق في القرن التاسع عشر ((١٨٠٧-١٨٦٩ والملقب عند سكان دمشق في ذلك الحين بتشرشل بك وذلك إثر الهزيمة النكراء التي حاقت بالجيش العثماني على يد ابراهيم باشا المصري-الألباني الأصل الذي حكم بلادنا في ذلك الوقت وأيّد تلك الفكرة اللورد پالمرستون وزير الخارجية في السنة ذاتها أي ١٨٤٠ في شهر آب بعد مؤتمر لندن ألذي أجبر ابراهيم باشا على الانسحاب من بلادنا وهكذاعاد حكم الأتراك الذي استمر حتى ١٩١٩.
في رسالة بعثها وزير الخارجية پالمرستون إلى موشيه مونتيفيوري رئيس الجاليات اليهودية ليحثه على جمع كلمة اليهود لإقامة دولة في بلادنا جاء “يجب العمل على إقامة دولة يهودية شمال سيناء لكي تقف في وجه المطامع الشريرة لمحمد علي”.
“مطامع” محمد علي “الشريرة” كانت إقامة دولة تمتد من مصر والسودان وتشمل الجزيرة العربية التي قضى فيها على الحركة الوهابية سنة١٨١٨ لتشمل سوريا الكبرى والعراق وهذا ما يهدد مصالح أوروبا عامة ومصالح بريطانيا خاصة والطريق البري لأهم مستعمراتها وهي شبه القارة الهندية.
لو كان في وسع البريطانيين أن يجدوا ذريعة مستساغة لاستيطانهم في فلسطين لفعلوا ذلك ولكن الذريعة متوفرة لليهود ولذلك وهذا ما كان بعد أكثر من قرن على ميلاد تلك الفكرة.
عندما كان هرتسل يقابل حكام أوروبا لتأييد إقامة دولة يهودية في فلسطين كان يقول لهم: هذه الدولة ستكون رأس الحربة الأوروبي ضد البرابرة “أي العرب”.
عندما كتب المؤرخ يهوشوع براڤر مقالا (قبل أكثر من أربعة عقود على ما أذكر) يقابل فيه بين الدولة الصليبية وبين إسرائيل استضافه يارون لندن في برنامج “طاندو” وكان أن سأله هل تعتقد أن نهاية إسرائيل ستكون كنهاية الصليبيين في الشرق؟ أجابه:
“أترك ذلك الاستنتاج للقارئ”
انهارت الدولة الصليبية في الشرق عندما تخلت عنها دول أوروبا لأسباب لا متسع للخوض بها ولكن دول الغرب وأميركا على رأسها ستظل ترى في إسرائيل ذخرا استراتيجيا لا غنى عنه، بل أن من مصلحتها أن يحتدم الصراع في الشرق ويتحول إلى صراع ديني وذلك بتشجيع التطرف الديني عند الطرفين وهذا ما حصل ويحصل منذ سنوات فيبدو الآن وكأن حلفا يهوديا-سنيا يحارب حلفا شيعيا في سوريا والعراق واليمن.
بلغ الأمر بأهمية إسرائيل للولايات المتحدة في السنوات الأخيرة حتى أصبح البيت الأبيض ينفذ جميع رغبات اليمين الإسرائيلي ولم يكن نقل السفارة الأميركية إلى القدس والاعتراف بضم الجولان سوى الدليل الساطع على النفوذ الإسرائيلي في البيت الأبيض ويبدو أن نتانياهو واثقا من موافقة ترامپ على ضم الضفة الغربية إذا ما انتخب لولاية ثانية.
الغاية من هذا الشرح الطويل نوعا أن أقول: علينا أن نحاول التأثير قدر المستطاع على القرار الإسرائيلي وذلك لن يكون إلا بإدخال أكبر عدد ممكن من النواب الوطنيين إلى الكنيست.
تصوروا لو صوت جميع العرب لحزب واحد موحّد وأصبح لنا أكثر من عشرين عضوا باشتراك دعاة السلام من اليهود!
حزب كهذا قد يصبح “بيضة الميزان” وكتلة مانعة أمام اليمين المتطرف وقد يحقق الكثير للمواطنين العرب كتوسيع رقعة الخرائط الهيكلية للقرى العربية وزيادة استيعاب خريجي الجامعات في شركة الكهرباء والمرافق الحيوية الأخرى في البلاد.
وفي الختام أقول للذين يدعون لمقاطعة الانتخابات: ماذا كنت ستفعل لو كان التصويت إلزاميا مثل بعض الدول؟
لعلك ستقول: سأضع ورقة بيضاء في الصندوق، وأنا أكرر وأقول ليس من الحكمة أن نتنازل عن حقنا في التصويت لأنه حق وواجب ومن الأفضل أن يكون لنا صوت في الكنيست من أن لا يكون.
وهنا يحضرني بيان ألقاه أوري أڤنيري عندما كان عضوا في الكنيست يشجب فيه مشروع قانون تقدمت به الحكومة وعندما قال له رئيس الكنيست (يسرائيل يشعياهو على ما أذكر) سيد أڤنيري، أنت تعلم أن القانون يحظى بموافقة الغالبية العظمى من أعضاء الكنيست فلماذا تهدر وقتك ووقت الكنيست في معارضته؟ أجابه أڤنيري:
أنا أعلم ذلك جيدا يا سيدي ولكنني لا أريد أن يقال أنني كنت هنا ولم أرفع صوتي ضد مشروع قانون سيّء.

Friday 7 October 2022

المؤامرة على سوريا

 هل ومتى ستكف الأقلام المأجورة والضمائر المرتهنة عن التضليل

ما زال بعض الذين باعوا ضمائرهم منذ عهد بعيد يزعمون شتى المزاعم الكاذبة ويحاولون النيل من الحكومة السورية ومن الرئيس السوري بشار الأسد ويتهمونه بأنه طاغية وظالم يبيد شعبه.
لم ولن ينسوا للرئيس الأسد الذي وصف أسيادهم وأولياء نعمتهم بأنصاف الرجال ووصف مواقفهم بأنها أنصاف مواقف.
يحاولون النيل من سمعة الرئيس الأسد بمزاعم لا أساس لها من الصحة وتجاهل مطلق للجرائم التي ارتكبها الهمج المرتزقة من كل حدب وصوب من تدمير للمعالم التاريخية وبيع النساء في سوق الجواري وأكل أكباد الجنود وتصحير منطقة الجزيرة التي كانت تنتج لسورية كفايتها من الحبوب كما باعوا محتويات ألف وستمائة مصنع من مواد وآلات للأتراك وكانت عماد الاقتصاد السوري وباعوا ملايين براميل النفط للتجار الأتراك بعشرة دولارات للبرميل ونهبوا بنوك الموصل وثروات أهلها خاصة المسيحيين منهم.
ومع ذلك يريدنا أن نصدق بأن السعودية التي تبيد اليمنيين بالجملة منذ أكثر من سنة وقنابل طائراتها تمزق الأطفال والنساء وتحرق الشجر وتدمر الحجر هي رائدة الديمقراطية وعلينا أن نصطف بجانبها وبجانب قطر وأميركا وإنچلترا ضد الشعب السوري ونحن نعلم حق العلم أن الشعب السوري يدفع ثمن مواقف حكومته المشرفة من كل القضايا القومية.
الشعب السوري الذي استقبل أكثر من مليون ونصف مليون عراقي شردتهم أميركا وآل سعود من بيوتهم والذي آوى مئات آلاف النازحين في حرب لبنان الثانية يدفع ثمن وقوفه إلى جانب الحق في مجابهة الغطرسة والضلال.
لو رضي الرئيس الأسد أن يتخلى عن حلفائه لما أطلقت رصاصة واحدة في سوريا! ولكنه رجل مبادئ سامية وأخلاق فاضلة يأبى أن يتخلى عن حلفائه ولم يهرب من المعركة مثل غيره بل قادها ويقودها بحكمة وثبات وإصرار أدهش العالم أجمع وجعله محل تقدير الأعداء قبل الأصدقاء.
لا أزال أذكر عشرات المقالات التي تنبأت برحيله خلال الأشهر الأولى من بداية المؤامرة وقد اكتظت بها الصحف الغربية عامة والإسرائيلية خاصة، كان أحدها بقلم إفرايم سنيه السياسي الإسرائيلي المعروف الذي تنبأ بسقوط الأسد خلال ثلاثة أشهر.
يريدوننا أن نصدق بأن حكام السعودية دعاة تنوير وإصلاح وهم الذين كانوا يبيعون الناس في سوق العبيد في مدنهم لخمسين سنة خلت وما زالت النساء في بلادهم تعاني من الظلم الفادح والمواطن مجرد من كل الحقوق وما زالوا يطالبون برحيل الأسد دون أن يخبروننا من أي شرعية يستمدون حكمهم هم وآل ثاني وغيرهم.
تريدوننا أن نتخلى عن ضمائرنا وعن رجولتنا وعن عروبتنا وعن كرامتنا مقابل حفنة من الدولارات. ذلك لن يكون ولو فرشتم تحت أقدامنا كل أموال العالم.

Tuesday 4 October 2022

داؤود الفلسطيني وجوليات اليهودي

داؤود الفلسطيني وجوليات اليهودي"

هذا مقال آخر للبروفيسور شلوموه زاند، أستاذ التاريخ في جامعة تل أبيب، وقد رفضت الصحف العبرية نشره، كما حدث من قبل لمقال آخر له عن أحداث عكا، فأرسله إلي لكي أترجمه للقراء العرب، وقد قمت بذلك مع بعض التصرف الذي يعزز وجهة نظر الكاتب.

مع جزيل الشكر للمؤلف

عصام زكي عراف
معليا، الجليل الغربي


30/01/2009 18:09

"داؤود الفلسطيني وجوليات اليهودي"
منذ بداية الاستيطان اليهودي-الصهيوني في فلسطين منذ أكثر من قرن من الزمن، كانت الحركة الصهيونية ودولة اسرائيل في ما بعد، تنظر إلى نفسها كأقلية مضطهدة وضعيفة تبحث لنفسها عن مكان تحت الشمس تلوذ به. نجح المشروع الصهيوني نجاحا باهرا في توطيد أقدامه في فلسطين واستطاع أن يبني له دولة يهودية صغيرة في سويداء قلب العالم العربي، وعلى حساب مواطنين عرب يفوقونهم عددا.
منذ بداية الاستيطان أيضا، كانت الحركة الصهيونية تشهر بيمينها صك امتلاك لفلسطين ،ألا وهو كتاب التوراة، وتحمل في جعبتها ذكريات المجازر الأوروبية، والنازية منها على وجه الخصوص. لم يعد هناك اليوم أدنى شك لدى المؤرخين أن القوة العسكرية للمواطنين اليهود في سنة 1948 فاقت كثيرا مجموع ما يمتلكه العرب من القوة في ذلك الوقت، رغم أن الصورة التي غرستها الزعامة الصهيونية في أذهان رعاياها كانت على النقيض من ذلك.
تعاظمت القوة الضاربة للجيش الإسرائيلي باطراد، بواسطة السلاح الفرنسي في بداية الأمر، ثم الأمريكي في ما بعد، واستطاع التغلب على الجيوش العربية التي واجهته في معارك غزة وسيناء (العدوان الثلاثي، البريطاني-الفرنسي-الإسرائيلي على مصر) سنة 1956 ، وحرب حزيران 1967 ، وحرب أكتوبر-تشرين 1973.
لم يكن هناك في واقع الأمر قوة عسكرية ذات بال في الشرق الأوسط تهدد الجيش الإسرائيلي. منذ حرب تشرين لم يعد طيارو سلاح الجو الإسرائيلي مقاتلون في الأجواء، ولم تحدث معركة جوية واحدة، كما أن جنود سلاح البر وسلاح البحر يقومون منذ ذلك الوقت على الغالب بمهمة حراسة الحدود. علينا أن نعترف أن المهمة الرئيسة للجيش الإسرائيلي المدجج بخيرة السلاح الأمريكي (من طائرات مختلفة الأنواع والأحجام ومن الصواريخ المختلفة ومن الدبابات المتطورة حتى دروع الجنود) أصبحت قمع المواطنين الفلسطنيين الذين يجرؤون على مقاومة الظلم الذي يتعرضون له، وإخضاعهم وقهرهم بكل الوسائل.
كثيرا ما سمعنا المتحدثون باسم حكومة إسرائيل، ومعهم العديد من الإسرائيليين ومن أنصار إسرائيل في كل مكان (ومنهم بعض العرب)، يرددون القول التالي:
"من حق كل دولة أن تدافع عن حدودها وعن مواطنيها عندما تتعرض للاعتداء وتصبح مدنها وقراها عرضة لإطلاق الصواريخ"
أليس من حق كل ذي عقل أن يتساءل:
"تكاد كل دول العالم تعرف حدودها، فهل من إسرائيلي أو أي واحد من أنصار إسرائيل يستطيع أن يدلنا على حدود إسرائيل؟"
دولة إسرائيل لا تخضع للقوانين والأعراف الدولية المألوفة، فهي دولة بدون حدود. حتى لو عدنا إلى "الصك التوراتي" الذي يقول بأن أرض الميعاد التي "منحها" الله لبني إسرائيل تمتد من النيل إلى الفرات لما كان في وسع أكثر المؤمنين به غُلُوّا أن يدلنا على تلك الحدود.
قبل حرب سنة 1948 كان اليهود يملكون أقل من ستة في المائة من أرض فلسطين الواقعة تحت حكم الانتداب البريطاني، بعد الحرب صاروا يسيطرون على ما يقرب من ثمانين في المائة من مساحة فلسطين الواقعة بين نهر الأردن والبحر المتوسط. بعد حرب حزيران 1967 أصبحت كافة أراضي فلسطين من النهر حتى البحر تحت سيطرة إسرائيل ومعها سيناء وهضبة الجولان السورية.
منذ سنة 1967 بدأت إسرائيل في إقامة المستوطنات اليهودية في الضفة الغربية وقطاع غزة دون أن تعلن عن ضم تلك المناطق إليها لكي لا تضطر لمنح سكانها الفلسطينيين حقوقا مدنية، لكي تبقيهم خاضعين للقوانين العسكرية، والتعسف والخسف دون رقيب أو حسيب.
حتى سنة 2002 ظلت إسرائيل تزعم باستمرار أن عدم اعتراف الدول العربية بها هو المبرر لاستمرارها بالتشبث بما احتلته من الأراضي العربية. لا شك أن تلك الذريعة الواهية سقطت، بعد أن اتخذت الجامعة العربية قرارا عرضت فيه على إسرائيل سلاما شاملا وعلاقات دبلوماسية مع الدول العربية مقابل انسحاب إسرائيل إلى حدود 1967. تجاهل زعماء إسرائيل تلك المبادرة العربية واستمروا في تعزيز الاستيطان في الأراضي المحتلة واستمروا في إقامة الجدار العازل، لنهب المزيد من الأراضي القليلة التي بقيت للفلسطينيين، كما استمر الجيش الإسرائيلي في حراسة تلك المستوطنات وتقطيع أوصال الضفة الغربية بمئات الحواجز التي حولت حياة الفلسطينيين إلى جحيم لا يطاق.
تزعم إسرائيل أنها رغم انسحابها من غزة، استمر الفلسطينيون في اعتداءاتهم عليها. الحقيقة هي، أن إسرائيل سحبت جيشها من غزة دون أن تعطي لسكانها أي سلطة حتى ولا الوهمية منها، لقد جعلت منها سجنا، تتحكم إسرائيل في جميع نواحي الحياة لسكانه، تقطع عنهم الإمدادات الحيوية متى تشاء وتغلق المعابر متى تشاء، حتى صيادي السمك يحرمون من ممارسة عملهم دون أذية ودون تضييق الخناق عليهم من البحرية الإسرائيلية. الغاية التي يضمرها القادة الإسرائيليون هي إقامة سجنين شبيهين لغزة في الضفة الغربية والقضاء على فرصة إقامة دولة فلسطينية تتوفر لها أدنى حاجات العيش، بل مخيمات كبيرة يسعى سكانها للفرار منها لأنها لا يمكن أن توفر لهم العيش الكريم.
من السخرية العجيبة والتناقضات الغريبة أن إسرائيل تزعم أن قطاع غزة يتمتع بالحكم الذاتي والسيادة. لماذا إذن تتهم الفلسطينيين بتهريب الأسلحة؟ أوليس لكل كيان شرعي مستقل، الحق في اقتناء الأسلحة للدفاع عن نفسه ولحفظ أمن سكانه؟ إسرائيل ترفض أي نوع من التساوي بينها وبين الفلسطينيين حتى على الورق، لذلك يبقى حق الدفاع عن النفس حكرا على إسرائيل أما داؤود الفلسطيني فعليه أن يبقى تحت رحمة جوليات الإسرائيلي. هذا هو السبب أيضا في رفض إسرائيل القبول بطلب حماس لتطبيق التهدئة في الضفة الغربية أيضا، حيث استمرت في اغتيال واعتقال من تشاء من الفلسطينيين بذرائع مختلفة للقضاء على كل فلسطيني تخول له نفسه أن يقاوم الاحتلال. إسرائيل تسعى منذ عهد طويل لسحق الفلسطينيين وإذلالهم بحيث لا يجرؤوا حتى على التفكير في المقاومة. هذا عدا الانتهاكات العديدة للتهدئة، التي قاربت المئتين.
من الجدير بالذكر أن الغاية من انسحاب أريئيل شارون من غزة دون اتفاق مع الفلسطينيين كانت للحؤول دون قيام مفاوضات جدية تفضي إلى الانسحاب من الضفة الغربية والقدس العربية وقيام دولة فلسطينية قادرة على النهوض بشعبها، وهذا يشبه انسحاب إيهود براك من لبنان دون إبرام اتفاقية تضطره للانسحاب من هضبة الجولان. لا شك أن سكان جنوب أسرائيل الذين يتعرضون للقذائف الصاروخية وغيرها، يدفعون اليوم ثمن الاحتفاظ بالأرض المحتلة والمستوطنات وتوفير الأمن والرخاء للمستوطنين.
من حسن حظ إسرائيل أن حماس فازت في الانتخابات التي لا يشك أحد بنزاهتها. من حسن حظها أيضا أن منظمة التحرير الفلسطينية لم تقبل بحكم الناخب الفلسطيني مما أدى إلى انشقاق الصف وتفسخ الوحدة الفلسطينية واستئثار كل فريق من الفريقين بمنطقة نفوذ يحاول فيها أن يكتم أنفاس الطرف الآخر. أدى ذلك إلى تنكر الدول الغربية (وما يسمى بالأنظمة العربية المعتدلة) لحماس وفرض حصار خانق على السكان لم يترك لهم فرصة سوى اللجوء إلى العنف. في الوقت ذاته كان محمود عباس ومؤيدوه من الذين تدعوهم إسرائيل "معتدلين" يحظون بمغازلة إسرائيل ويتفاوضون معها. لم تجلب تلك المفاوضات اللانهائية العبثية، سوى المهانة والإذلال لمحمود عباس وأنصاره، مما برهن على أن حماس محقة في رفضها للتفاوض مع إسرائيل طالما لا يبدو بصيص أمل من تلك المفاوضات. أصبح من الواضح أن إسرائيل تسخر من عباس وسلطته وأن اللغة الوحيدة التي تفهمها هي لغة القوة!
يقول المؤرخ البريطاني اللورد أكتون (1834-1902): " القوة مَفسَدَة، أما القوة المطلقة فهي مُطلَقُ الفساد".
إسرائيل تملك الكثير من "القوة" وقد رأينا الدليل القاطع على ذلك في هجومها الأخير على غزة. برهنت إسرائيل أيضا أنها لن تتورع ولن تتردد في قتل مئات الفلسطينيين للحؤول دون إصابة جندي إسرائيلي واحد، فكانت النتيجة أن معظم الضحايا الفلسطينيين كانوا من النساء والأطفال وأن معظم المقاتلين الفلسطينيين قتلوا بالقصف الجوي والبحري والمدفعي قبل وقوع الاجتياح البري. هذا لم يحل دون إطراء وسائل الإعلام الإسرائيلية للهجوم، ونعته بأنه كان نصرا باهرا لا مثيل له.
من سخرية القدر أن نرى بطلي الأسطورة التوراتية يظهران مرة في رقعة الأرض ذاتها أو قريبا منها، غير أن جوليات هذه المرة هو الجيش الإسرائيلي المدجج من رأسه حتى أخمص قدميه بأحدث ما أنتجته المصانع من أسلحة، وهو الذي يعلن انتصاره على الملأ، على داؤود، ذلك الفلسطيني "المسلم" الصغير الذي يزدريه الجميع والذي لا يزال يعاني الأمرين مما يسومه إياه جوليات من خسف محاولا سحقه حتى الهباء في هذه الاقتتال المستمر منذ عقود طويلة.
من الواجب أن نعترف بأن الوضع القائم في الوقت الحاضر والذي لا تواجه فيه إسرائيل أي تحد فعلي لقوتها العسكرية، سيجعل من غير المحتمل أن تنسحب من الضفة الغربية.
المجزرة الأخيرة في غزة والتي كانت الانتخابات الإسرائيلية المقبلة من بين دوافعها، لن تفيد إسرائيل في شيء ولن تعزز حقها في الوجود في الشرق الأوسط. يجب على جميع اليهود في إسرائيل أن يعلموا بأن هؤلاء الذين يطلقون صواريخهم قليلة الشأن على عسقلان، هم أبناء وأحفاد الفلسطينيين الذي طردتهم إسرائيل منها إلى قطاع غزة سنة 1950 .
ما لم تعترف إسرائيل بمسؤوليتها عن الغبن الذي ألحقته بالفلسطينيين والمعاناة التي أنزلتها بهم فلن يكون هناك حل عادل لهذا الصراع.

لعل هذه الحرب الأخيرة توقظ ضمير العالم الغارق في نومه فيستعمل ما لديه من وسائل ضغط، لإكراه أحفاد ضحايا الأمس للوصول إلى اتفاق مشرف مع ضحايا المأساة الحالية.

Monday 8 August 2022

رثاء الصديق محمد نفاع

 إلى روح الصديق العزيز والأخ الكريم 

محمد حسين نفاع

المناضل الصلب الذي ما لان يوما ولا حاد عن المبادئ السامية التي سار عليها طيلة حياته



لا تَلُم عَيني إذا الدمعُ جرَى

لا تلُمها إن جَفَا جَفني الكرى

ذَرَفَت عينايَ دمعًا ساخنًا

لِعَزيزٍ ضَمَّهُ حِضنُ الثَّرى

كانَ لي خيرَ صديقٍ وأخٍ

لَن تَجِد مثلَهُ ما بينَ الوَرَى

عاشَ في الدُّنيا شِهابا ثاقِبًا

يَغمُرُ الآفاقَ فكرًا نَيِّر

زاهدٌ في عيشِهِ لا يَبتغي

من مَتاع العَيشِ إلا الأيسَرا
همُّ أهلِ الأرضِ طُرًّا هَمُّهُ

لا يُبالي أبيَضًا أم أسمَرا

فِكرُهُ الوهّاجُ يَهدي غافِلًا

زاغَ عن دربِ الهُدى أو عَثِرا

رايةُ الثَّورةِ في قَبضَتهِ

تُلهِبُ الأرجاء لونًا أحمَرا

يحمِلُ التَّنوير في جَعبَتِهِ  

يَنثُرُ العيدانَ ما بينَ القُرى

باليَراعِ الفَذُّ كم أهدَى لنا

جَدولًا عَذبًا وكرمًا مُثمِرا

يَغرِفُ الظَّمآنُ من سَلسَلِهِ

فَيُعيدُ العَقلَ حوضًا مُزهِرا

يقطـفُ الـمُرتادُ من أثمارِهِ 

أحرُفًا كالصبحِ لمّا أسفَرا

كانَ في الساحاتِ ليثًا زائرًا

يُحكِمُ القولَ يَزينُ الِمنبَرا

لا يُحابي ظالمًا في غِيِّهِ

لو جَنَى التبرَ وحازَ الدُّرَرا

لا يذوق النوم إلا بُلْغَةً

يَقطَعُ الأميالَ سَيرًا وسُرَى

يذرَعُ الطُّرقات صيفًا وشِتا  

غُدوَةً في سهلها والوعِرا

سِيَرُ الأجدادِ يَستَلهِمُها  

تدفَعُ الكَيدَ إذا خَطبٌ عَرا

عشق الجرمقَ عشقًا جامحًا

فغدا في قلبِه مُستَعمِرا 

كَفُّهُ المِعطاءُ روَّى سفحَه

فاستَحالَ السفحُ لونًا أخضَرا

نَم في ثَرَى الجَرمَقِ يا خَيرَ أخٍ

وطِئَت أقدامُهُ تِلكَ الذُّرى

عَهدُكَ فرضٌ عَلينا صونُهُ

عَهدُ حُرٍّ ينبغي أن يُنصرا

غَرسُكَ الطَّيِّبُ لن نُهملَهُ

سوف نرويه زلالًا كوثَرا

أنت نَـفَّاعٌ ومن سيرَتِك

تَقبِسُ الأجيالُ نورًا للسُّرى


عصام زكي عراف

معليا 

الجليل الغربي  



 

Sunday 13 June 2021

مطران جديد

 مطران جديد، فهل من جديد؟

في السادس عشر من شهر حزيران الجاري للسنة الرابعة عشر بعد الألفين من ميلاد المعلم يسوع المسيح سيجتمع مطارين الطائفة الملكية الكاثوليكية (السينودوس «المقدس») في لبنان لاختيار مطران لأبرشية عكا وحيفا والناصرة وسائر الجليل خلفا للمطران الياس شقور الذي استقال من المنصب في شهر شباط المنصرم بعد أن كَثُرَ التذمر من سلوكه بين أبناء الأبرشية، وقد كانت فترة خدمته من أسوأ ما عرفته الأبرشية حتى اليوم.
لدى طائفة الروم الكاثوليك اليوم أكثر من ثلاثين مطرانا ما بين سالك في الخدمة ومتقاعد أو نائب بطريركي (هذا ما علمته من أحد قدماء الكهنة ولم أجد في موقع البطريركية العدد الدقيق)
سألت نفسي:
«من ذا الذي يرشح الكهنة لهذا المنصب؟ وما هي المزايا التي يجب أن يتحلى بها الكاهن ليكون جديرا بهذه المسؤولية الجسيمة؟ وهل يخضع لاستجواب من قبل لجنة مختصة من غير رجال الدين لكي نعرف إذا ما كان جديرا بتبوّأ هذا المنصب والقيام بتلك الخدمة على أتم وجه؟ (كما يخضع الذين يرشحهم الرئيس الأمريكي لمناصب هامة لأستجواب أعضاء الكونچرس). ما الذي يدور بخَلَدِ كل واحد من هؤلاء المطارين عندما يمنح صوته لأحد المرشحين، وما الذي يجعله يفضِّلُ كاهنا على آخر ليكون مطرانا لأبرشيتنا التعيسة؟ ما هو دور العلاقات الشخصية أو الإغراء والإغواء والترهيب والترغيب؟».
جالت هذه الأسئلة في خاطري لما عاينته وسمعته في الخمسة عقود الأخيرة من تصرفات المطارين الذين يضمن لهم هذا المنصب بأن يكونوا من الذين «يَسأَلون ولأ يُسأَلون»، فبعد أن يكون الواحد منهم كاهنا بمرتب محدود ويكون خاضعا خضوعا شبه تام لمطران أبرشيته يصبح ما غمضة عين وانتباهتها صاحب الأمر والنهي والعقد والحل في الأبرشية التي يولّى عليها في قصر أو على الأقل قُصَيرٍ يحيط به الخدم والحشم الذين يسهرون على راحته ويقتني ما شاء من السيارات الفارهة، ويسافر في مقصورة الدرجة الأولى في الطائرات، وكل ما زار رعية تقام على شرفه المآدب العامرة بكل ما لذ وطاب احتفاءً بقدوم سيادته والكل يتنافس للتقرب منه ففي يديه مفاتيح الملكوت ومفاتيح خزائن الأبرشية معا، فالمقربون المحظوظون ينعمون بنعيم الدنيا والآخرة، لأن قوانين الكنيسة الشرقية تبيح له التصرف بعقارات الوقف والمدارس وغيرها تصرف المالك بملكه فيبيع ويؤجر ويرهن ما شاء بالثمن الذي يرتأيه دون حسيب أو رقيب وهكذا تبخر العديد من الأوقاف في أبرشيتنا دون أن يعلم أحد حق العلم حتى يومنا هذا ماذا كنا نملك وكم بقي لنا منها. والأمر لا ينتهي عند هذا الحد لأن منصبه يتيح له أن يفصل من يشاء من مديرين ومعلمين وموظفين في مدارسنا وأن يعين بدلا منهم من يشاء من الذين نالوا عطفه ورعايته دون غيرهم فانهار مستوى التحصيل العلمي فيها بعد أن كانت قِبلة الطلاب من جميع الطوائف ومن كل حدب وصوب، كما أن معظم الكهنة يخشونه ويطلبون رضاه لأنه يستطيع أن ينقلهم من رعية إلى أخرى حسب ما يشاء، فهو الذي يدفع أجورهم ويتحكم في لقمة عيشهم ويستطيع أن يحوّل حياتهم إلى جحيم إذا غضب على أحدهم فينفيه إلى حيث شاء.
الأسوأ من ذلك كله أنه يستطيع التوجه إلى أصحاب النوايا الحسنة والضمائر الحية في داخل البلاد وخارجها ويستجدي منهم التبرعات باسم المؤمنين القابعين في الأراضي المقدسة ويودع تلك الأموال في حسابه الخاص فيشتري بها من شاء من أراض وعقارات باسمه الخاص وكل ذلك لأن القوانين البائدة أي قوانين «أمّنا» الكنيسة المقدسة تسمح له بذلك.
سؤال آخر يتبادر إلى الذهن:
ما هي نسبة تلاميذ المسيح الحقيقيين من بين الإكليروس؟ بطبيعة الأمر لا أحد يستطيع أن يجيب الجواب الدقيق على هذا السؤال، ولكن من الذي عاينته في الخمسين عاما الأخيرة، أي منذ بلغت أشدي، هم قلة قليلة، أما الغالبية العظمى فأقل ما يقال عنهم أنهم ولّوا يسوع المسيح ظهورهم وخانوه وتنكّروا لرسالته ولا هم لهم سوى اكتناز ما يتيسر لهم ولأقاربهم وكأنهم ذئاب تعيث فسادا حيث ما حلوا ولم يزرعوا في حقل الرب سوى الزؤان والأشواك ولم يغرسوا سوى الأشجار العقيمة التي قال عنها يسوع ما قاله.
الوجود المسيحي في الشرق برمته مهدد بالزوال ومن يرى ما يحدث منذ عهد بعيد لا يسعه إلا أن يقول بأن الزوال الكامل أصبح وشيكا، وما حدث في العراق خير دليل وشاهد حيث أن معظم المسيحيين اضطر للهرب من وطنهم لينجو بنفسه بعد أن أصبح تفجير الكنائس والاعتداء على الأشخاص والأملاك أمرا شائعا وما من نصير، وما يحدث في سوريا لا يقل فظاعة. صحيح أن جميع الطوائف تعاني من الاعتداء على الأبرياء لكن الوجود المسيحي هو الوحيد المهدد بالزوال لأن المعتدي على المسيحي في الشرق لا شيء يردعه في غياب سيادة الدولة وهيمنة قانون الغاب فنحن لا نملك جيوشا، وليس لدينا عصابات مسلحة، أما أن يكون بلاؤنا من داخلنا فهذا مما يعجّل بتقويض وجودنا وفنائنا عن قريب، أما ترون أن عدد أبناء الأبرشيات من جميع الطوائف يتناقص باستمرار في كل مكان؟ الكثير من المسيحيين يقيمون في أوطانهم على مضض، لأن الهجرة غير متيسرة لهم فهل لديكم علم بهذا؟
كان لأبرشيتنا مطران رعاها ما يقرب من أربعين عاما فازدهرت أيما ازدهار حتى أن بعض رعايا إخوتنا من الروم الأرثوذكس تحولوا إلى الكاثوليكية لما رأوا من حسن رعايته الأبوية المخلصة وإنجازاته العمرانية الباهرة وكان أشبه الناس بالمسيح خَلْقاً وخُلُقاً كما قال شاعرنا الكبير وصديقه الحميم خليل مطران عندما هنّأه بيوبيله الفضي:
بورك في خُلقك المليح يا أشبه الخَلق بالمسيح
فأين نحن من هذا كله؟
حتى دير المخلص الذي خرج منه العديد من العظماء من الكتاب والشعراء والخطباء أمثال المطران الحجار والأب نقولا أبو هنا، الذي ترجم حكايات لافونتين إلى العربية شعرا مدهشا، أصبح اليوم ظلا باهتا لماضيه المجيد، كان للمسيحيين في الشرق الفضل الأكبر في النهضة العربية في النصف الثاني من القرن التاسع عشر والنصف الأول من القرن العشرين، فلماذا تقلص وانحسر هذا المد الحضاري الفكري البنّاء ومن هو المسؤول عن ذلك؟
بعض الجواب ولا أقول كله، تجدونه عند أحد عظمائنا، المرحوم الأب نقولا الصايغ الرئيس العام لدير المخلص في القرن الثامن عشر ومن أهم بناة مجدنا في الماضي حيث يقول في مستهل إحدى قصائده:
كَثُرَ العِثارُ بعَثرةِ الرُؤَساءِ وغَوَى الصِغارُ بِغرَّة الكُبَراءِ
لمَّا رأَيتُ الرأسَ وَهوَ مُهشَّمٌ أَيقنتُ منهُ تَهَشُّمَ الأَعضاءِ
إذا استمر الحال في أبرشيتنا على ما هو عليه في العقود الأخيرة من فساد وقدوة سيّئة فلن تقوم لنا قائمة أبدا ويكون السينودس الذي سيلتئم في عين تراز بعد أيام قد دق المسمار الأخير في نعش أبرشية عكا وحيفا والناصرة وسائر الجليل، هذا الجليل الذي بدأ به يسوع رسالته ومنه اختار أول تلاميذه وكان منه أول المؤمنين به، يبدو أنه لن يبقى له فيه أتباع عما قريب.
لست أدري متى ومن سن قوانين الكنيسة، ولكني أراها تتناقض وتعاليم المسيح وسيرته، حبذا لو فرضت الكنيسة على كل من ينوي أن يكون خادما في حقل الرب أن يحفظ ما كتبه جبران خليل جبران عن ظهر قلب فقد أدرك هذا الكاتب والشاعر العظيم سر رسالة يسوع المسيح على حقيقتها (ولذلك ناوأه رجال الكثير من رجال الكنيسة في ذلك الوقت)، ومن يقرأ ما جاء في كتابه "يسوع ابن الإنسان" يعلم حق العلم أن هناك بونا شاسعا بين سيرة المسيح وبين سيرة معظم رجال الكنيسة اليوم وفي الأمس.
حان الحين وآن الأوان لأن نغيّر من قوانين الكنيسة وأنظمتها التي أكل الدهر عليها وشرب، فالماء الراكد يصبح آسنا لا يصلح للشرب، والماء الجاري هو علامة التجدد، ولنأخذ العبرة من برلمانات الدول المتحضِّرة التي تعيد النظر باستمرار في دساتيرها وقوانينها لكي تتناسب مع التطور والتشعب في مناحي الحياة.
كلمة «سينودس» كلمة يونانية الأصل، σύνοδος، مصدرها كلمتان، كلمة سُنْ σύν ومعناها، «معا» وكلمة «هودوس أو أودوس» ὁδός ومعناها طريق، رحلة، أو ممرّ. وتعني جمعية أو مجلس أو لقاء المطارين في الكنائس عامة والكنائس الشرقية الأرثوذكسية والكاثوليكية، خاصة في العصور الحديثة.
عصام زكي عراف
معليا
الجليل الغربي

Monday 31 May 2021

فؤاد جرداق

 


فؤاد سجعان جرداق (1915-1965)
من مواليد بلدة مرج عيون في جنوب لبنان درس في مدرسة بلدته ثم في دير المخلص لكنه ترك الدير وتابع دراسته في المعهد الزراعي في بلدة سليمة في سوريا وتخرج بشهادة هندسة زراعية من المعهد.
عمل في وزارة الزراعة لفترة ثم تركها إثر مشادة مع مديره وانصرف للتعليم فعمل مدرسًا في مدارس عدة منها الجامعة الوطنية في بلدة عاليه، الثانوية الوطنية في جديدة مرجعيون وثانوية بيروت الوطنية، كما عمل في الصحافة.
كان جريئا في كل ما كتب يقول رأيه دون وجل، وقد قبض عليه وأودع السجن أكثر من مرة.
من الجدير بالذكر أن الشاعر جورج جرداق مؤلف الأغنية الشهيرة “هذه ليلتي” التي لحنها محمد عبد الوهاب وغنتها أم كلثوم، هو الأخ الأصغر لفؤاد وقد رعاه فؤاد وعلمه وله الفضل الكبير في نبوغه الشعري.
في القصيدة التالية يصف حال وطنه (ومعظم الأوطان العربية) وصفا بليغا موجعا.
لا أعرف على وجه الدقة عدد أبيات القصيدة بكاملها فقد جمعتها من عدة مصادر أهمها مخطوطة كتبها الصديق العزيز الشاعر نايف سليم نقلا عن رفيق في الحزب الشيوعي اللبناني يدعى أبو نبيل التقاه في برلين.
وطن سراحين الذئاب تسوسه
ماذا يُدِرُّ لشعبه تقديسه
صَمَتَ الأُلى أهل الحصافة والنهى
وتفرّدت بالرأي فيه تيوسه
لم يكف لندنه وما فعلت بنا
اسطنبوله في الجور أو باريسه
عبثت به أيدي الجناة كما به
دبّت جراثيم الخنوع وسوسه
ولقد تطير من الأسى أرواحه
وتثور من جور الولاة نفوسه
هذا بلفَّتِهِ يلفُّ له الأذى
والخبثُ خبَّأه له قَلنوسه
فيَتِلُّه لأمامه محموده
ويشدُّه لورائه طنّوسه
إذ يدَّعي أن الإله سميره
وسواه إبليس اللعين جليسه
كذب الجميع مشعوذين وقد سرت
عن مثلهم غرر الهدى وشموسه
فالكائنات لها إله واحد
قد جل عن إدراكهم ناموسه
وزراؤه أوزاره ناءت بهم
من شدة الألم المبرِّح عيسه
وكذاك نواب البلاد نوائب
نزلت فزاد من الأذى كابوسه
تنساب في جلساته أذنابه
وتظل في شعب الوهاد رؤوسه
وطن بلا عرض بلا طول بلا
عمق بلا جرم فكيف أقيسه
المال عند بخيله والسيف عند
جبانه والمومسات تسوسه
بالحق من بعد العنا اعترفت لنا
برلينه وتنازلت باريسه
قل للمكابر بالحقائق إننا
حزب مخضَّبة الحديد عروسه
فالثورة الحمراء أنجع خطة
لنجاح شعب كافر قديسه
جَلَساته أي أماكنه المرتفعة